[[page 3]]
[[page 4]]
مقدّمـة التحقیق
بسم اللّٰـه الرحمن الرحیم
الحمد للّٰـه ربّ العالمین ، والصلاة والسّلام علیٰ أشرف الأنبیاء والمرسلین محمّد وعلی آلـه الطیّبین الطاهرین ، واللعن المؤبّد علی أعدائهم أجمعین .
لم یعد خافیاً علیٰ أحد ما لعلم الفقـه من أهمّیـة عظمیٰ ودخالـة مباشرة فی الحیاة العملیـة للفرد المسلم ، وفی برمجـة مواقفـه الفردیـة والاجتماعیـة ، فـ «ما من واقعـة إلاّ وللّٰـه سبحانـه فیها حکم» «ولم یدع شیئاً تحتاج إلیـه الاُمّـة إلاّ أنزلـه فی کتابـه وبیّنـه لرسولـه» .
فلا غرو إن توسّع هذا العلم ، وکثرت مطالبـه ، وتطوّرت أبحاثـه بنحو تنسجم ومعطیات الواقع المعاصر ؛ ذلک أنّ الاجتهاد لم یؤصد بابـه عند معاشر الإمامیـة ـ کثّرهم اللّٰـه ـ ولم یبقَ حِکراً علی طائفـة من الفقهاء المتقدّمین ، فکم ترک الأوائل للأواخر ! ولهذا بلغ الفقـه الإمامی الذروة من حیث الدقّـة والتحقیق والسعـة والشمولیـة .
ویبدو هذا واضحاً جلیاً بمقایسـة علم الفقـه بسائر العلوم الإسلامیـة التی
[[page 5]]ولدت معـه ، کالنحو والصرف وغیرهما ، فبینما لزمت أمثال هذه العلوم سمـة الجمود والتحجّر ، نجد علم الفقـه بدیعاً فی مسالکـه ، قشیباً فی أدلّتـه ، وما من یوم یمضی إلاّویزداد حداثـة وغضارة ، وذلک بفتح باب الاجتهاد والاستنباط عندنا .
هذا ، وترتکز عملیـة الاستنباط من الکتاب والسنّـة علی مقدّمات عدیدة وکثیرة ، کعلم الاُصول والرجال والمنطق واللغـة . . . حیث یقوم کلّ منها بدوره فی الاستنباط ، إلاّ أنّ لعلم الاُصول عنصر الصدارة من بینها ، بل لولاه لما تمکّن الفقیـه من الاستدلال ، ولهذا أولاه علماؤنا عنایـة فائقـة من بین سائر المقدّمات الدخیلـة فی الاستنباط ، باذلین فی تحقیقـه جهوداً خلاّقـة وأوقاتٍ شریفـة .
وقد تمخّضت هذه الجهود عن علم یفوق جمیع العلوم العقلیـة والنقلیـة فی شمولیتـه واستیعابـه ، وصلابتـه واستحکامـه ، وعذوبتـه واسترسالـه ، وتوسّع توسّعاً کبیراً علیٰ ید المبتکرین والمفکّرین من علمائـه الذین أفردوا لـه دوائر عدیدة وموسوعاتٍ کبیرة .
ومن جانب آخر فقد بعدت أفکاره عن المنال ، وعزّت عرائس أفکاره علیٰ عقول الرجال ؛ نتیجةً لممارسة العباقرة لهذا العلم ومدارستهم لـه ، فکان من الطبیعی أن یظهر علی الجانب المعاکس تیّاران :
أحدهما : یهدف إلی تقلیص هذا العلم وتلخیصـه ، وحذف زوائده وفضولـه ، ویعدّ المحقّق صاحب «الکفایـة» رحمه الله المؤسّس لهذا التیّار . إلاّ أنّـه ـ وللأسف ـ راح الوضوح والبیان ضحیةَ التلخیص ، وتعقدّت «الکفایة» وصعب فهمها ، ونشأ عن هذا الکثیر من الشروح والحواشی التی لاتعبّر إلاّ عن رأی مؤلّفیها فی غالب الأحیان ، والتی یقرنها أربابها بقولهم : «لعلّ مراده قدس سره کذا» أو «یحتمل کذا» ولو علم المحقّق الخراسانی رحمه الله بالسلسلـة الطویلـة من الشروح التی أحدثتها
[[page 6]]وتحدثها «کفایتـه» وعلم بما سیعانیـه دارسوها ومدرّسوها، لما اختصرها ولا اختزلها ، ولکتبها موسّعـة مسهبـة ، کاشفاً عن قناعها ؛ فإنّ طلسمـة کتاب دراسی أمر مرغوب عنـه عند مربّی الأجیال .
وثانیهما : التیّار الداعی إلی الحدّ من وضع المصطلحات الجدیدة ، وإلی بیان جمیع المقدّمات الدخیلـة فی فهم المطالب الاُصولیـة . وهذا لایعنی الدعوة إلی الإطناب المملّ ولا الإیجاز المخلّ ، کما هو واضح . وتعدّ مدرسـة المحقّق النائینی رحمه الله خیر مثال لهذا التیّار البلیغ ؛ حیث تظهر روح مطالبها مجسّدة بقالب من الألفاظ الفصیحـة البلیغـة .
ومع کلّ المزایا التی تجلّت فی مدرستی العلاّمتین الخراسانی والنائینی رحمهماالله فقد انطوتا فی بعض مواضعهما علی الخلط بین التکوین والتشریع ، والوحدة الحقیقیـة والوحدة الاعتباریـة ، وعلیٰ عدم الوصول إلیٰ مغزیٰ بعض المسائل الفلسفیـة التی جعلت أساساً للمسألـة الاُصولیـة ، فجاء الدور لمدرسـة السیّد الإمام الخمینی ـ أعلی اللّٰـه مقامـه الشریف ـ لیضع حدّاً فاصلاً بین الحقیقـة والاعتبار فی المسائل الاُصولیـة ، ففیها ما یحکّم فیـه العرف الساذج وإن خالف الدقّـة العقلیـة والبراهین الفلسفیـة ، وفیها ما یرجع فیـه إلی المبانی الفلسفیـة والحکمـة المتعالیـة ، فالإفراط والتفریط فی الاتکاء علی علم المعقول ، کلاهما علی جانب کبیر من الخطأ .
ونظراً لرسوخ الإمام العلاّمـة فی الحکمـة وإحاطتـه ببواطن اُمورها وخفیّات مسائلها ، لذا أبان الکثیر منها عند مساس الحاجـة إلیها ، ففی مبحث تعلّق الأوامر بالطبائع أو الأفراد لم یوافق المحقّق الخراسانی علی التمسّک بقاعدة «الماهیـة من حیث هی لیست إلاّ هی» مشیراً إلی أنّ منظور الحکماء بهذه
[[page 7]]القضیـة هو الحمل الأوّلی الذاتی ، لا الشائع الصناعی الذی هو مقصود الاُصولی .
کما لم یسلّم ما هو المعروف بین الفلاسفـة والاُصولیّین من اعتباریـة تقسیم الماهیـة والأجناس والفصول ، ذاهباً إلیٰ أنّ تقسیم الماهیـة إلیٰ أقسامها الثلاثـة إنّما یکون بلحاظ الواقع ونفس الأمر ؛ إذ مجرّد اعتبار شیء لابشرط ، لایوجب انقلاب الواقع وصیرورة الشیء قابلاً للاتحاد والحمل ، کما أنّ اعتباره بشرط لا ، لایحدث المغایرة ولایمنع الحمل ، وإلاّ لاختلف الواقع بحسب الاعتبار ، ولصارت ماهیـة واحدة متحدة مع شیء وغیر متحدة معـه بعینـه ، وهو واضح البطلان ، وعلی ضوء هذه الدقـة بحث عن المراد من المادّة والصورة والفرق بینهما وبین الجنس والفصل وأبدی الخلط الواقع فی کلام الحکماء فی المسألـة .
ومن المسائل التی برع فی تحقیقها تحقیقاً حکمیاً المسألـة المعروفـة التی شغلت بال الفلاسفـة والاُصولیین ؛ أعنی مسألـة الطلب والإرادة ، حیث أفرد لها رسالـة مستقلّـة ، وأفرغ فیها من ذوقـه المتألّـه ما یعجز عن نیلـه أکابر الفلاسفـة والحکماء و«ذٰلِکَ فَضْلُ اللّٰهِ یُؤْتِیهِ مَنْ یَشٰاءُ» وقد قامت المؤسّسـة بتحقیقها ، وسیتمّ طبعها فی القریب العاجل إن شاء اللّٰـه تعالی .
وهناک شواهد اُخری کثیرة لم یسعنا استقصاؤها فی هذه العجالـة ، یظهر منها أنّ الإمام الخالد رحمه الله قد أرسی قواعد مدرستـه الاُصولیـة علیٰ رکائز من الحکمـة المتعالیـة ، فلئن عبثت ید الطاغوت بتراث الإمام الفلسفی ، ولم ینجُ منها إلاّ النزر الیسیر ، ففی أبحاثـه الاُصولیـة معالم لمدرستـه الفلسفیـة ، وفیها ضالّـة الفیلسوف وبغیـة العارف .
هذا ، والمدرسـة الخمینیـة شجرة طیّبـة ؛ آتت اُکلها کلّ حین بإذن ربّها ، وتخرّج منها الکثیر من العلماء والمحقّقین ومراجع الدین العاملین ـ أیّدهم اللّٰـه
[[page 8]]تعالی ـ نخصّ منهم بالذکر هنا : آیـة اللّٰـه العظمی المحقّق المجاهد الشیخ الفاضل اللنکرانی ـ أدام اللّٰـه أیّام عوائده ـ حیث لازم الإمام الراحل ـ طاب ثراه ـ سنوات عدیدة ، ونهل من معینـه العذب فقهاً واُصولاً ، وکتب الکثیر من الأبحاث الراقیـة التی أفاضها الإمام العظیم رحمه الله أثناء إقامتـه بمدینـة قم المشرّفـة ، فجاءت تقریراتـه آیـة فی وضوحها وسلاستها ، ومثالاً فی تجرّدها من الزوائد والفضول ، لذا آثرت مؤسّسـة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمینی قدس سره نشر ما التقطـه دام ظلّـه من لآلئ بحث اُستاذه رحمه الله فی الاُصول ، رغم عدم تمامیتـه أوّلاً وآخراً ؛ لما رأتـه من المزیـة التی تفرّد بها سماحـة العلاّمـة الحجّـة الفاضل حفظـه اللّٰـه سائلةً لجنابـه دوام الصحّة والعمر المدید ؛ إنّـه سمیع مجیب .
مؤسّسـة تنظیم ونشر آثار الإمام الخمینی قدس سره
فرع قم المقدّسـة
[[page 9]]
[[page 10]]
بسم اللّٰـه الرحمن الرحیم
الحمد للّٰـه ربّ العالمین ، والصلاة والسّلام علیٰ خیر خلقـه محمّد وعلیٰ آلـه الطیّبین الطاهرین ، ولعنـة اللّٰـه علیٰ أعدائهم أجمعین إلیٰ یوم الدین
[[page 11]]
[[page 12]]