الکلام حول آیة الابتلاء
وأمّا الآیة فقوله تعالی: (وَابْتَلُوا الْیَتَامَی حَتَّی إِذَا بَلَغُوا النِّکَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَیْهِمْ أمْوَالَهُمْ وَلا تَأکُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أنْ یَکْبَرُوا وَمَن کَانَ غَنِیّاً فَلْیَسْتَعْفِفْ وَمَن کَانَ فَقِیراً فَلْیَأکُلْ بِالْمَعْرُوفِ).
وللآیة بحسب مقام التصوّر احتمالات:
أحدها: أن یکون (حَتَّی إِذَا بَلَغُوا) نظیر قوله: جاء الحاجّ حتّی المشاة، فیکون المعنی: وابتلوا الیتامی حتّی بعد بلوغهم، فلیس البلوغ غایة للابتلاء، بل ظرف له أیضاً، فیجب الاختبار من زمان احتمال الرشد إلی ما بعد البلوغ، فإن اُونس منه الرشد قبل البلوغ أو بعده، فیدفع إلیه ماله، وعلیه یکون المیزان والموضوع استیناس الرشد، ولا دخل للبلوغ فیه. ویؤیّد هذا الاحتمال ذیل الآیة؛ وهو قوله تعالی: (وَلا تَأکُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أن یَکْبَرُوا)؛ یعنی لا تأکلوا أموالهم مبادرة لکبرهم؛ بأن ینتظروا البلوغ فیأکلوها، بل إن استونس منه الرشد یجب الدفع ولو کان قبله.
الثانی: کون حتّی للغایة، فمن زمان احتمال الرشد إلی زمان البلوغ ظرف للاختبار والابتلاء، ففی هذا الظرف من الزمان متی اُونس منه رشداً یدفع المال
[[page 255]]إلیه، وأمّا إذا بلغ النکاح فلا یحتاج إلی الاختبار، فیکون الموضوع أحداً من الرشد والبلوغ.
ثمّ إن کان الغالب فی البالغین هو الرشد بحسب النوع، فیمکن أن یقال: بأنّ البلوغ أمارة علی الرشد، حیث کان الغالب نوعاً کذلک وعلیه، فالمیزان علی هذا الاحتمال أیضاً هو الرشد، ولکن یحتاج إلی الابتلاء قبل البلوغ ولا یحتاج إلیه بعده؛ لأماریة البلوغ له.
الثالث: أنّ البلوغ غایة للابتلاء، ولکن یستمرّ الاختبار من حین احتمال الرشد إلی البلوغ، ثمّ عند حصول البلوغ قد یکون رشیداً وقد لا یکون، فإن کان رشیداً، فیدفع إلیه ماله، وإلا فلا، فالموضوع لدفع المال کلا الأمرین، وذلک أنّ قضیّة دفع الأموال وتمیّز الفطن من غیره فی إصلاح المال وتقلیبه ومصرفه وغیر ذلک من شؤون التصرّفات المالیة، وتشخیص المصالح من المفاسد أمر مشکل لا یعلم حال الطفل بالنسبة إلیه بقضیّة واحدة، مثل شراء شی ء أو بیع شی ء، بل یحتاج إلی زمان طویل ومضیّ أیّام وحالات یختبر فیها رشده، ولا یمکن ذلک بعد البلوغ؛ للزوم حبس المال فی تلک المدّة مع فرض بلوغه، فلذا جعل ظرف الامتحان قبله مستمرّاً إلی بعد البلوغ.
الرابع: جعل (حتّی) ابتدائیة والجملة عقیبها ـ شرطاً وجزاءً ـ علّة للابتلاء؛ نظیر أسلم حتّی تدخل الجنّة، فالمعنی: وابتلوا حتّی یدفع إلیهم المال إن آنستم منهم رشداً بعد البلوغ، والمستفاد منه من المعنی عین الثالث.
وقد یقال فی مقام الاستظهار من الآیة: بأنّ الظاهر هو الثالث؛ بوجهین:
الأوّل: فلأنّه سبحانه لمّا أمر بإیتاء الأیتام أموالهم بقوله عزّ شأنه: (وَآتُوا
[[page 256]]الْیَتَامَی أمْوَالَهُمْ) ونهی عن دفع المال إلی السفیه بقوله: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أمْوَالَکُمْ) بیّن الحدّ الفاصل بین ما یحلّ ذلک للولیّ وبین ما لا یحلّ، فجعل لجواز الدفع شرطین البلوغ وإیناس الرشد، فلا یجوز قبلهما.
والثانی: أنّه لو لم یکن قوله: (فَادْفَعُوا) تفریعاً علی إحراز الرشد بعد البلوغ لم یکن وجه لجعل غایة الابتلاء هو البلوغ، وکان المناسب أن یقال: وابتلوا الیتامی فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إلیهم أموالهم.
نقول: لا نعرف وجهاً فی الآیتین لترجیح هذا الاحتمال، بل لو کان فیستفاد منها ترجیح الاحتمال الثانی فی کلامنا الذی هو الأوّل فی کلامه رحمه الله؛ إذ المستفاد من قوله: (وَآتُوا الْیَتَامَی أمْوَالَهُمْ) وجوب إیتاء الیتامی أموالهم، ومقتضی قوله: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أمْوَالَکُمْ) بناءً علی أن یکون المعنی: أموالهم ـ کما قیل ـ عدم جواز إعطاء من لیس برشید منهم ماله، فیستفاد منها أنّ المیزان عدم وجود السفه ووجود الرشد فی الیتم، وبیّن سبحانه طریق تمیّز الرشد من غیره فی الآیة، فضمّ الآیتین بآیة الابتلاء یفید أنّ المیزان لیس إلا الرشد، فیرجّح الثانی، ولا ینافی کون البلوغ میزاناً آخر؛ إذ الموضوع فی الآیات هو الیتم، وهو غیر البالغ، فلا ینافی جعل البلوغ موضوعاً آخر.
وأمّا الثانی فقد عرفت أنّ فائدة الغایة فی قوله: (حَتَّی إِذَا بَلَغُوا) علی هذا الاحتمال انتهاء لزوم الاختبار وأمده، ولازمه عدم اعتباره بعد البلوغ، فیدفع إلیه بدونه فرضاً.
[[page 257]]والتحقیق أنّ الاحتمال الأوّل والرابع بعید، وأنّ الثانی والثالث أقرب من بین الأربعة، وکذا أقربیّة الثالث من الثانی، لکن لا لما ذکر، بل لأنّ الظاهر من الغایة أنّ ما قبل الغایة لیس ظرفاً لوجود المغیّی، أعنی الابتلاء؛ بحیث یکفی صرف الوجود فیه مع تحقّق شرطه؛ أی استیناس الرشد، بل یلزم استمراره من زمان یمکن رشدهم فیه إلی زمان بلوغهم.
وبالجملة: ظاهر الغایة هو الاستمرار من ذلک الزمان إلی أن ینتهی إلی البلوغ والوجه فیه هو ما ذکرنا من الاحتیاج بمثل هذا الزمان لمثله.
ویستفاد منها استمرار ولایة الأب أو الجدّ بعد البلوغ لو کان سفیهاً وعدم رفع أمره إلی الحاکم.
[[page 258]]