الأمر الأوّل فی تحریر محل النزاع
وقبل الخوض فی تحریر محلّ النزاع وإقامـة الدلیل نمهِّد مقدّمةً ، وهی : أنّـه لا إشکال فی أنّـه إذا أراد الإنسان شیئاً لـه مقدّمـة أو مقدّمات فلا محالـة تتعلّق إرادة اُخریٰ بإتیان المقدّمات ، وهذه الإرادة المتعلّقـة بالمقدّمات لیست مترشّحةً من الإرادة المتعلّقـة بإتیان ذی المقدّمـة بمعنیٰ أنّـه کما تکون الإرادة علّةً فاعلیّة لتحقّق المراد فی الخارج کذلک تکون موجدةً لإرادة اُخریٰ مثلها متعلّقـة بمقدّمات المراد الأوّلی ، بل کما أنّ الإرادة المتعلّقـة بالغرض الأقصیٰ والمطلوب الأوّلی ـ کلقاء الصدیق مثلاً ـ مخلوقـة للنفس ومتحقّقـة بفعّالیتها کذلک الإرادة المتعلّقـة بالمقدّمات ـ کالذهاب إلیٰ داره مثلاً ـ موجدة بفاعلیـة النفس ، غایـة الأمر أنّ الاشتیاق الحاصل بالمراد إنّما هو متعلّق بنفس المراد فیما
[[page 15]]لو کان هو الغرض الأقصیٰ والمطلوب الأصلی ومتعلّق بما یکون المراد من شرائط وجود شیء آخر فیما لم یکن المراد هو المنظور إلیـه بالذات .
وبالجملـة فالفائدة المترتّبـة علی المراد ، التی هی من شرائط تحقّق الإرادة إنّما هی مترتّبـة علیٰ نفس المراد فی الصورة الاُولیٰ ، ومترتّبـة علیٰ شیء آخر یکون المراد دخیلاً فی تحقّقـه فی الإرادة المتعلّقـة بالمقدّمات .
هذا فیما لو کان الغرض الإتیان بالفعل بنفسـه ، وأمّا لو کان المقصود إتیان العبد بـه بتوسیط الأمر فهنا شیئان : البعث والتحریک الصادر من المولیٰ بسبب الأمر والإرادة المتعلّقـة بهذا البعث .
إذا عرفت ما ذکرنا ، فنقول : لایخفیٰ أنّ ما ذکره المحقّقین من الاُصولیّین من أنّ النزاع فی باب المقدّمـة إنّما هو فی الملازمـة لا فی وجوبها لتکون المسألـة فقهیّةً یحتمل أن یکون المراد بها الملازمة بین البعث الفعلی المتعلّق بذی المقدّمـة وبین البعث الفعلی نحو المقدّمـة ، وأن یکون المراد الملازمـة بینـه وبین البعث التقدیری نحو المقدّمـة بمعنیٰ أنّ المقدّمـة یتعلّق بها البعث فی الاستقبال لامحالـة وإن لم یتعلّق بها فعلاً ، وأن یکون المراد الملازمـة بین الإرادة الحتمیّـة الفعلیّـة المتعلّقـة بالبعث إلیٰ ذی المقدّمـة وبین الإرادة الفعلیّـة المتعلّقـة بالبعث إلی المقدّمـة ، وأن یکون المراد الملازمـة بینها وبین الإرادة التقدیریـة المتعلّقـة بالبعث إلی المقدّمـة .
وکلٌّ من هذه الاحتمالات المتصوّرة ممّا لایمکن أن یکون محلاًّ للنزاع ومورداً للنقض والإبرام .
[[page 16]]أمّا الأوّل : فلأنّـه من الواضح عدم کون کثیر من المقدّمات بل جمیعها مبعوثاً إلیها بمجرّد البعث إلیٰ ذی المقدّمـة .
وأمّا الثانی : فلأنّـه لامعنیٰ ـ بناءً علیـه ـ للقول بالملازمـة ؛ إذ لایعقل تحقّق الملازمـة الفعلیّـة بین المتلازمین اللّذین أحدهما موجود بالفعل والآخر موجود بالتقدیر بمعنیٰ أنّـه لم یوجد بعدُ وسیوجد فی الاستقبال ؛ إذ الملازمـة من قبیل الاُبوّة والبنوّة ، فکما أنّـه لایعقل تحقّق الاُبوّة للشخص الذی یصیر ذا ولد فی الاستقبال للتضایف الحاصل بینها وبین البنوّة ، ومن شأن المتضایفین عدم إمکان الانفکاک بینهما فی الوجود الخارجی بل الوجود الذهنی ، کذلک تحقّق الملازمـة الفعلیـة وثبوتها بین الشیئین متوقّف علیٰ تحقّقهما فی الخارج وثبوتهما بالفعل ، وهذا واضح جدّاً .
وأمّا الثالث : فلأنّـه کثیراً ما یکون جمیع المقدّمات أو بعضها مغفولاً عنها ، وحینئذٍ فلایمکن تعلّق الإرادة بالبعث إلیها ؛ إذْ لایعقل أن یکون المراد مغفولاً عنـه .
وقد عرفت بما مهّدناه لک : أنّ الإرادة المتعلّقـة بالمقدّمات إنّما تتحقّق بفعّالیـة النفس ، ولیست مترشّحةً وموجدةً بالإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة ، فراجع ، وحینئذٍ فلایعقل أن یکون الشیء متّصفاً بأنّـه مراد مع کونـه مغفولاً عنـه بالنسبـة إلی المرید ، کیف ومن مقدّمات الإرادة تصوّر الشیء والتصدیق بفائدتـه والاشتیاق إلیـه ، ولایمکن اجتماع هذه مع الغفلـة أصلاً ، کما هو واضح لایخفیٰ .
وأمّا الرابع : فلما ذکر فی الاحتمال الثانی من أنّـه یستحیل تحقّق الملازمـة بین الموجود بالفعل والموجود بالتقدیر .
فانقدح بما ذکرنا : أنّ جعل النزاع فی الملازمـة بالوجوه المذکورة ممّا لاوجـه لـه ؛ إذ لایمکن أن یکون ذلک محلّ النزاع ، کما عرفت .
[[page 17]]والتحقیق أن یقال : إنّ محلّ الکلام ومورد النقض والإبرام هی الملازمـة بین الإرادة الفعلیـة المتعلّقـة بذی المقدّمـة وبین الإرادة الفعلیـة المتعلّقـة بما یراه المرید مقدّمـة .
توضیح ذلک : أنّـه لاشبهـة فی أنّ الإرادة قد تتعلّق بما لایترتّب علیـه فائدة بل ربّما یرجع بسببـه ضرر إلی الفاعل المرید ، ولیس ذلک إلاّ لکون المرید معتقداً بترتّب فائدة علیـه ، کما أنّـه قد یأبیٰ عن الإتیان بفعل بتخیّل أن المترتّب علیـه ضرر راجع إلیـه مع کونـه فی الواقع ذا نفع عائد إلیـه .
وبالجملـة فالإنسان ربّما یشتاق إلیٰ فعل ؛ لتخیّلـه أنّـه ذو نفع فیریده ، وربّما ینزجر عن فعل آخر ؛ لتوهّمـه أنّـه بلا نفع ، فینصرف عنـه ، مع أنّ الأمر فی الواقع بالعکس ، فلیس تحقّق الإرادة متوقّفاً علی النفع الواقعی ، وعدمها علیٰ عدمـه .
هذا فی الإرادة المتعلّقـة بنفس الفعل ، وأمّا الإرادة المتعلّقـة بالمقدّمات فهی أیضاً کذلک بمعنیٰ أنّـه قد یتخیّل المرید بأنّ مراده متوقّف علیٰ شیء فیریده مع أنّـه لم یکن من شرائط وجوده فی الواقع ، کما أنّـه ربّما لایرید المقدّمات الواقعیـة ؛ لتوهّمـه أنّها لاتکون مقدّمات .
هذا فی إرادة الفاعل ، وأمّا الآمر : فإذا أمر بشیء لـه مقدّمات ، فالنزاع واقع فی تحقّق الملازمـة بین الإرادة المتعلّقـة بذی المقدّمـة وبین الإرادة المتعلّقـة بما یراه مقدّمـة لا المقدّمات الواقعیـة .
نعم لو أخطأ فی تشخیص المقدّمات ، فیجب علی العبد تحصیل المقدّمات الواقعیـة مع علمـه بخطأ المولیٰ لا من باب تعلّق إرادة المولیٰ بالمقدّمات الواقعیـة ، کیف وهی غیر متوجهـة إلیها ، فلایمکن أن تصیر مرادةً ، بل من باب وجوب تحصیل غرض المولیٰ مع الاطّلاع علیـه وإن لم یتعلّق بـه أمر أصلاً .
[[page 18]]هذا ، وحیث إنّ العمدة فی مورد البحث هی المقدّمات الشرعیـة ، ومن المعلوم أنّ ما یراه الشارع مقدّمـة لیس متخلّفاً عن الواقع ، فیصحّ النزاع فی الملازمـة بین الإرادة المتعلّقـة بذی المقدّمـة وبین الإرادة المتعلّقـة بالمقدّمات الواقعیـة .
هذا غایـة ما یمکن أن یقال فی تحریر محلّ النزاع .
[[page 19]]