مفاد أخبار من بلغ
وإذا انتهی الکلام إلی ذکر أخبار من بلغ فینبغی التعرّض لبیان مفادها ، فنقول : ذکر المحقّق الخراسانی قدس سره فی الکفایـة : أنّـه لا یبعد أن یقال بدلالـة بعض تلک الأخبار علی استحباب ما بلغ علیـه الثواب ، فإنّ صحیحـة هشام بن سالم المحکیّـة عن المحاسن عن أبی عبداللّٰه علیه السلام قال : « من بلغـه عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم شیء من الثواب فعملـه کان أجر ذلک لـه وإن کان رسول اللّٰه صلی الله علیه و آله وسلم لم یقلـه » ظاهرة فی أنّ الأجر کان مترتّباً علی نفس العمل الذی بلغـه عنـه صلی الله علیه و آله وسلم أنّـه ذو ثواب ، وکون العمل متفرّعاً علی البلوغ وکونـه الداعی إلی العمل غیر موجب لأن یکون الثواب مترتّباً علیـه فیما إذا أتی برجاء أنّـه مأمور بـه وبعنوان الاحتیاط بداهـة أنّ الداعی إلی العمل لا یوجب لـه وجهاً وعنواناً یؤتی بـه بذلک الوجـه والعنوان ، وإتیان العمل بداعی طلب قول النبی صلی الله علیه و آله وسلم کما قیّد بـه فی بعض الأخبار وإن کان انقیاداً ، إلاّ أنّ الثواب فی الصحیحـة إنّما رتّب علی نفس العمل ، ولا موجب لتقیـیدها بـه ، لعدم المنافاة بینهما ، انتهی .
وأفاد المحقّق النائینی علی ما فی تقریرات بحثـه ما ملخّصـه : إنّ الوجوه المحتملـة فی هذه الأخبار من حیث الدلالـة ثلاثـة :
أحدها : أن یکون مفادها مجرّد الإخبار عن فضل اللّٰه سبحانـه من غیر نظر
[[page 27]]إلی حال العمل وأنّـه علی أیّ وجـه یقع . وبعبارة اُخری : أنّها ناظرة إلی العمل بعد وقوعـه وأنّ اللّٰه تعالی حسب فضلـه ورحمتـه یعطی الثواب الذی بلغ العامل وإن تخلّف قول المبلّغ عن الواقع .
ثانیها : أن تکون الجملـة الخبریّـة بمعنی الإنشاء ، ویکون مفاد قولـه علیه السلام : « فعملـه » أو « ففعلـه » الأمر بالفعل والعمل ، کما هو الشأن فی غالب الجمل الخبریّـة الواردة فی بیان الأحکام ، سواء کانت بصیغـة الماضی کقولـه علیه السلام : « من سرّح لحیتـه فلـه کذا » ، أو بصیغـة المضارع کقولـه : « یسجد سجدتی السهو » ، وعلیـه فمقتضی إطلاق البلوغ القول باستحباب العمل مطلقاً ، سواء کان قول المبلّغ واجداً لشرائط الحجّیـة أو لم یکن ، وهذا ـ أی کون الجملـة الخبریّـة بمعنی الإنشاء وأنّها فی مقام بیان استحباب العمل ـ یمکن أن یکون علی أحد وجهین :
أحدهما : أن تکون القضیّـة مسوقـة لبیان اعتبار قـول المبلغ وحجّیتـه ، سواء کان واجداً لشرائط الحجّیـة أو لم یکن ، کما هو ظاهـر الإطلاق ، فیکون مفاد الأخبار مسألـة اُصولیّـة مرجعها إلی حجّیـة الخبر الضعیف فی باب المستحبّات . ففی الحقیقـة تکون أخبار مـن بلغ مخصّصـة لما دلّ علی اعتبار الوثاقـة أو العدالـة فی الخبر وأنّها تختص بالخبر القائم علی وجوب الشیء ،
[[page 28]]ولا یعمّ الخبر القائم علی الاستحباب .
فإن قلت : کیف تکون أخبار من بلغ مخصّصـة لما دلّ علی اعتبار الشرائط فی حجّیـة الخبر ، مع أنّ النسبـة بینهما العموم من وجـه ، حیث إنّ ما دلّ علی اعتبار الشرائط یعمّ الخبر القائم علی الوجوب وعلی الاستحباب ، وأخبار من بلغ وإن کانت تختصّ بالخبر القائم علی الاستحباب ، إلاّ أنّـه أعمّ من أن یکون واجداً للشرائط وفاقداً لها ، ففی الخبر القائم علی الاستحباب الفاقد للشرائط یقع التعارض ، ولا وجـه لتقدیم أخبار من بلغ .
قلت : ـ مع أنّـه یمکن أن یقال : إنّ أخبار من بلغ ناظرة إلی إلغاء الشرائط فی الأخبار القائمـة علی المستحبّات فتکون حاکمـة علی ما دلّ علی اعتبار الشرائط فی أخبار الآحاد ، وفی الحکومـة لا تلاحظ النسبـة ـ إنّ الترجیح لأخبار من بلغ ؛ لعمل المشهور بها ، مع أنّـه لو قدّم ما دلّ علی اعتبار الشرائط فی مطلق الأخبار لم یبق لأخبار من بلغ مورد ، بخلاف ما لو قدّمت أخبار من بلغ ، وهذا الوجـه ـ أی الوجـه الثانی ـ أقرب کما علیـه المشهور ، انتهی ملخّص موضع الحاجـة من کلامـه قدس سره .
وفیـه وجوه من النظر :
أمّا أوّلاً : فلأنّ جعل أخبار من بلغ مخصّصـة أو معارضـة لما دلّ علی اعتبار الشرائط فی أخبار الآحاد ممّا لا وجـه لـه ، بعد کون کلّ منهما مثبتاً ، فإنّ ما دلّ علی اعتبار خبر الثقـة مطلقاً لا ینفی ما یدلّ علی اعتبار الخبر مطلقاً فی باب المستحبّات ولا مضادّة بینهما حتّی یجعل الثانی مخصّصاً أو معارضاً . نعم فی بعض
[[page 29]]أدلّـة اعتبار خبر الثقـة ما یشعر بعدم حجّیـة قول الفاسق کآیـة النبأ ، ولکنّـه کما عرفت لا یخلو من المناقشـة .
وثانیاً : فإنّـه لو سلّم التعارض فجعل أخبار من بلغ حاکمـة علی ما یدلّ علی اعتبار الشرائط فی الخبر الواحد ممّا لا وجـه لـه ، فإنّ ملاک الحکومـة أن یکون الدلیل الحاکم ناظراً إلی الدلیل المحکوم ومتعرّضاً لحالـه من حیث السعـة والضیق وهذا الملاک مفقود فی المقام ، فإنّ غایـة ما یدلّ علیـه أخبار من بلغ بناءً علی هذا القول هو بیان حجّیـة الخبر مطلقاً فی المستحبّات . وأمّا کونها ناظرة إلی تلک الطائفـة ومفسّرة لها فلا یظهر منها أصلاً ، کما لایخفی .
وثالثاً : فما أفاد من أنّـه لو قدّم ما دلّ علی اعتبار الشرائط فی مطلق الخبر لم یبق لأخبار من بلغ مورد ، محلّ نظر ؛ لأنّ هذه الأخبار کما اعترف قدس سره تکون شاملـة بإطلاقها لخبر الثقـة وغیرها وإخراج الثانی من تحتها لا یوجب أن لا یکون لها مورد بعد بقاء الأوّل مشمولاً لها ، ولا یلزم أن یکون المورد الباقی مختصّاً بهذه الأخبار ، مع أنّ جعل ذلک مـن المرجّحات ممّا لا دلیل علیـه ، فإنّـه لم یذکر فی باب التراجیح أنّ من جملـة المرجّحات خلوّ الدلیل الراجح عن المورد ، کما لایخفی .
والأظهر فی بیان مفاد أخبار من بلغ أن یقال : إنّها بصدد جعل الثواب لمن بلغـه ثواب علی عمل ، فعملـه رجاء إدراک ذلک الثواب ، نظیر الجعل فی باب الجعالـة والغرض من هذا الجعل التحریص والترغیب علی إتیان مؤدّیات الأخبار الواردة فی السنن ، لئلاّ تفوت السنن الواقعیـة والمستحبّات النفس الأمریّـة ، فالغرض منـه هو التحفّظ علیها بالإتیان بکلّ ما یحتمل کونـه سنّـة ، سواء کان بلغ استحبابـه بسند معتبر أو غیره .
[[page 30]]وحینئذٍ : فلا یستفاد من هذه الأخبار استحباب العمل الذی بلغ استحبابـه مطلقاً ، بحیث کان ترتّب الثواب علیـه لخصوصیـة فی نفس العمل ومزیّـة فیـه مقتضیـة لـه ، بل مفادها مجرّد جعل الثواب علیـه تفضّلاً لأجل التحفّظ علی المستحبّات التی تکون فیها خصوصیـة راجحـة ویکون ترتّب الثواب علیها لأجلها . فهذه الأخبار نظیر الأخبار الدالّـة علی ترتّب الثواب علی المشی إلی الحجّ أو زیارة قبر أبی عبداللّٰه الحسین علیه السلام ؛ فإنّ المشی إنّما یکون مقدّمـة ، والمقدّمـة لا تکون راجحـة ذاتاً محبوبةً بنفسها ، ولکن جعل الثواب علیها إنّما هو لأجل الحثّ والتحریک علی ذی المقدّمـة ، کما لایخفی .
ومن هنا یظهر الخلل فیما أفاده المحقّق الخراسانی قدس سرهفی الکفایـة ممّا تقدّم نقلـه ، فتدبّر جیّداً .
[[page 31]]