التمسّک بالاستصحاب لإثبات وجوب باقی الأجزاء
وأمّا الکلام فی المقام الثانی : فقد یتمسّک لوجوب الباقی المقدور بالاستصحاب وتقریره من وجوه :
الأوّل : استصحاب الوجوب الجامع بین الوجوب النفسی والغیری بأن یقال : إنّ البقیّـة کانت واجبـة بالوجوب الغیری فی حال وجوب الکلّ بالوجوب النفسی ، وقد علم بارتفاع ذلک الوجوب عند تعذّر بعض الأجزاء أو الشرائط للعلم بارتفاع وجوب الکلِّ، ولکن شکّ فی حدوث الوجوب النفسی بالنسبـة إلی البقیّـة مقارناً لزوال الوجوب الغیری عنها ، فیقال : إنّ الجامع بین الوجوبین کان متیقّناً والآن یشکّ فی ارتفاعـه بعد ارتفاع بعض مصادیقـه ، فهو من قبیل القسم الثالث من أقسام استصحاب الکلّی .
ویمکن أن یقرّر هذا الوجه بنحو آخر ، وهو أنّ البقیّة کانت واجبة بالوجوب النفسی الضمنی ، وقد علم بارتفاعه ، وشکّ فی حدوث الوجوب النفسی الاستقلالی ، فأصل الوجوب الجامع بین الضمنی والاستقلالی کان متیقّناً ، والآن شکّ فی ارتفاعه بعد ارتفاع بعض مصادیقه لأجل احتمال حدوث مصداق آخر ، هذا .
ویرد علی هـذا الوجـه مضافاً إلی منع کون الأجـزاء واجبـة بالوجـوب الغیری أو النفسی الضمنی ، بل قد عرفت أنّها واجبـة بعین وجوب الکلِّ.
[[page 279]]أوّلاً : أنّـه یعتبر فی جریان الاستصحاب أن یکون المستصحب إمّا حکماً مجعولاً شرعاً ، وإمّا موضوعاً ذا أثر شرعی ، والجامع بین الوجوب النفسی والغیری وکذا بین الضمنی والاستقلالی لا یکون شیئاً منهما ، أمّا عدم کونـه موضوعاً ذا أثر شرعی فواضح ، وأمّا عدم کونـه حکماً مجعولاً ، فلأنّ الحکم المجعول هو کلّ واحد من الوجوبین .
وبعبارة اُخری : المجعول هو حقیقـة الوجوب ، وهی ما یکون بالحمل الشائع وجوباً ، وأمّا الجامع فهو یکون أمراً انتزاعیّاً غیر مجعول ، والعقل بعد ملاحظـة حکم الشارع بوجوب فعل وکذا حکمـه بوجوب فعل آخر ینتزع عنهما أمراً مشترکاً جامعاً من دون أن یکون ذلک الأمر الانتزاعی مجعولاً ، بل لا یعقل الجامع بین الوجوبین لو اُفید الوجوب بمثل هیئـة « افعل » التی یکون الموضوع لـه فیها خاصّاً ، کما هو الشأن فی جمیع الحروف علی ما حقّقناه فی مبحث الألفاظ . وبالجملـة : لا مجال لاستصحاب الجامع أصلاً .
وثانیاً : أنّـه لو قطع النظر عن ذلک نقول : إنّ ما ذکر إنّما یتمّ لو کان مجموع البقیّـة متعلّقاً للوجـوب الغیری فیقال : إنّـه کان واجباً بـه ، وشکّ بعد ارتفاعـه فی حـدوث الوجـوب النفسی لها ، مـع أنّـه ممنوع جدّاً ، ضرورة أنّ الوجـوب الغیری إنّما هو بملاک المقدّمیّـة ، والموصوف بهذا الوصف إنّما هو کلّ واحد من الأجزاء لا المجموع بعنوانـه فالوجوب الغیری إنّما تعلّق بکلّ واحد من الأجزاء الغیر المتعذّرة ، والمدّعی إنّما هو إثبات وجوب نفسی واحد متعلّق بمجموع سالبقیّـة .
[[page 280]]وبعبارة اُخری : القضیّـة المشکوکـة هو وجوب واحد متعلّق بالباقی المقدور ، والقضیـة المتیقّنـة هی الوجوبات المتعدّدة المتعلّق کلّ واحد منها بکلّ واحد من الأجزاء ، فلا تتّحدان .
الثانی : استصحاب الوجوب النفسی الاستقلالی المتعلّق بالمرکّب ، وتعذّر بعض أجزائـه أو شرائطـه لا یضرّ بعد ثبوت المسامحـة العرفیّـة فی موضوع الاستصحاب ، کما لو فرض أنّ زیداً کان واجب الإکرام ، ثمّ شکّ فی وجوب إکرامـه بعد تغیّره بمثل قطع الید أو الرجل مثلاً ، فإنّـه لا إشکال فی جریان هذا الاستصحاب ، لبقاء الشخصیـة وعدم ارتفاعها بمثل ذلک التغیّر ، وکما فی استصحاب الکرّیـة .
ویرد علیـه أوّلاً : أنّ قیاس العناوین الکلّیـة بالموجـودات الخارجیـة قیاس مع الفارق ، لأنّ تغیّر الحالات وتبدّل الخصوصیّات فی الخارجیّات لا یوجب اختلاف الشخصیّـة وارتفاع الهذیّـة . وهذا بخلاف العناوین الکلّیـة ، فإنّ الاختلاف بینها یتحقّق بمجرّد اختلافها ولو فی بعض القیود ، فإنّ عنوان الإنسان الأبیض ـ مثلاً ـ مغایر لعنوان الإنسان الغیر الأبیض ، وکـذا الإنسان العالـم بالنسبـة إلی الإنسان الغیـر العالـم ، فـإذا کان مـن یجب إکـرامـه هـو الإنسان العالـم ـ مثلاً ـ فاستصحـاب وجـوب إکرامـه لا یفید وجـوب إکـرام الإنسان الغیر العالم أیضاً ، کما هو أوضح من أن یخفی .
وحینئذٍ نقول : إنّ الواجب فی المقام هی الصلاة المتقیّدة بالسورة مثلاً ، والمفروض سقوط هذا الوجوب بمجرّد عروض التعذّر بالنسبـة إلی السورة ، والصلاة الخالیـة عنها عنوان آخر مغایر للصلاة مع السورة ، فالقضیّـة المتیقّنـة والمشکوکـة متغایرتان .
[[page 281]]وثانیاً : أنّ تبدّل الحالات إنّما لا یضرّ بجریان الاستصحاب إذا کان الحکم متعلّقاً بعنوان شکّ فی مدخلیّـة ذلک العنوان بقاءً ، کما أنّـه دخیل فیـه حدوثاً . وبعبارة اُخری شکّ فی کونـه واسطـة فی العروض أو واسطـة فی الثبوت ، نظیر الحکم علی الماء المتغیّر بالنجاسـة ، فإنّ منشأ الشکّ فی بقاء النجاسـة بعد زوال التغیّر إنّما هو الشکّ فی کون عنوان التغیّر هل لـه دخل فیـه حدوثاً وبقاءً أو حدوثاً فقط . وأمّا إذا علم مدخلیّـة العنوان فی الحکم مطلقاً فلا معنی لجریان الاستصحاب ، والمقام من هذا القبیل ، ضرورة أنّا نعلم بمدخلیـة السورة المتعذّرة ـ مثلاً ـ فی الأمر المتعلّق بالمرکّب ، وإلاّ لا تکون جزءً لـه ، ففرض الجزئیّـة الراجعـة إلی کونـه مقوّماً للمرکّب بحیث لا یتحقّق بدونـه لا یجتمع مع الشکّ فی مدخلیّتـه فیـه وأنّ شخص ذلک الأمر المتعلّق بالمرکّب هل هو باق أو مرتفع ، ضرورة ارتفاع ذلک الشخص بمجرّد نقصان الجزء الراجع إلی عدم تحقّق المرکّب ، کما هو غیر خفی .
الثالث : استصحاب الوجوب النفسی الشخصی ، بتقریب أنّ البقیّـة کانت واجبة بالوجوب النفسی لانبساط الوجـوب المتعلّق بالمرکّب علی جمیع أجزائـه ، فإذا زال الانبساط عن الجزء المتعذّر بسبب التعذّر یشکّ فی ارتفاع الوجوب عن باقی الأجزاء ، فیستصحب ویحکم ببقائـه کما کان من انبساط الوجوب علیـه .
ویرد علیـه أوّلاً : أنّ دعوی الانبساط فی الأمر المتعلّق بالمرکّب ممّا لا وجـه لها بعد کون الإرادة أمراً بسیطاً غیر قابل للتجزئـة ، وکون المرکّب أیضاً ملحوظاً شیئاً واحداً وأمراً فارداً ، لما عرفت سابقاً من أنّـه عبارة عن ملاحظـة الأشیاء المتعدّدة والحقائق المتکثّرة شیئاً واحداً بحیث کانت الأجزاء فانیـة فیـه
[[page 282]]غیر ملحوظـة ، فتعلّق الإرادة بـه إنّما هو کتعلّقها بأمر بسیط ، ولا معنی لانبساطها علیـه ، وهکذا الکلام فی الوجوب والبعث الناشئ من الإرادة ، فإنّـه أیضاً أمر بسیط لا یقبل التکثّر والتعدّد .
وثانیاً : أنّـه علی فرض تسلیم الانبساط نقول : إنّ ذلک متفرّع علی تعلّق الوجوب بالمجموع المرکّب ، ضرورة أنّـه نشأ من الأمر المتعلّق بالمجموع ، وبعد زوالـه یقیناً ، کما هو المفروض لا معنی لبقائـه منبسطاً علی الباقی ، فالقضیّـة المتیقّنـة قد زالت فی الزمان اللاحق قطعاً ، فلا مجال حینئذٍ للاستصحاب .
فانقدح من جمیع ما ذکرنا : أنّ التمسّک بالاستصحاب لا یتمّ علی شیء من تقریراتـه المتقدّمـة .
[[page 283]]