فی جریان الأصل الشرعی
وأمّا البراءة الشرعیّـة : فالظاهر بملاحظـة ما ذکرنا فی وجـه جریان البراءة العقلیّـة جریانها أیضاً ، لأنّ التکلیف بنوعـه مجهول ، فیشملـه مثل حدیث الرفع .
ولکن المحقّق النائینی نفی جریانها ، نظراً إلی أنّ مدرکها قولـه صلی الله علیه و آله وسلم : « رفع ما لا یعلمون » . والرفع فرع إمکان الوضع ، وفی المقام لا یمکن وضع
[[page 71]]الوجوب والحرمة کلیهما لا علی سبیل التعیـین ولا علی سبیل التخیـیر ، ومع عدم إمکان الوضع لا یعقل الرفع ، فأدلّـة البراءة الشرعیّـة لا تعمّ المقام أیضاً ، هذا .
ویرد علیـه : أنّ فی مورد دوران الأمر بین المحذورین یتمسّک بحدیث الرفع مرّتین ، تارة لرفع الوجوب المجهول ، واُخری لرفع الحرمـة المجهولـة ، ومن الواضح أنّ وضع الوجوب بنفسـه ممّا یمکن ، کما أنّ وضع الحرمـة لا استحالـة فیـه . نعم ما لا یمکن وضعـه هو مجموع الوجوب والحرمـة ، وهو لا یکون مفاد حدیث الرفع ، فما یمکن وضعـه یشملـه الحدیث ، وما لا یشملـه لا یمکن وضعـه .
وأمّا أصالـة الإباحـة فمحصّل ما أفاده فی وجـه عدم جریانها اُمور :
الأوّل : عدم شمول دلیلها لصورة دوران الأمر بین المحذورین ، فإنّـه یختصّ بما إذا کان طرف الحرمـة الحلِّ، کما هو الظاهر من قولـه علیه السلام : « کلّ شیء فیـه حلال وحرام فهو لک حلال » . ولیس فی هذا الباب احتمال الإباحـة والحلِّ، بل الطرف هو الوجوب .
الثانی : أنّ دلیل أصالـة الحلّ یختصّ بالشبهات الموضوعیـة ولا یعمّ الشبهات الحکمیّـة .
الثالث : أنّ جعل الإباحـة الظاهریّـة مع العلم بجنس الإلزام لا یمکن ، فإنّ أصالـة الإباحـة بمدلولها المطابقی تنافی المعلوم بالإجمال ، لأنّ مفاد أصالـة
[[page 72]]الإباحـة الرخصـة فی الفعل والترک ، وهذا یناقض العلم بالإلزام وإن لم یکن لهذا العلم أثر عملی وکان وجوده کعدمـه لا یقتضی التنجیز ، إلاّ أنّـه حاصل بالوجدان ولا یجتمع مع جعل الإباحـة ولو ظاهراً ، انتهی .
ویرد علیـه اُمور :
الأوّل : منع ما ذکره فی الأمر الثانی من اختصاص دلیل أصالـة الحلّ بالشبهات الموضوعیـة ، فإنّـه قد مرّ عدم الاختصاص .
الثانی : أنّ ظاهر کلامـه هو کون أصالـة الحلّ متّحداً مع أصالـة الإباحـة ، مع أنّ معنی الإباحـة هو تساوی الفعل والترک ، ومعنی الحلّیـة هو عدم کون فعلـه محرّماً وممنوعاً ، فالحلّیـة تغایر الإباحـة ، وما دلّ علیـه النصوص والروایات هی أصالـة الحلّیـة لا الإباحـة ، فإنّـه لم یرد فی شیء منها الحکم بإباحـة مشکوک الحرمـة أصلاً کما لایخفی .
الثالث : أنّ مقتضی ما ذکره أوّلاً من عدم شمول دلیل أصالـة الإباحـة لصورة دوران الأمر بین المحذورین ینافی ما ذکره أخیراً من أنّ مفاد أصالـة الإباحـة هو الترخیص فی الفعل والترک . بیان ذلک : أنّ الترخیص فی الفعل لا یعقل بعد کون الترخیص فیـه معلوماً ، فإذا شکّ فی وجوب الدعاء عند رؤیـة الهلال ـ مثلاً ـ فما یمکن أن یدلّ علیـه أدلّـة البراءة بالنسبـة إلی الدعاء عندها هو الترخیص فی ترکـه ، وأمّا الترخیص فی الفعل فلا یدلّ علیـه أدلّـة البراءة ؛ لکونـه
[[page 73]]معلوماً ، فالترخیص فی الفعل إنّما یعقل إذا کان الفعل مشکوک الحرمـة ، کما أنّ الترخیص فی الترک إنّما یمکن إذا کان الفعل مشکوک الوجوب ، ولا یعقل الترخیص فی الترک فی الأوّل وفی الفعل فی الثانی . وحینئذٍ : فمقتضی ما ذکره أخیراً من أنّ مفاد أصالـة الإباحـة هو الترخیص فی الفعل والترک هو أن یکون الفعل مشکوک الحرمـة والوجوب ، إذ لا یعقل الترخیص فی الفعل مع العلم بعدم الحرمـة ولا فی الترک مع العلم بعدم الوجوب ، فالترخیص فیهما معاً إنّما هو إذا لم یعلم عدم الحرمـة ولا عدم الوجوب ، بل دار الأمر بینهما ، کما فی المقام ، فمفاد کلامـه الأخیر هو اختصاص مورد أصالـة الإباحـة التی مرجعها إلی الترخیص فی الفعل والترک بصورة دوران الأمر بین المحذورین ، إذ لا یعقل الترخیص فیهما معاً فی غیرها ، ومقتضی کلامـه الأوّل هو اختصاص موردها بغیر صورة الدوران بین المحذورین ، وهذا تهافت فاحش ، فتدبّر .
الرابع : أنّ ما ذکره من منافاة أصالـة الإباحـة بمدلولها المطابقی مع المعلوم بالإجمال محلّ نظر ، بل منع ؛ لأنّ ذلک مبنی علی أن یکون مفاده هو الرخصـة فی الفعل والترک معاً ، مع أنّ مثل قولـه : « کلّ شیء حلال حتّی تعرف أنّـه حرام » إنّما یدلّ علی مجرّد الترخیص فی الفعل فی مقابل الحرمـة ، ولا یدلّ علی الترخیص فی الفعل والترک معاً حتّی ینافی المعلوم بالإجمال . فمفاد أصالـة الإباحـة بمقتضی دلیلها هو مجرّد نفی الحرمـة وجعل الترخیص الظاهری بالنسبـة إلی الفعل ، وهذا لا ینافی الوجوب ، کما هو واضح .
هذا مضافاً إلی أنّـه علی فرض التنافی والمناقضـة لا بأس بذلک ، لأنّـه کالمناقضـة بین الأحکام الظاهریّـة والأحکام الواقعیـة ، فما قیل فی الجمع بینهما یقال هنا أیضاً . هذا کلّـه فی أصالـة الإباحـة .
[[page 74]]وأمّا الاستصحاب : فمحصّل ما أفاده قدس سره فی وجـه عدم جریانـه أیضاً أنّـه لمّا کان الاستصحاب من الاُصول التنزیلیـة فلا یمکن الجمع بین مؤدّاه والعلم الإجمالی ، فإنّ البناء علی عدم وجوب الفعل وعدم حرمتـه واقعاً ـ کما هو مفاد الاستصحابین ـ لا یجتمع مع العلم بوجوب الفعل أو حرمتـه .
وإن شئت قلت : إنّ البناء علی مؤدّی الاستصحابین ینافی الموافقـة الإلتزامیـة فإنّ التصدیق بأنّ للّٰه تعالی فی هذه الواقعـة حکماً إلزامیاً لا یجتمع مع البناء علی عدم الوجوب والحرمـة واقعاً ، انتهی .
وفیـه : منع کون الاستصحاب من الاُصول التنزیلیـة بهذا المعنی ، فإنّـه لیس فی شیء من أدلّتـه ما یدلّ أو یشعر بذلک إلاّ ما فی صحیحـة زرارة الثالثـة من قولـه علیه السلام : « فیبنی علیـه » ولکن لا یخفی أنّ المراد بالبناء علی المتیقّن هو البناء العملی لا البناء القلبی علی أنّ الواقع أیضاً کذلک حتّی ینافی الموافقـة الالتزامیـة علی تقدیر تسلیم لزومها فلا بأس بجریان الاستصحابین والبناء العملی علی طبقهما ، ولا منافاة بینهما وبین العلم الإجمالی بالوجوب أو الحرمـة أصلاً ، لما مرّ فی أصالـة الإباحـة فراجع . إلاّ أن یکون الوجـه فی عدم جریان الاُصول فی أطراف العلم الإجمالی هو التناقض فی أدلّـة الاُصول ، فإنّـه حینئذٍ لا مجال لجریان الاستصحابین ، کما لایخفی .
هذا کلّـه مع کون الطرفین مساویـین من حیث المزیّـة والترجیح .
[[page 75]]