فیما یدلّ علی عدم وجوب الاحتیاط فی الشبهة غیر المحصورة
ثمّ إنّـه تدلّ علی عدم وجوب الاحتیاط فیها وجوه :
منها : دعوی الإجماع بل الضرورة من غیر واحد من الأعلام قدس سرهم .
ومنها : الأخبار الکثیرة الدالّـة علی عدم وجوب الاحتیاط فی مطلق الشبهات المقرونـة بالعلم الإجمالی أو خصوص الغیر المحصورة منها ، کصحیحـة عبداللّٰه بن سنان المتقدّمـة عن أبی عبداللّٰه علیه السلام قال : « کلّ شیء فیـه حلال وحرام فهو لک حلال أبداً حتّی تعرف الحرام منـه بعینـه » .
وقد عرفت ظهورها فی الشبهـة المقرونـة بالعلم الإجمالی ، وهی وإن کانت شاملـة للمحصورة أیضاً ، إلاّ أنّـه لابدّ من تقیـیدها وحملها علی غیر المحصور .
ودعوی أنّ ذلک حمل علی الفرد النادر مدفوعـة جدّاً ؛ لمنع کون الشبهـة الغیر المحصورة قلیلـة نادرة بالنسبـة إلی المحصورة لو لم نقل بکونها أکثر ، کما یظهر لمن تدبّر فی أحوال العرف .
ومنـه یظهر الخلل فیما أفاده الشیخ الأنصاری فی الرسالـة فی مقام الجواب عن الاستدلال بالأخبار الدالّـة علی حلّیـة کلّ ما لم یعلم حرمتـه من أنّ هذه الأخبار نصّ فی الشبهـة البدویّـة ، وأخبار الاجتناب نصّ فی الشبهـة المحصورة ، وکلا الطرفین ظاهران فی الشبهـة الغیر المحصورة ، فإخراجها عن
[[page 132]]أحدهما وإدخالها فی الآخر لیس جمعاً بل ترجیحاً بلا مرجّح .
وجـه الخلل : ما عرفت من ظهور مثل الصحیحـة فی خصوص الشبهـة المقرونـة بالعلم الإجمالی ، لأنّ الشیء الذی فیـه الحلال والحرام هو عبارة عن المختلط بهما والشبهـة البدویّـة لا تکون کذلک .
وحینئذٍ : فبعد إخراج الشبهـة المحصورة ـ لحکم العقلاء باستلزام الإذن فی الارتکاب فیها للإذن فی المعصیـة ، وهو مضافاً إلی قبحـه غیر معقول کما عرفت ـ تبقی الشبهـة الغیر المحصورة باقیـة تحتها . هذا مضافاً إلی أنّـه لو سلّمنا الشمول للشبهـة البدویّـة فکونها نصّاً فیها وظاهراً فی الشبهـة الغیر المحصورة محلّ نظر ، بل منع ، کما لایخفی .
ویدلّ علی ما ذکرنا أیضاً ما رواه البرقی فی محکی المحاسن عن أبی الجارود قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن الجبن فقلت : أخبرنی من رأی أنّـه یجعل فیـه المیتـة ، فقال : « أمن أجل مکان واحد یجعل فیـه المیتـة حـرم جمیع ما فی الأرض ؟ ! إذا علمت أنّـه میتـة فلا تأکلـه ، وما لم تعلم فاشتر وبِع وکُل ، واللّٰه إنّی لأعترض السوق فأشتری اللحم والسمن والجبن ، واللّٰه ما أظنّ کلّهم یسمّون ، هذه البربر وهذه السودان » . فإنّـه لو اُغمض النظر عن المناقشـة فی السند وکذا فی المضمون من جهـة صدورها تقیّـة ـ لما عرفت سابقاً من عدم حرمـة الجبن الذی علم تفصیلاً بوضع الأنفحـة من المیتـة فیـه عند علمائنا
[[page 133]]الإمامیّـة رضوان اللّٰه علیهم ، خلافـاً للعامّـة العمیاء ، والروایـة مقـرّرة لهذا الحکم ـ تکون دلالتها علی عدم وجوب الاجتناب فـی الشبهـة الغیر المحصورة واضحـة .
وما ادّعاه الشیخ قدس سره فی الرسالـة من أنّ المراد أنّ جعل المیتـة فی الجبن فی مکان واحد لا یوجب الاجتناب عن جبن غیره من الأماکن ، ولا کلام فی ذلک ، لا أنّـه لا یوجب الاجتناب عن کلّ جبن یحتمل أن یکون من ذلک المکان ، فلا دخل لـه بالمدّعی فیـه نظر واضح ؛ لأنّ الحکم بعدم وجوب الاجتناب عن الجبن فی مکان مع العلم بعدم کونـه من الأمکنـة التی توضع فیها المیتـة فی الجبن ممّا لا ینبغی أن یصدر من الإمام علیه السلام ، ولا أن یقع مورداً للشکِّ، کما هو واضح .
بل الظاهر أنّ المراد أنّ مجرّد احتمال کون الجبن موضوعاً فیـه المیتـة وأنّـه من الجبن المنقولـة من الأمکنـة التی یوضع فیها المیتـة فی الجبن لا یوجب الاجتناب عن کلّ جبن ، وهذا هو المطلوب فی باب الشبهـة الغیر المحصـورة ، کما أنّ قولـه علیه السلام : « ما أظنّ کلّهم یسمّون » ، ظاهـر فـی أنّ العلم بعدم تسمیـة جماعـة حین الذبح کالبربر والسودان لا یوجب الاجتناب عـن جمیع اللحوم . ودعوی أنّ المراد منـه عدم وجوب الظنّ أو القطع بالحلّیـة ، بل یکفی أخذها من سوق المسلمین ـ کما فی الرسالـة غریبـة جدّاً ومخالفـة للظاهر قطعاً .
[[page 134]]ثمّ إنّـه یدلّ علی عدم وجوب الاجتناب فی الشبهـة الغیر المحصورة الروایات الکثیرة الاُخر التی جمعها المحقّق الطباطبائی فی حاشیتـه علی المتاجر فی باب جوائز السلطان ، مثل صحیحـة الحلبی عن أبی عبداللّٰه علیه السلام قال : « أتی رجل أبی علیه السلام ، فقال : إنّی ورثت مالاً وقد علمت أنّ صاحبـه الذی ورثتـه منـه قد کان یربی ، وقد أعرف أنّ فیـه رباً وأستیقن ذلک ولیس یطیب لی حلالـه ، لحال علمی فیـه . . . إلی أن قال : فقال أبو جعفر علیه السلام : إن کنت تعلم بأنّ فیـه مالاً معروفاً رباً وتعرف أهلـه فخذ رأس مالک وردّ ما سوی ذلک ، وإن کان مختلطاً فکلـه هنیئاً ، فإنّ المال مالک » . وغیرها من الروایات الاُخر من أراد الاطّلاع علیها فلیراجع الحاشیـة .
ومنها : ما أفاده المحقّق المعاصر فی کتاب الدرر ، وتوضیحـه : أنّ تنجّز التکلیف عند العقلاء عبارة عن کونـه بحیث یصحّ للمولی الاحتجاج بـه علی العبد والمؤاخذة علی مخالفتـه ، وهذا المعنی غیر متحقّق فی الشبهـة الغیر المحصورة ، لأنّ احتمال الحرام قد بلغ من الضعف إلی حدّ لا یکون مورداً لاعتناء العقلاء واعتمادهم علیـه ، بل ربّما یعدّون من ترتّب الأثر علی هذا النحو من الاحتمال سفیهاً خارجاً عن الطریقـة العقلائیّـة ، ألا تری أنّ من کان لـه ولد فی بلد عظیم کثیر الأهل ، فسمع وقوع حادثـة فی ذلک البلد منتهیـة إلی قتل واحد من أهلـه ، لو
[[page 135]]ترتّب الأثر علی مجرّد احتمال کون المقتول هو ولده فأقام بالتعزیـة والتضرّع یعدّ مذموماً عند العقلاء مورداً لطعنهم ، بل لو کان مثل هذا الاحتمال سبباً لترتیب الأثر علیـه لانسدّ باب المعیشـة وسائر الأعمال ، کما هو واضح .
وبالجملـة : فالتکلیف وإن کان معلوماً لدلالـة الإطلاق علیـه أو نهوض أمارة شرعیّـة علی ثبوتـه ، إلاّ أنّ فی کل واحد من الأطراف أمارة عقلائیـة علی عدم کونـه هو المحرّم الواقعی ، لأنّ احتمالـه مستهلک فی ضمن الاحتمالات الکثیرة علی حسب کثرة الأطراف ، ومع بلوغـه إلی هذا الحدّ یکون عند العقلاء بحیث لا یکون قابلاً للاعتناء أصلاً . وحینئذٍ فیجوز ارتکاب جمیع الأطراف مع وجود هذه الأمارة العقلائیّـة بالنسبـة إلی الجمیع ، هذا .
ولکنّ المحقّق المزبور بعد توجیهـه جواز الارتکاب بما یرجع إلی ذلک قال : ولکن فیما ذکرنا أیضاً تأمّل ، فإنّ الاطمئنان بعدم الحرام فی کلّ واحد واحد بالخصوص کیف یجتمع مع العلم بوجود الحرام بینها وعدم خروجـه عنها ، وهل یمکن اجتماع العلم بالموجبـة الجزئیـة مع الظنّ بالسلب الکلّی ؟ انتهی .
ولکن لا یخفی أنّ هذه الشبهـة إنّما تـتمّ لو کان متعلّق الاطمئنان متّحداً مع متعلّق العلم ، ولکنّـه لیس کذلک ، لأنّ المعلوم هو وجود الحرام بین هذه الأطراف ، ومتعلّق الاطمئنان هو خروج کلّ واحد منها بالقیاس إلی غیرها ، فحصل الاختلاف بین المتعلّقین . کیف ولو لم یمکن اجتماعهما لأجل التنافی یلزم ذلک فی الشبهـة المحصورة أیضاً ، فإنّـه کیف یجتمع العلم بوجود الحرام بین الإنائین مع الشکّ فی کلّ واحد منهما أنّـه هو المحرّم ، ومن المعلوم ثبوت التنافی بین العلم
[[page 136]]بالموجبـة الجزئیـة والشکّ فی السلب الکلّی ، والسرّ فی ذلک ما عرفت من اختلاف المتعلّقین ، فتدبّر ، هذا .
ویمکن إبداء شبهـة اُخری ، وهو أنّ الأمارة مطلقاً عقلیّـة کانت أو شرعیّـة إنّما تکون معتبرة مع عدم العلم بکونها مخالفـة للواقع ، سواء کان العلم تفصیلیّاً أو إجمالیّاً ، وفی المقام نعلم إجمالاً بأنّ واحداً من هذه الأمارات العقلیّـة المتکثّرة القائمـة علی خروج کلّ واحد من الأطراف بالقیاس إلی غیرها مخالف للواقع قطعاً ، للعلم الإجمالی بوجود الحرام بینها .
ولکن یدفع الشبهـة : أنّـه کما کانت الأمارة قائمـة علی عدم کون کلّ واحد من الأطراف بالقیاس إلی غیره هو المحرّم الواقعی ، کذلک هنا أمارة عقلائیّـة علی عدم کون کلّ أمارة بالقیاس إلی غیرها هی الأمارة المخالفـة للواقع ، لأنّ الشبهـة فیـه أیضاً غیرمحصورة ، فتأمّل .
[[page 137]]