ادلّـة وجوب الفحص
أمّا البراءة العقلیّـة التی مدرکها قبح العقاب بلا بیان والمؤاخذة بلا برهان فلا إشکال فی اعتبار الفحص فیها ، لأنّها متفرّعـة علی عدم البیان ، والمراد بـه وإن کان هو البیان الواصل إلی المکلّف جزماً ، إلاّ أنّ مناط الوصول لیس هو أن یُعلم المولی کلّ واحد من المکلّفین بحیث یسمعـه کلّ واحد منهم ، بل وصولـه یختلف حسب اختلاف الموالی والعبید .
فالمولی المقنّن للقوانین العامّـة الثابتـة علی جمیع المکلّفین یکون إیصالـه للأحکام من الأوامر والنواهی إنّما هو بإرسال الرسل وإنزال الکتب ثمّ الأحادیث المرویّـة عن أنبیائـه وأوصیائهم المحفوظـة فی الکتب التی بأیدی المکلّفین ، بحیث یتمکّن کـلّ واحـد منهم مـن المراجعـة إلیها والاطّلاع علی
[[page 305]]أحکام اللّٰه جلّ شأنـه . وحینئذٍ : فالملاک فی تحقّق البیان الذی لا یقبح العقاب والمؤاخذة معـه هو أنّ أمر اللّٰه تعالی رسولـه بتبلیغـه وقـد بلّغـه الرسول علی نحو المتعارف وصار مضبوطاً فی الکتب المعدّة لـه ، ومـع فقدان أحـد هـذه الشروط یصدق عدم البیان ویقبح العقاب معـه . وحینئذٍ فمع احتمال المکلّف ثبوت التکلیف المبیّن الـواصل بحیث لـو فحص لظفـر بـه لا یجـوز الاعتماد علی البراءة التی مدرکها قبح العقاب بلا بیان ، کما أنّ العبد العرفی لو وصل إلیـه مکتوب من ناحیـة مولاه واحتمل أن یکون المکتوب متضمّناً لبعض التکالیف لا یجـوز لـه القعود عنـه بعد عـدم المراجعـة إلیـه استناداً إلـی أنّ المولی لم یبیّن حکمـه ، ولا یکون مثل هـذا العبد معذوراً عند العقلاء جـزماً ، کما هـو غیر خفی .
ثمّ إنّـه قد یستشکل فی وجوب الفحص وعدم جریان البراءة قبلـه بأنّ الحکم ما لم یتّصف بوصف المعلومیّـة لا یکون باعثاً ومحرِّکاً ، ضرورة أنّ البعث بوجوده الواقعی لا یصلح للمحرّکیـة ، وإلاّ لکان اللازم تحقّق الانبعاث بالنسبـة إلی الجاهل بـه المعتقد عدمـه ، بل قد عرفت سابقاً أنّـه لا یعقل أن یکون الانبعاث مسبّباً عـن البعث الواقعی ، بل الانبعاث دائماً مسبّب عـن البعث بوجوده العلمی الذی هی الصورة الذهنیـة الکاشفـة عنـه ، والأوامـر إنّما تتّصف بالباعثیّـة والمحرّکیـة بالعرض ، کما أنّ اتّصافها بوصف المعلومیـة أیضاً کذلک ، ضرورة أنّ المعلوم بالـذات ، إنّما هـی نفس الصورة الحاضـرة عند النفس ، کما حقّق فی محلّـه .
[[page 306]]وبالجملـة : فالبعث الواقعی لا یکون باعثاً ما لم یصر مکشوفاً ، والکاشف عنـه إنّما هو العلم ونحوه . وأمّا الاحتمال فلا یعقل أن یکون کاشفاً ، وإلاّ لکان اللازم أن یکشف عن طرفی الوجود والعدم ، کما هو واضح . فمع الاحتمال لا یکون البعث الواقعی باعثاً ومحرّکاً ، وبدون الباعثیّـة لا یمکن أن یکون منجّزاً ، ومع عدم التنجّز لا وجـه لاستحقاق العقوبـة علی مخالفتـه ، وهذا بلا فرق بین کون المکلّف قادراً علی الفحص وعدمـه .
ویرد علیـه أوّلاً : النقض بما إذا قامت الحجّـة المعتبرة من قبل المولی علی ثبوت التکلیف وفرض عدم إفادتها الظنِّ، بل کان التکلیف مع قیام الأمارة أیضاً مشکوکاً أو مظنون الخلاف ، فإنّـه یجری فیـه هذا الإشکال ، ومقتضاه حینئذٍ عدم ثبوت العقاب علی مخالفتـه علی تقدیر ثبوتـه فی الواقع ، مع أنّـه واضح البطلان ، وإلاّ یلزم لغویّـة اعتبار الأمارة ، کما هو واضح ، مضافاً إلی أنّـه لا یلتزم بـه المستشکل أیضاً .
وثانیاً : الحلّ بأنّـه لا نسلّم أن یکون المنجّزیّـة متفرّعـة علی الباعثیّـة ، لأنّ المنجّزیـة الراجعـة إلی صحّـة عقوبـة المولی علی المخالفـة والعصیان حکم عقلی ، وقد عرفت أنّ العقل یحکم بعدم المعذوریّـة وبصحّـة العقوبـة لو بیّن المولی التکلیف بنحو المتعارف ، بحیث کان العبد متمکّناً من الاطّلاع علیـه بالمراجعـة إلی مظانّ ثبوتـه ولم یراجع ، فخالف اعتماداً علی البراءة کما عرفت فی مثال المکتوب الواصل من المولی إلی العبد ویحتمل اشتمالـه علی بعض التکالیف ، والظاهر أنّ هذا من الوضوح بمکان ، فلا موقع لهذا الإشکال .
ثمّ إنّـه قد یقرّر وجوب الفحص بوجـه آخر ، ومحصّلـه : أنّ ارتکاب التحریم قبل الفحص والمراجعـة إلی مظانّ ثبوتـه ظلم علی المولی ، والظلم خصوصاً
[[page 307]]علی المولی قبیح محرّم ، فلو اقتحم فی المشتبـه قبل الفحص یستحقّ العقوبـة لأجل الظلم علی المولی ، کما أنّـه فی موارد التجرّی یستحقّ العقوبـة علیـه وإن کان لا یستحقّ العقوبـة علی مخالفـة الواقع فی المقامین .
ویرد علیـه : أنّ تحقّق عنوان الظلم فی المقام لیس إلاّ من جهـة احتمال حصول المخالفـة بالاقتحام فی المشتبـه ، ضرورة أنّـه مع العلم بعدم وجود التکلیف فی البین لا یکون مجرّد ترک الفحص من مصادیق ذلک العنوان ، فترک الفحص وارتکاب محتمل التحریم إنّما یکون ظلماً لأجل احتمال تحقّق المخالفـة التی هی قبیحـة موجبـة لاستحقاق العقوبـة .
وحینئذٍ نقول : بعد جریان حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان ولو قبل ترک الفحص ـ کما هو المفروض ـ لا یبقی مجال لاحتمال تحقّق المخالفـة القبیحـة أصلاً ومع انتفاء هذا الاحتمال یخرج المقام عن تحت عنوان الظلم علی المولی ، کما هو واضح .
ومن هنا یظهر الفرق بین المقام وبین مسألـة التجرّی : فإنّ الموضوع للحکم بالقبح والحرمـة هناک علی تقدیر ثبوتـه إنّما هو نفس عنوان التجرّی ، الراجع إلی الطغیان علی المولی والخروج عن رسم الرقیّـة والعبودیّـة ، وهذا لا یتوقّف تحقّقـه علی ثبوت التکلیف ، بل یصدق علی کلا التقدیرین ، بخلاف المقام . فإنّ تحقّق عنوان الظلم یتوقّف علی عدم حکم العقل بقبح العقاب ولو قبل الفحص ، والمفروض حکمـه بذلک مطلقاً ، فتدبّر ، هذا .
وقد یقرّر حکم العقل بوجوب الفحص بوجـه ثالث وهو : أنّ کلّ من التفت إلی المبدء والشریعـة یعلم إجمالاً بثبوت أحکام فیها ، ومقتضی العلم الإجمالی هو الفحص عن تلک الأحکام .
[[page 308]]ولا یخفی ضعف هذا الوجـه ، لأنّ الکلام إنّما هو فی شرائط جریان أصل البراءة بعد کون المورد المفروض مجری لها ، وقد عرفت أنّ مجریها هو الشکّ فی أصل التکلیف وعدم العلم بـه لا إجمالاً ولا تفصیلاً . فلو فرض ثبوت العلم الإجمالی یخرج المورد عن مجریها ، فالتمسّک لاعتبار وجوب الفحص فی جریانها بالعلم الإجمالی لا یبقی لـه موقع أصلاً ، کما هو أظهر من أن یخفی . ولکن حیث إنّـه وقع مورداً للنقض والإبرام بین الأعلام فلا مانع من التعرّض لحالـه بما یسعـه المقام ، فنقول :
قد نوقش فی الاستدلال بالعلم الإجمالی لوجوب الفحص تارةً : بأنّـه أخصّ من المدّعی ، لأنّ المدّعی هو وجوب الفحص والاستعلام فی کلّ مسألـة تعمّ بها البلوی ، وهذا الاستدلال إنّما یوجب الفحص قبل استعلام جملـة من الأحکام بمقدار یحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فیـه ، لانحلال العلم الإجمالی بذلک .
واُخری : بأنّـه أعمّ من المدّعی ، لأنّ المدّعی هو الفحص عن الأحکام فی خصوص ما بأیدینا من الکتب ، والمعلوم بالإجمال معنی أعمّ من ذلک ، لأنّ متعلّق العلم هی الأحکام الثابتـة فی الشریعـة واقعاً ، لا خصوص ما بأیدینا ، والفحص فیما بأیدینا من الکتب لا یرفع أثر العلم الإجمالی ، بل العلم باق علی حالـه ولو بعد الفحص التامّ عمّا بأیدینا ، هذا .
وأجاب المحقّق النائینی قدس سره ـ علی ما فی التقریرات ـ عن المناقشـة الاُولی بأنّ استعلام مقدار من الأحکام یحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فیها لا یوجب انحلال العلم الإجمالی ، لأنّ متعلّق العلم تارة : یتردّد من أوّل الأمر بین الأقلّ والأکثر ، کما لو علم بأنّ فی هذا القطیع من الغنم موطوء وتردّد بین کونـه عشرة أو
[[page 309]]عشرین . واُخری : یکون المتعلّق عنواناً لیس بنفسـه مردّداً بین الأقلّ والأکثر من أوّل الأمر ، بل المعلوم بالإجمال هو العنوان بما لـه فی الواقع من الأفراد ، کما لو علم بموطوئیّـة البیض من هذا القطیع وتردّدت البیض بین کونها عشراً أو عشرین ، ففی الأوّل ینحلّ العلم الإجمالی ، وفی الثانی لا ینحلِّ، بل لابدّ من الفحص التامّ عن کلّ ما یحتمل انطباق العنوان المعلوم بالإجمال علیـه ، لأنّ العلم الإجمالی یوجب تنجیز متعلّقـه بما لـه من العنوان .
ففی المثال : العلم الإجمالی تعلّق بعنوان البیض بما لـه من الأفراد فی الواقع ، فکلّ ما کان من أفراد البیض واقعاً قد تنجّز التکلیف بـه ، ولازم ذلک هو الاجتناب عن کلّ ما یحتمل کونـه من أفراد البیض ، والمقام من هذا القبیل ، لأنّ المعلوم بالإجمال هی الأحکام الموجودة فیما بأیدینا من الکتب ، فقد تنجّزت بسبب هذا العلم الإجمالی جمیع الأحکام المثبتـة فی الکتب ، ولازم ذلک هو الفحص التامّ عن جمیع الکتب التی بأیدینا ، ولا ینحلّ العلم الإجمالی باستعلام جملـة من الأحکام یحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فیها .
ألا تری أنّـه لیس للمکلّف الأخذ بالأقل لو علم باشتغال ذمّتـه لزید بما فی الطومار وتردّد ما فی الطومار بین الأقلّ والأکثر ، بل لابدّ لـه من الفحص التامّ فی جمیع صفحات الطومار ، کما علیـه بناء العرف والعقلاء ، وما نحن فیـه یکون بعینـه من هذا القبیل .
وعن المناقشـة الثانیـة بأنّـه وإن علم إجمالاً بوجود أحکام فی الشریعـة أعمّ ممّا بأیدینا من الکتب ، إلاّ أنّـه یعلم إجمالاً أیضاً بأنّ فیما بأیدینا من الکتب أدلّـة مثبتـة للأحکام مصادفـة للواقع بمقدار یحتمل انطباق ما فی الشریعـة علیها ، فینحلّ العلم الإجمالی العامّ بالعلم الإجمالی الخاصِّ، ویرتفع الإشکال بحذافیره ویتمّ الاستدلال لوجوب الفحص ، فتدبّر جیّداً ، انتهی .
[[page 310]]ویرد علیـه أوّلاً : أنّ ما ذکره من الفرق فی الانحلال وعدمـه بین ما لو کان متعلّق العلم الإجمالی بنفسـه مردّداً بین الأقلّ والأکثر ، وبین ما کان عنواناً لیس مردّداً بینهما من أوّل الأمر إنّما یتمّ لو کان متعلّق العلم الإجمالی فی القسم الثانی نسبتـه إلی المعنون کنسبـة المحصِّل إلی المحصَّل ، وأمّا لو لم یکن من هذا القبیل کما فی المثال الذی ذکره فلا وجـه لعدم الانحلال ، لانحلال التکلیف إلی التکالیف المتعدّدة المستقلّـة حسب تعدّد المعنونات وتکثّرها ، وحینئذٍ فلا یبقی فرق بین القسمین .
وثانیاً : لو قطع النظر عن ذلک نقول : إنّ تعلّق العلم الإجمالی بعنوان یوجب تنجیز متعلّقـه إذا کان متعلّقـه موضوعاً للحکم الشرعی ، وأمّا إذا لم یکن ممّا یترتّب علیـه الحکم فی الشریعـة فلا أثر لـه بالنسبـة إلیـه ، کما فی المثال الذی ذکره . فإنّ الموضوع للحکم بالحرمـة ووجوب نفی البلد ـ مثلاً ـ إنّما هو الحیوان الموطوء بما أنّـه موطوء ، وأمّا کونـه أبیض أو أسود فلا دخل لـه فی ترتّب الحکم وحینئذٍ فالعلم الإجمالی بموطوئیّـة البیض من هذا القطیع لا یؤثّر إلاّ بالنسبـة إلی ما علم کونـه موطوءاً ، لکونـه الموضوع للأثر الشرعی .
وکذا المقام ، فإنّا إنّما نکون مأخوذین بالأحکام الواقعیـة الثابتـة فی الشریعـة ، وأمّا عنوان کونها مضبوطـة فی الکتب التی بأیدینا فهو ممّا لا ارتباط لـه بذلک أصلاً ، کما هو واضح .
ومن المعلوم أنّ العلم الإجمالی بتلک الأحکام الثابتـة فی الشریعـة یکون
[[page 311]]من أوّل الأمر متردّداً بین الأقلّ والأکثر ، کما أنّ فی مثال البیض یکون العلم الإجمالی بالعنوان الموضوع للحکم الشرعی مردّداً بین الأقلّ والأکثر بنفسـه ومن أوّل الأمر .
وحینئذٍ نقول : لو صحّ ما ادّعاه من أنّ تعلّق العلم الإجمالی بعنوانٍ یوجب التنجّز بالنسبـة إلی جمیع الأفراد الواقعیـة لذلک العنوان یصیر القسم الأوّل أیضاً کالقسم الثانی فی عدم الانحلال ، بل أولی منـه ، لأنّ العنوان فیـه یکون متعلّقاً للحکم الشرعی بخلاف القسم الثانی .
وثالثاً : أنّ ما أجاب بـه عن المناقشـة الثانیـة لا یتمّ بناءً علی مذهبـه من أنّ المقام من قبیل القسم الثانی من العلم الإجمالی ، لأنّ العلم الإجمالی العامّ تعلّق بعنوان « ما فی الکتب » أعمّ من الکتب التی بأیدینا أو بعنوان « ما فی الشریعـة » ، وقد فرض أنّ تعلّقـه بـه یوجب تنجّزه بجمیع أفراده الواقعیـة ، ولا یعرض لـه الانحلال وإن تردّد بین الأقلّ والأکثر ، کما هو غیر خفی .
ثمّ إنّ مثال الطومار الذی ذکره لا یکون مرتبطاً بالمقام ، لأنّ وجوب الفحص التامّ فی جمیع صفحات الطومار لیس من آثار العلم الإجمالی باشتغال ذمّتـة لزید ، بل یجب الفحص فیها ولو بدون العلم الإجمالی وکون الشبهـة بدویّـة ، کما سیأتی أنّ هذا المحقّق یلتزم بوجوب الفحص فی مثل المثال ولو مع عدم العلم الإجمالی ، فتدبّر جیّداً .
ثمّ إنّـه أجاب المحقّق العراقی قدس سره ـ علی ما فی التقریر ـ عن المناقشـة الاُولی المتقدّمـة بأنّها إنّما تتّجـه لو کان متعلّق العلم الإجمالی مطلقاً أو کان مقیّداً بالظفر بـه علی تقدیر الفحص ، ولکن کان تقریب العلم الإجمالی هو کونـه بمقدار من الأحکام علی وجـه لو تفحّص ولو فی مقدار من المسائل لظفر بـه .
[[page 312]]وأمّا لو کان تقریبـه بما ذکرناه من العلم بمقدار من الأحکام فی مجموع من المسائل المحرّرة علی وجـه لو تفحّص فی کلّ مسألـة تکون مظانّ وجود محتملـة لظفر بـه . فلا یرد إشکال ، فإنّـه علی هذا التقریب یترتّب علیـه النتیجـة المزبورة ، وهی عدم جواز الرجوع إلی البراءة قبل الفحص ، ولا یجدی فی رفع أثر العلم مجرّد الظفر بمقدار المعلوم بالإجمال فی جملـة من المسائل لیکون الشکّ بدویاً فی البقیّـة ، کما أنّـه یترتّب علیـه جواز الرجوع إلی البراءة فی کلّ مسألـة بعد الفحص وعدم الظفر فیها بالدلیل علی التکلیف ، فإنّـه بمقتضی التقیـید المزبور یستکشف من عدم الظفر بالدلیل فیها عن خروجها عن دائرة المعلوم بالإجمال من أوّل الأمر ، انتهی .
ویرد علیـه : أنّ تقریب العلم الإجمالی بالوجـه الأوّل أو الثانی لیس أمراً موکولاً إلی اختیارنا حتّی لو قرّبناه علی الوجـه الثانی ترتّب علیـه النتیجـة واندفع الإشکال والمناقشـة ، بل لابدّ من ملاحظـة الواقع وأنّ العلم الإجمالی الحاصل لمن التفت إلی المبدأ والشریعـة هل هو علی النحو الأوّل أو الثانی .
وحینئذٍ نقول : إنّ المراجعـة إلی الوجدان تشهد بکونـه إنّما هو علی النحو الأوّل بل نقول : إنّ لازم تقریبـه بالنحو الثانی هو العلم بوجود حکم إلـزامی فی کلّ مسألـة ، ضرورة أنّـه مع عدم هذا العلم لا یبقی مجال لوجوب الفحص بعد الظفر بمقدار یحتمل انحصار المعلوم بالإجمال فیـه .
ومن الواضح أنّـه لا یمکن هذه الدعوی الراجعـة إلی ثبوت حکم إلزامی فی کلّ مسألـة ، کما لایخفی .
[[page 313]]وکیف کان : فالعمدة ما ذکرنا فی مقام الجواب عن الاستدلال لوجوب الفحص بالعلم الإجمالی وأنّـه خروج عن فرض کون المورد مجری للبراءة ، فتدبّر .
والصحیح الاستدلال لذلک بحکم العقل بوجوب الفحص وعدم حکمـه بقبح العقاب قبل المراجعـة إلی مظانّ ثبوت التکلیف وبیانـه ، ومع ذلک لا مجال لدعوی الإجماع القطعی علی وجوبـه ، ضرورة أنّـه علی تقدیر ثبوتـه لا یکون حجّـة بعد قوّة احتمال أن یکون مستند المجمعین هو هذا الحکم العقلی الضروری ، کما أنّ التمسّک بالکتاب والسنّـة لذلک نظراً إلی اشتمالهما علی الأمر بالتفقّـة والتعلّم ونظائرهما ممّا لا یخلو من مناقشـة ، لأنّـه من البعید أن یکون المقصود منهما هو بیان حکم تأسیسی تعبّدی ، بل الظاهر أنّها إرشاد إلی حکم العقل بذلک .
فالدلیل فی المقام ینحصر فی حکم العقل بعدم جواز القعود عن تکالیف المولی اعتماداً علی البراءة قبل الرجوع إلی مظانّ ثبوتـه ، هذا فی الشبهـة الحکمیـة .
وأمّا الشبهـة الموضوعیـة فعلی تقدیر جریان البراءة العقلیّـة فیها ـ کما هو الحقّ والمحقّق ـ فهل یجب فیها الفحص مطلقاً ، أو لا یجب مطلقاً ، أو یفصّل بین ما إذا توقّف امتثال التکلیف غالباً علی الفحص ـ کما إذا کان موضوع التکلیف من الموضوعات التی لا یحصل العلم بها إلاّ بالفحص عنـه کالاستطاعـة فی الحجّ والنصاب فی الزکاة ـ فیجب الفحص ، وبین غیره فلا یجب ، أو یفصّل بین ما إذا کان تحصیل العلم غیر متوقّف إلاّ علی مجرّد النظر فی المقدّمات الحاصلـة ، فیجب ، وبین غیره ، فلا یجب ؟ وجوه بل أقوال .
[[page 314]]والظاهر هو وجوب الفحص مطلقاً ؛ لأنّ العقل الحاکم بجریان البراءة العقلیّـة فیها الراجعـة إلی قبح العقاب من قبل المولی قبل ثبوت الوظیفـة بإحراز الصغری والکبری معاً ، لا یحکم بذلک إلاّ بعد الفحص والیأس عن إحراز الصغری ، والدلیل علی ذلک مراجعـة العقلاء فی اُمورهم . ألا تری أنّـه لو أمر المولی عبده بإکرام ضیفـه وتردّد بین کون زید ضیفـه أم غیره ، وکان قادراً علی السؤال عن المولی والعلم بذلک هل یکون معذوراً فی المخالفـة مع عدم الإکرام ؟ کلاّ ، فاللازم بحکم العقل ، الفحص والتـتبّع فی الشبهات الموضوعیّـة أیضاً .
هذا کلّـه فیما یتعلّق بأصل اعتبار الفحص .
[[page 315]]