المقام الثانی : فیما یقتضیه الأصل الشرعی فی النقیصة السهویّة
واعلم أنّ مورد البحث فی هذا المقام ما إذا کان للدلیل المثبت للجزئیـة إطلاق یشمل حال النسیان أیضاً ، بحیث لو لم یکن مثل حدیث الرفع فی البین لکان نحکم بعدم الاکتفاء بالمرکّب الناقص المأتی بـه فی حال النسیان ، لکونـه فاقداً للجزء المعتبر فیـه مطلقاً . غایـة الأمر أنّ محل البحث هنا أنّـه هل یمکن تقیـید إطلاقات أدلّـة الأجزاء بمثل حدیث الرفع المشتمل علی رفع النسیان حتّی یکون مقتضاه اختصاص الجزئیّـة بحال الذکر وکون المرکّب الناقص مصداقاً للمأمور بـه أم لا ؟ ولا یخفی أنّـه لابدّ فی إثبات أجزاء المرکّب الناقص أوّلاً : من الالتزام بکون حدیث الرفع قابلاً لتقیـید إطلاقات أدلّـة الأجزاء ، وثانیاً : من إثبات کون الباقی مصداقاً للمأمور بـه ، لأنّـه تمامـه . وتنقیحـه لیظهر ما هو الحقّ یتمّ برسم اُمور :
الأوّل : أنّک قد عرفت فی إحدی مقدّمات الأقلّ والأکثر فی الأجزاء أنّ المرکّبات الاعتباریّـة عبارة عن الأشیاء المتخالفـة الحقائق . غایـة الأمر أنّـه لوحظ کونها شیئاً واحداً وأمراً فارداً لترتّب غرض واحد علی مجموعها ، وعرفت
[[page 237]]أیضاً أنّ الأمر المتعلّق بالمرکّب الاعتباری أمر واحد . غایـة الأمر أنّـه یدعو إلی کلّ واحد من الأجزاء بعین دعوتـه إلی المرکّب ، لأنّها هو بعینـه ، ولا تغایر بینهما إلاّ بالاعتبار ، ولا یتوقّف دعوتـه إلی جزء علی کون الجزء الآخر أیضاً مدعوّاً ، بل دعوتـه إلی کلّ واحد من الأجزاء فی عرض دعوتـه إلی الآخر ، ولا تکون مرتبطـة بها ، کما لایخفی .
الثانی : أنّ تقیـید إطلاقات أدلّـة الأجزاء بمثل حدیث الرفع یکون مرجعـه إلی أنّ الإرادة الاستعمالیـة فی تلک الأدلّـة وإن کانت مطلقـة شاملـة لحال النسیان أیضاً إلاّ أنّ حدیث الرفع یکشف عن قصر الإرادة الجدّیـة علی غیر حال النسیان . ولیس معنی رفع الجزئیـة فیـه أنّ الجزئیـة المطلقـة المطابقـة للإرادة الجدّیـة صارت مرفوعـة فی حال النسیان ، فإنّ ذلک من قبیل النسخ المستحیل ، بل معنی الرفع هو رفع ما ثبت بالقانون العامّ الکلّی المطابق للإرادة الاستعمالیـة ، وضمّ ذلک القانون إلی حدیث الرفع ینتج أنّ الإرادة الجدّیـة من أوّل الأمر کانت مقصورة بغیر صورة النسیان ، وهذا هو الشأن فی جمیع الأدلّـة الثانویّـة بالقیاس إلی الأدلّـة الأوّلیـة .
فنفی الحکم الحرجی بقولـه تعالی : « وَمَا جَعَلَ عَلَیکُم فِی الدِّینِ مِن حَرَجٍ » مرجعـه إلی کون ذلک کاشفاً عن انحصار مقتضی الأدلّـة الأوّلیـة بغیر صورة الحرج .
غایـة الأمر أنّها القیت بصورة الإطلاق قانوناً ، کما هو کذلک فی القوانین الموضوعـة عند العقلاء ، وقد تقدّم فی مباحث العموم والخصوص شطر من
[[page 238]]الکلام علی ذلک وأنّ معنی التخصیص یرجع إلی التخصیص بالنسبـة إلی الإرادة الاستعمالیـة لا الجدّیـة ، فإنّها من أوّل الأمر لم تکن متعلّقـة بما یشمل مورد المخصّص أیضاً ، کما لایخفی .
الثالث : أنّ معنی رفـع النسیان لیس راجعـاً إلی رفـع نفس النسیان التی هی صفـة منقدحـة فی النفس ، ولا إلی رفـع الآثـار المترتّبـة علیها ، بل معناه هـو رفـع المنسـی بما لـه مـن الآثـار المترتّبـة علیـه . فقـد وقـع فـی ذلک ادّعـاءان :
أحدهما : أنّ المنسی هو النسیان .
ثانیهما : ادّعاء أنّ المنسی إذا لم یترتّب علیـه أثر فی الشریعـة یکون کأنّـه لم یوجد فی عالم التشریع . وقد عرفت سابقاً أنّ المصحّح لهذا الادّعاء هو رفع جمیع الآثار المترتّبـة علیـه ، وأ مّا رفع بعض الآثار فلا یلائم رفع الموضوع الذی یترتّب علیـه الأثر ، کما هو واضح .
الرابع : أنّ النسیان المتعلّق بشیء الموجب لعدم تحقّقـه فی الخارج هل هـو متعلّق بنفس طبیعـة ذلک الشیء مـن غیر مدخلیّـة الوجـود أو العدم ، أو یتعلّق بوجود تلک الطبیعـة ، أو یتعلّق بعدمها ؟ وجوه ، والظاهر هو الأوّل ، فإنّ الموجب لعدم تحقّق الطبیعـة فی الخارج هو الغفلـة والذهول عن نفس الطبیعـة ، لا الغفلـة عن وجـودها ، کیف والمفروض أنّـه لم یوجـد حتّی یتعلّق بوجـوده النسیان ، ولا الغفلـة عن عدمها ، کیف ولا یعقل أن یصیر الغفلـة عـن العدم موجباً لـه ، کما هو واضح .
[[page 239]]إذا تمهّد لک هذه الاُمور تعرف : أنّ مقایسـة حدیث الرفع المشتمل علی رفع النسیان مع الأدلّـة الأوّلیـة المطلقـة الدالّـة علی جزئیـة الجزء المنسی مطلقاً ، یقتضی کون المرکّب الناقص المأتی بـه فی حال النسیان تمام المأمور بـه ؛ لأنّ المفروض کونـه معنوناً بعنوان الصلاة التی هی متعلّق الأمر . وقد عرفت أنّ الأمر الذی یدعو إلیها داعٍ إلی جمیع أجزائها ، ولا یتوقّف دعوتـه إلی جزء علی کون الجزء الآخر أیضاً مدعوّاً .
وقد عرفت أیضاً أنّ مقتضی حدیث الرفع تقیـید تلک الأدلّـة بحال الذکر وکون السورة المنسیّـة ـ مثلاً ـ معتبرة فی الصلاة فی خصوص هذا الحال ، فالصلاة الفاقدة للسورة المنسیّـة تمام المأمور بـه بالأمر المتعلّق بطبیعـة الصلاة المشترکـة بین التامّ والناقص .
ومن جمیع ما ذکرنا ینقدح الخلل فیما أفاده العَلَمان النائینی والعراقی فی هذا المقام فی بیان عدم دلالـة الحدیث علی رفع الجزئیّـة فی حال النسیان .
ومحصّل ما أفاده المحقّق العراقی یرجع إلی وجوه ثلاثـة :
أحدها : أنّ الحدیث علی تقدیر کون المرفوع فیـه هو المنسی لا یمکن التمسّک بـه لإثبات الاجتزاء بالمأتی بـه فی حال النسیان ، لأنّ أثر وجود الجزء لا یکون إلاّ الصحّـة لا الجزئیّـة ، لأنّها من آثار طبیعـة الجزء لا من آثار وجود الجزء المنسی ، ورفع الصحّـة یقتضی البطلان ووجوب الإعادة .
ثانیها : أنّـه إن اُرید برفع الجزئیّـة والشرطیّـة رفعهما عن الجزء والشرط
[[page 240]]المنسیّین فـی مقام الدخـل فی الملاک والمصلحـة فلا شبهـة فی أنّ هـذا الدخـل أمـر تکوینی غیر قابل لأن یتعلّق بـه الرفـع التشریعی .
وإن اُرید رفعهما بلحاظ انتزاعهما عن التکلیف الضمنی المتعلّق بالجزء والتقیّد بالشرط ، فیرد علیـه ما تقدّم من اختصاص الرفع فی الحدیث برفع ما لولاه یکون قابلاً للثبوت تکلیفاً أو وضعاً وعدم شمولـه للتکالیف المتعلّقـة بالمنسی فی حال النسیان ، لارتفاعها بمحض تعلّق النسیان ، بملاک استحالـة التکلیف بمالا یطاق .
ثالثها : أنّـه علی تقدیر تسلیم دلالـة الحدیث فغایـة ما یقتضیـه إنّما هو رفع إبقاء الأمر الفعلی والجزئیّـة الفعلیـة عن الجزء المنسی فی حال النسیان الملازم بمقتضی ارتباطیـة التکلیف لسقوط الأمر الفعلی عن البقیّـة أیضاً ما دام النسیان ، وأمّا اقتضاؤه لسقوط المنسی عن الجزئیـة والشرطیـة فی حال النسیان لطبیعـة الصلاة المأمور بها رأساً علی نحو یستـتبع تحدید دائرة الطبیعـة فی حال النسیان بالبقیّـة ویقتضی الأمر بإتیانها ، فلا ؛ بداهـة خروج ذلک عن عهدة حدیث الرفع ، لعدم تکفّل الحدیث لإثبات الوضع والتکلیف ، لأنّ شأنـه إنّما هو التکفّل للرفع محضاً ، انتهی ملخّصاً .
ویرد علی الوجـه الأوّل : ما عرفت من أنّ المرفوع فی باب الأجزاء هو المنسی وهو طبیعـة الأجزاء مع قطع النظر عن الوجود والعدم . ومعنی رفع الطبیعـة هو رفع الأثر الشرعی المترتّب علیها وهی الجزئیـة ، ولیس المنسی هو وجود الطبیعـة حتّی یقال : إنّ أثر وجود الجزء هی الصحّـة لا الجزئیـة . هذا
[[page 241]]مضافاً إلی نّـه یمکن منع ذلک أیضاً ، فإنّ أثر الجزء الموجود أیضاً هی الجزئیـة لا الصحّـة ، لأنّها من الآثار العقلیّـة المنتزعـة عن مطابقـة المأتی بـه مع المأمور بـه ، وأمّا الأثر الشرعی فلیس إلاّ الجزئیّـة ، کما لایخفی .
وعلی الوجـه الثانی : أنّ ما ذکره فی الشقّ الثانی من التردید مخالف لما حقّقـه سابقاً من عدم الفرق فی إطلاق أدلّـة الأجزاء وشمولها لحال النسیان بین کونها بلسان الوضع أو بلسان الأمر بالتقریب المتقدّم فی کلامـه وإن کان هذا التقریب محلّ نظر من وجوه ، کما عرفت .
وعلی الوجـه الثالث : ما حقّقناه من الاُمور المتقدّمـة التی نتیجتها أنّ حدیث الرفع کالاستثناء بالنسبـة إلی الأدلّـة الأوّلیـة الدالّـة علی الأجزاء ، حیث إنّـه یخصّصها ویقیّدها بحال الذکر ، ولازم ذلک کون المأمور بـه فی حقّ الناسی هی الطبیعـة المنطبقـة علی الناقصـة ، ومع الإتیان بالمأمور بـه لا معنی لعدم الإجزاء ، کما هو واضح من أن یخفی .
فانقدح من جمیع ما ذکرنا : أنّ مقتضی الأصل الشرعی کالأصل العقلی هو الاجتزاء بالمرکّب الناقص وعدم لزوم الإعادة ، سواء کان النسیان مستوعباً للوقت أم لم یکن .
وقد عرفت أیضاً : أنّ قیاس المقام بما إذا لم یأت بالمأمور بـه رأساً فی النسیان الغیر المستوعب ، حیث إنّـه یجب الإتیان بـه بعد زوال النسیان قطعاً ، قیاس مع الفارق ، لأنّ فی المقام قد أتی بما هو المأمور بـه واقعاً .
غایـة الأمـر أنّ دائـرتـه محدودة فـی حـال النسیان بالبقیّـة ، وهـذا بخـلاف مـا إذا لم یـأت بـه أصـلاً ، فإنّـه لم یـأت بشـیء حتّی نحکم بالإجـزاء ، کمـا هـو واضح .
[[page 242]]