تصویر الأمر بالمهمّ بنحو الترتّب
الرابع من الوجوه المحرّرة لردّ دعوی شیخنا البهائی ما سلکـه أساطین العلم ، آخذین بنیانه من الشیخ الأکبر کاشف الغطاء ؛ وإن کان لبّه موجوداً فی کلمات المحقّق الثانی قدس سره ، وقد بالغ مشاهیر العصر فی الفحص والتحقیق حوله ، وکلٌّ أوضحه ببیان خاصّ إلاّ أنّ مغزی الغالب یرجع إلی ما أفاده السیّد المجدّد الشیرازی ، ونقّحه بعده تلمیذه الجلیل السیّد المحقّق الفشارکی ، وأوضحه وفصّله بعض أعاظم العصر بترتیب مقدّمات وذکـر اُمـور ، ونحـن نذکر تلک المقدّمـات مع ما فیها من الأنظار :
المقدّمة الاُولی :
أنّ المحذور إنّما ینشأ من إیجاب الجمع بین الضدّین المستلزم للتکلیف بما لا یطاق ، ولابدّ لرفع هذا المحذور من سقوط ما هو موجب له لاغیر ، فإذا کان الخطابان طولیین لایلزم منه ذلک ، کما سیأتی .
فحینئذٍ : یقع الکلام فی أنّ الموجب لذلک هل هو نفس الخطابین حتّی یسقطا ، أو إطلاقهما حتّی یسقط إطلاق خطاب المهمّ فقط ، ویصیر مشروطـاً بعصیان الأهمّ .
[[page 447]]ثمّ قال : والعجب من الشیخ الأنصاری مع إنکاره الترتّب ذهب فی تعارض الخبرین علی السببیة إلی ما یلزم منه الالتزام بخطابین مترتّب کلّ منهما علی عدم امتثال الآخر ، فلیت شعری لو امتنع ترتّب أحد الخطابین علی عدم امتثال الآخر ، فهل ضمّ ترتّب إلی مثله یوجب ارتفاع المحذور ؟ إلاّ أنّ الاشتباه من الأساطین غیر عزیز .
أقول : هذه المقدّمة سیقت لبیان محطّ البحث ، ولا إشکال فیها من هذه الجهة ، إلاّ أنّ رمی الشیخ الأعظم قدس سره بالترتّب من الجانبین ، واستظهار ذلک من عبارته من الغرائب جدّاً ، نشأ ذلک من قلّة التأمّل فی عبارته . وإلیک نصّ عبارته :
قال قدس سره ـ بعد إیراد شبهة فی وجوب الأخذ بأحد المتعارضین بناء علی السببیة ـ : إنّ الحکم بوجوب الأخذ بأحد المتعارضین فی الجملة وعدم تساقطهما لیس لأجل شمول اللفظ لأحدهما علی البدل ؛ من حیث هذا المفهوم المنتزع ؛ لأنّ ذلک غیر ممکن ، کما تقدّم وجهه فی بیان الشبهة .
لکن لمّا کان امتثال التکلیف بکلّ منهما کسائر التکالیف الشرعیة والعرفیة مشروطاً بالقدرة ، والمفروض أنّ کلاًّ منهما مقدور فی حال ترک الآخر وغیر مقدور مع إیجاد الآخر فکلّ منهما مع ترک الآخر مقدور یحرم ترکه ویتعیّن فعله ، ومع إیجاد الآخر یجوز ترکه ولایعاقب علیه .
فوجوب الأخذ بأحدهما نتیجة أدلّة وجوب الامتثال ، والعمل بکلّ منهما بعد تقیید وجوب الامتثال بالقدرة ، وهذا ممّا یحکم به بدیهة العقل ، انتهی .
وأنت خبیر : بأنّه أجنبی عن الترتّب ؛ فضلاً عن الترتّبین اللذین یحکم العقل
[[page 448]]بامتناعهما ؛ للزوم تقدّم الشیء علی نفسه ؛ إذ الترتّب ـ باعتبار أنّه عبارة عن تقیید أمر المهمّ بعصیان الأهمّ ـ تقیید فی مقام التکلیف وعلاج فی مقام الأمر ولکن التقیید بعدم الإتیان علاج فی مقام الامتثال والإطاعة ؛ بمعنی حکم العقل بصرف القدرة فی واحد منهما علی القول بالسببیة ؛ وهو تصرّف فی مقام الامتثال بلا تصرّف فی نفس الأدلّة ، کما عرفت تفصیله منّا والتقیید فی هذا المقام لحکم عقلی لیس للشارع تصرّف فیه وتعبّد بالنسبة إلیه وأین هذا من الترتّب المتقوّم باشتراط التکلیف بعصیان الآخر فی مقام الجعل ؟ !
أضف إلی ذلک : أنّا سلّمنا کون کلامه ناظراً إلی التصرّف فی نفس الأدلّة ، إلاّ أنّ الترتّب متقوّم باشتراط التکلیف بعصیان الآخر ، وما ذکره الشیخ الأعظم متقوّم بتقیید کلّ واحد من الدلیلین بعدم إتیان الآخر ، وکم فرق بینهما ؛ لأنّ الأوّل مناط الترتّب ؛ لأنّ الأمر المتعلّق بالمهمّ یتأخّر عن شرطه ، وهو یتأخّر عن نفس الأمر المتعلّق بالأهمّ ، والثانی مناط التخییر ونتیجته ، کما لایخفی .
والعجب : أنّه خلط بینهما ، إلاّ أنّ الاشتباه من الأعاظم غیر عزیز ، فافهم .
المقدّمة الثانیة :
أنّ الواجب المشروط لایخرج عمّا هو علیه بعد حصول شرطه ؛ لأنّ شرائط التکلیف کلّها ترجع إلی قیود الموضوع ، والحکم المجعول علی موضوعه لاینقلب عمّا هو علیه ؛ إذ لایخرج الموضوع عن کونه موضوعاً .
والسرّ فیه : أنّ القضایا الشرعیة علی نهج القضایا الحقیقیة لا الخارجیة ، فالقائل بالانقلاب قوله مساوق للقول بأنّ الموضوع بعد وجوده ینسلخ عن موضوعیته .
[[page 449]]ولا یبعد أن یکون ذلک من جهة خلط موضوع الحکم بداعی الجعل وعلّة التشریع بتوهّم أنّ شرط التکلیف خارج من موضوعه ، بل هو من قبیل الداعی لجعل الحکم علی موضوعه ، فبعد وجوده یتعلّق الحکم بموضوعه ، ولا یبقی للاشتراط مجال .
وقد بیّنا أنّ کون شرط الحکم من قبیل دواعی الجعل یبتنی علی أن تکون القضایا المتکفّلة لبیان الأحکام الشرعیة من قبیل الإخبار من إنشاء تکالیف عدیدة ، یتعلّق کلّ واحد منها بمکلّف خاصّ عند تحقّق شرطه .
والمحقّق الخراسانی ـ مع اعترافه برجوع الشرط إلی الموضوع ـ ذهب فی جملة من الموارد إلی کون الشرط من علل التشریع ، وهذا الخلط وقع فی جملة من المباحث ؛ منها هذا المقام ؛ فإنّه توهّم فیه أنّه بعد عصیان الأمر بالأهمّ یکون الأمر بالمهمّ مطلقاً ، انتهی بتلخیص .
قلت وفیه أمّا أوّلاً : فإنّ بقاء الواجب المشروط علی ما هو علیه بعد حصول شرطه لایحتاج إلی ما أتعب به نفسه الشریفة ؛ لأنّک قد عرفت أنّ القیود بحسب نفس الأمر علی قسمین :
قسم یرجع إلی المادّة والمتعلّق ؛ بحیث لایعقل إرجاعه إلی الحکم والإرادة ، کما إذا تعلّق بالصلاة فی المسجد غرض مطلق ، فالوجوب المطلق توجّه إلی الصلاة فی المسجد ، فیجب علی العبد بناء المسجد والصلاة فیه .
وقسم یرجع إلی الوجوب والحکم ، ولا یعقل عکسه ، کما إذا لم یتعلّق بإکرام
[[page 450]]الضیف غرض معتدّ به ، بل ربّما یبغض الضیف ؛ فضلاً عن إکرامه ، إلاّ أنّه إذا ألمّ به ونزل فی بیته یتعلّق به الغرض ، ویحکم علی عبیده بأن یکرموه إذا نزل .
فالقید ـ حینئذٍ ـ قید لنفس التکلیف ، لایعقل إرجاعه إلی المادّة ؛ لأنّه یستلزم أن یتعلّق بإکرامه إرادة مطلقة ، فیجب علیهم تحصیل الضیف وإنزال الضیف فی بیته ، وقد فصّلنا ذلک فی محلّه .
فحینئذٍ : فالقائل بصیرورة الحکم المشروط مطلقاً إمّا أن یقول بتبدّل الإرادة إلی اُخری ، وذلک مستحیل فی حقّه تعالی ؛ لاستلزامه التغیّر فی ذاته ، سبحانه تعالی عن وصمة الحدوث والتغیّر ، بل یمتنع فی حقّ غیره ؛ لأنّها بسیطة والبسائط لایمکن أن یدخلها التبدّل .
و إمّا أن یقول بتعلّق إرادة جدیدة بالحکم رأساً ، وهو أیضاً مستحیل ؛ لامتناع تجدّد الأحوال فیه تعالی ، مع أنّه خروج من الفرض ـ أعنی صیرورة المشروط مطلقاً ـ لأنّه تجدّد إرادة لاصیرورة إرادة مشروطة إرادة مطلقة .
وإمّا أن یقول بتبدّل إرادة التشریع بالاُخری ، وذلک أیضاً مستحیل ؛ لما ذکر ولانتهاء أمد التشریع بتحقّقه . فلا یبقی إرادة تشریعیة حتّی تتبدّل ، لو فرض جواز هذه الاُمور فی حقّه تعالی .
وتوهّم : أنّ معنی الصیرورة هو تبدّل الحکم المنشأ علی نحو المشروط إلی الإطلاق باطل ؛ لأنّ ما شرّع وإن کان أمراً اعتباریاً إلاّ أنّه لاینقلب عمّا هـو علیه إلاّ باعتبار جـدید ؛ وهـو إنشاء حکم آخـر مطلق بعد حصول المشروط ، لکنّـه خلاف المفروض .
[[page 451]]وبالجملة : خروج الحکم المجعول عمّا هو علیه لا معنی معقول له . نعم قبل تحقّق الشرط لم یأن آن امتثاله ، وبعده یحضر وقت امتثاله ویصیر حجّة علی العبد مع کونه مشروطاً .
فظهر : أنّ ما ذکره قدس سره من إرجاع شرائط الحکم إلی الموضوع تبعید للمسافة ، بلا توقّف للمطلوب علیه .
وثانیاً : أنّ إرجاع جمیع الشروط إلی الموضوع یستلزم إلغاء ما هو الدائر بین العقلاء ؛ من إنشاء الحکم علی قسمین ، بل ظهور الإرادة علی ضربین ، وقد عرفت أنّ اختلاف الواجب المشروط والمطلق لبّی واقعی ثبوتی ، فلا یجوز الإرجاع بعد کون کلّ واحد معتبراً لدی العرف ، بل بینهما اختلاف فی الآثار المطلوبة منهما فی باب الأحکام .
فعلی ما ذکره یتفاوت الرأی فی بقاء الموضوع وعدمه علی القول بشرطیة بقاء الموضوع فی جریان الاستصحاب ؛ وإن کان ما ذکروا فی ذلک المقام من شرطیة بقائه خلاف التحقیق عندنا کما سیوافیک بإذنه تعالی ؛ لأنّ إرجاع الشرط إلی الموضوع وجعله من قیوده یوجب التفاوت فی بقاء الموضوع ، بخلاف ما إذا قلنا بعدم إرجاع الشرط إلی الموضوع وجعلناه من قیود الحکم ، فیختلف الأنظار فی جریانه وعدمه ، وسیوافیک أنّ القیود الدخیلة فی جعل الحکم کلّیاً کلّها من مقوّمات الموضوع لا من حالاته ، فارتقب .
[[page 452]]فإن قلت : إنّ لازم ذلک کون کلّ من السبب والشرط أمراً تکوینیاً مؤثّراً فی المسبّب والمشروط تکویناً ، وعلیه فیخرج زمام أمرهما من ید الشارع ، وهو واضح الفساد .
قلت : إنّ جعل السببیة والشرطیة تشریعاً لشیء ، وإن شئت قلت : إنّ اعتبار السببیة والشرطیة لشیء لایوجب انقلاب التشریع إلی التکوین ، ولا خروج الأمر من ید الجاعل ، کما هو واضح ؛ لأنّ الاعتبار وضعه ورفعه ونسخه وإبقاؤه فی یده .
نعم ، لو اعتبر الشیء سبباً أو شرطاً لایجوز له التخلّف عمّا جعل ، وإلاّ یلزم اللغویة فی الاعتبار . اللهمّ إذا أراد نسخه ، وهو خلاف المفروض .
والحاصل : أنّه لا وجه لرفع الید عن الظواهر بغیر دلیل ، هذا بناءً علی جعل السببیة والشرطیة ، وأمّا بناءً علی جعل الحکم مترتّباً علی شیء فالأمر أوضح .
وثالثاً : أنّ ما ذکره من توهّم الخلط بین موضوع الحکم وبین داعی الجعل وعلّة التشریع ؛ بتوهّم أنّ شرائط التکلیف من قبیل الداعی لجعل الحکم واضح البطلان ؛ لأنّ الأمر لیس منحصراً فی کون الشیء من قیود الموضوع ؛ أعنی المکلّف البالغ العاقل ، أو من دواعی الجعل التی هی غایات التشریع وجعل الحکم .
بل هنا أمر ثالث ؛ أعنی کون الشیء من قیود المتعلّق ؛ أعنی نفس الصلاة ، کما مثّلناه من إیجاب الصلاة فی المسجد علی عبیده .
وأمر رابع ؛ وهو أن یکون من شروط الحکم والمجعول ، کما فی المثال الثانی «إذا جاءک الضیف أکرمه» .
والحاصل : أنّ شرائط التکلیف غیر قیود الموضوع وغیر دواعی الجعل ، ولیست من قیود المتعلّق بل من شرائط المجعول ، وهو رحمه الله خلط بین شرائط المجعول ودواعی الجعل ، مع أنّهما مفترقان ؛ لأنّ دواعی الجعل هی غایات جعل
[[page 453]]الأحکام ـ وضعیة کانت أو تکلیفیة ، مطلقة کانت أو مشروطة ـ وشرائط التکلیف ـ أی المجعول الاعتباری ـ ما یکون الحکم معلّقاً علیه ومنوطاً به ، وهی غیر مربوطة بقیود الموضوع ودواعی الجعل وقیود المتعلّق ، بل إرجاع الشرائط إلی قیود الموضوع یرجع إلی إنکار الواجب المشروط .
ثمّ إنّ کون القضایا حقیقیة لا خارجیة أجنبی عن المطلب ، کما أنّ القول بالانقلاب أجنبی عن انسلاخ الموضوع عن الموضوعیة ، کما یظهر بالتأمّل ، والتطویل موجب للملال .
المقدّمة الثالثة :
التی هی أهمّ المقدّمات عندنا فی استنباط الترتّب ، وعلیها یدور رحاه ـ وإن ظنّ القائل أنّها غیر مهمّة ـ وهی أنّ المضیّق علی قسمین :
قسم اُخذ فیه الشیء شرطاً للتکلیف بلحاظ حال الانقضاء ، کالقصاص والحدود ؛ فإنّ القصاص مترتّب علی مضی القتل وانقضائه ؛ ولو آناً ما .
وقسم اُخذ فیه الشیء شرطاً بلحاظ حال وجوده ، فیثبت التکلیف مقارناً لوجود الشرط ، ولا یتوقّف ثبوته علی انقضائه ، بل یتّحد زمان وجود الشرط وزمان التکلیف وزمان الامتثال ، کأغلب الواجبات المضیّقة ، کالصوم .
ففی مثله یستحیل تخلّف التکلیف عن الشرط ـ ولو آناً ما ـ لما عرفت من رجوع کلّ شرط إلی الموضوع . ونسبة الموضوع إلی الحکم نسبة العلّة إلی المعلول ؛ فلازم التخلّف إمّا عدم موضوعیة ما فرض موضوعاً للحکم ، أو تخلّف الحکم عن موضوعه .
وکذا یستحیل تخلّف زمان الامتثال عن التکلیف ؛ لأنّ التکلیف یقتضی
[[page 454]]الامتثال . فنسبة اقتضاء التکلیف للحرکة کنسبة اقتضاء حرکة الید لحرکة المفتاح . نعم الفرق بین المقام والعلل التکوینیة هو دخل العلم والإرادة فی الامتثال ، دون العلل التکوینیة .
وبالجملة : مقتضی البرهان : هو أن لایتخلّف التکلیف عن الشرط ولا الامتثال عن التکلیف زماناً ، بل یتقارنان فی الزمان ؛ وإن کان بینهما تقدّم وتأخّر رتبی .
إلی أن قال : إذا عرفت ذلک ظهر لک دفع بعض الإشکالات فی المقام :
منها : أنّه یتوقّف صحّة الخطاب الترتّبی علی صحّة الواجب المعلّق .
وأجاب عنه : بأنّ ذلک مبنی علی مبنی فاسد ؛ وهو لزوم تأخّر زمان الامتثال عن الأمر ، وقد عرفت فساده .
ومنها : أنّ خطاب المهمّ لو کان مشروطاً بنفس عصیان الأهمّ لزم خروج المقام عن الترتّب ، ولو کان مشروطاً بعنوان انتزاعی ؛ أی کون المکلّف ممّن یعصی یلزم الأمر بالجمع بین الضدّین ، وهو محال .
وأجاب عنه : بأنّا نختار الشقّ الأوّل ، وتوهّم استلزامه تأخّر طلب المهمّ عن عصیان الأمر بالأهمّ زماناً إنّما یتمّ علی القول بلزوم تأخّر الخطاب عن شرطـه ، وأمّا علی ما حقّقناه من مقارنة الخطاب بوجود شرطه فلابدّ من فعلیة خطاب المهمّ فی زمان عصیان خطاب الأهمّ ، بلا تقدّم وتأخّر بینهما خارجاً .
ونختار الشقّ الثانی ، ولایلزم منه طلب الجمع بین الضدّین ؛ بداهة أنّ عنوان التعقّب بالمعصیة إنّما ینتزع من المکلّف بلحاظ تحقّق عصیانه فی ظرفه المتأخّر ، فإذا فرض وجود المعصیة فی ظرفها وکون التعقب بها شرطاً لخطاب المهمّ فیکون الحال فیه بعینه الحال فی فرض کون نفس العصیان شرطاً لطلب المهمّ .
[[page 455]]وبالجملة : فرض تحقّق امتثال طلب الأهمّ فی ظرفه هادم لشرط خطاب المهمّ ، فکیف یمکن أن یکون المهمّ مطلوباً فی ظرف وجود الأهمّ لیرجع الأمر إلی طلب الجمع بین الضدّین ؟ انتهی .
أقول : ما ذکره قدس سره من عدم تأخّر الحکم عن شرطه زماناً متین جدّاً ؛ سواء جعلت الشرائط من قیود الموضوع أم لا ، ولو فرضنا صحّة مدّعاه الثانی أیضاً ـ وهی عدم إمکان تخلّف البعث عن اقتضاء الانبعاث زماناً ـ وأنکرنا الواجب التعلیقی لما کان یجدیه أصلاً ، لأنّ ما أجاب به عن الإشکال الواقع فی کلامـه من أنّ خطاب المهمّ لو کان مشروطاً بنفس عصیان الأهمّ لزم خروج المقام عن الترتّب . . . إلی آخره لایخلو عن خلط .
وتوضیحه : أنّ کلّ شرط إنّما یتقدّم رتبة علی مشروطه فی ظرف تحقّقه لا حال عدمه .
وبعبارة اُخری : أنّ الشرط بوجوده یتقدّم علی المشروط ؛ تقدّماً رتبیاً ، فقبل وجود الشرط لایمکن تحقّق المشروط بالضرورة . فحینئذٍ یلاحظ : فإن کان الشرط أمراً زمانیاً فلابدّ من تحقّقه فی زمانه حتّی یتحقّق بعده مشروطه بلا فترة بینهما ، وکذا لو کان غیر زمانی .
فإذا فرضنا واجبین مضیّقین أحدهما أهمّ ، کإنقاذ الابن فی أوّل الزوال ، وإنقاذ العمّ فی أوّله أیضاً ، ویکون ظرف إنقاذ کلّ منهما ساعة بلا نقیصة ولا زیادة ، فمع أمر المولی بإنقاذ الابن مطلقاً لایعقل تعلّق أمره بإنقاذ العمّ ؛ مشروطاً بعصیان أمر الأهمّ ؛ لأنّ العصیان عبارة عن ترک المأمور به بلا عذر فی مقدار من الوقت
[[page 456]]یتعذّر علیه الإتیان بعد ، ولا محالة یکون ذلک فی زمان ، ولا یعقل أن یکون الترک فی غیر الزمان محقّقاً للمعصیة ؛ لعدم تحقّق الفوت به .
ففوت الأهمّ المحقّق لشرط المهمّ لایتحقّق إلاّ بمضیّ زمان لایتمکّن المکلّف بعده من إطاعة أمره ، ومضیّ هذا الزمان کما أنّه محقّق فوت الأهمّ محقّق فوت المهمّ أیضاً . فلا یعقل تعلّق الأمر بالمهمّ فی ظرف فوته ؛ ولو فرض الإتیان به قبل عصیان الأهمّ یکون بلا أمر ، وهو خلاف مقصود القائل بالترتّب .
وبالجملة : قد وقع الخلط فی کلامه بین عدم تخلّف الشرط عن التکلیف وعدم تخلّف التکلیف عن اقتضاء الانبعاث ، وبین لزوم کون الشرط بوجوده مقدّماً علی المشروط وظنّ أنّ التقدّم الرتبی یدفع الإشکال غفلة عن أنّ العصیان ما لم یتحقّق لایعقل تعلّق الأمر بالمهمّ ؛ لامتناع تحقّق المشروط قبل شرطه ، وبتحقّقه یفوت وقتی الأهمّ والمهمّ فی المضیّقین . ولو فرض زمان إطاعة المهمّ بعد زمان عصیان الأهمّ یخرج عن فرض الترتّب .
والعجب : أنّه تنبّه للإشکال وتخیّل أنّ التأخّر الرتبی یدفعه ، مع أنّه لایندفع إلاّ بصیرورة العصیان غیر زمانی . علی أنّه لا معنی للعصیان الرتبی ؛ لأنّ ترک المأمور به إلی أن یفوته ویتعذّر علیه لایکون إلاّ فی الزمان ، ویعدّ من الاُمور الزمانیة لا الرتب العقلیة ، کما هو واضح .
وبذلک ظهر لک ما أوعزنا إلیه : من أنّ إصلاح هذه المقدّمة من أهمّ المقدّمات ، وإن ظنّه المستدلّ غیر مهمّ ، وإلاّ فما ذکرنا من الإشکال یهدم أساس الترتّب ؛ سواء کان الواجبان مضیّقین أم مضیّقاً وموسّعاً :
أمّا الأوّل فقد عرفت ، وأمّا الثانی فبعین ما ذکرناه ؛ لأنّه إذا فرض کون أحدهما موسّعاً لکن یکون أوّل زمانه أوّل الزوال الذی هو ظرف إتیان المضیّق .
[[page 457]]فحینئذٍ لا یعقل تعلّق الأمر بالموسّع أوّل الزوال مشروطاً بعصیان المضیّق ؛ لما عرفت من أنّ العصیان عبارة عن ترک المأمور به فی مقدار من الزمان الذی یفوت بمضیّه الأهمّ ، فلابدّ من تعلّق الأمر بالموسّع بعد مضیّ زمان یتحقّق به العصیان ، وهو یهدم أساس الترتّب .
وکذا الحال لو فرض أنّ العصیان آنی الوجود ؛ لأنّه قبل مضیّ هذا الآن لا یتحقّق شرط المهمّ ، فیکون ظرف تحقّق أمر الأهمّ فقط ، وبتحقّق هذا الآن سقط أمر الأهمّ بحصول العصیان ومضیّ أمد اقتضائه ، ولایعقل بقاؤه علی فعلیته بعد عصیانه ومضیّ وقته .
فظهر : أنّ تفویت متعلّق الأهمّ فی آنٍ متقدّم علی تعلّق أمر المهمّ ، ولکن سقوط أمر الأهمّ وثبوت أمر المهمّ فی رتبة واحدة أو آنٍ واحد ، فأین اجتماعهما ؟
وإن شئت قلت : إنّ اجتماعهما مستلزم لتقدّم المشروط علی شرطه ، أو بقاء فعلیة الأمر بعد عصیانه ومضیّ وقته ، وکلاهما باطلان . هذا کلّه إذا کان العصیان بوجوده الخارجی شرطاً ، کما أصرّ به المستدلّ .
وأمّا إذا کان العنوان الانتزاعی کـ ـ الذی یعصی ـ شرطاً فلا إشکال فی لزوم مفسدة طلب الجمع ؛ لأنّ العنوان الانتزاعی ثابت للمکلّف من أوّل الأمر . فأوّل زمان ظرف الامتثال یکون أمر المهمّ فعلیاً لحصول شرطه ، ولایکون أمر الأهمّ ساقطاً ؛ لعدم الامتثال وعدم مضیّ وقته .
فلا محالة یتوجّه إلی المکلّف أمران فعلیان : أحدهما بعنوان «الذی یعصی» ، فیأمره بإنقاذ العمّ فی أوّل الزوال ، وثانیهما بعنوان آخر ، فیأمره بإنقاذ الابن فیه .
ومجرّد أخذ العنوان الانتزاعی من العاصی بلحاظ ظرف العصیان لایدفع التضادّ ؛ لأنّ ملاک دفع التضادّ بین أمر المهمّ المشروط بالعصیان وأمر الأهمّ لیس إلاّ
[[page 458]]عدم اجتماعهما فی آنٍ واحد ، لاکونهما فی رتبتین کما زعمه المستدلّ . وسیأتی فساده فی المقدّمة التالیة ، وعند التعرّض لبعض أمثلة الترتّب ، فارتقب .
المقدّمة الرابعة :
وقد عدّها المستدلّ من أهمّ المقدّمات ، وذکر أنّه علیها یبتنی أساس الترتّب ، وسیتّضح عدم دخالتها فی رفع الإشکال .
ومحصّلها : أنّ انحفاظ کلّ خطاب بالنسبة إلی ما یتصوّر من التقادیر علی أنحاء :
الأوّل : ما یکون انحفاظه بالإطلاق والتقیید اللحاظی ، وذلک بالنسبة إلی کلّ تقدیر یمکن لحاظه عند الخطاب ؛ وهی التقادیر المتصوّرة فی المتعلّق مع قطع النظر عن الخطاب ، کقیام زید وقعوده ؛ حیث یکون الأمر بالصلاة محفوظاً عنده بالإطلاق اللحاظی ، وکالوقت حیث یکون الأمر محفوظاً معه بالتقیید اللحاظی .
الثانی : أن یکون الانحفاظ بنتیجة الإطلاق والتقیید ، کالتقادیر التی تلحق المتعلّق بعد تعلّق الخطاب به ، کالجهل والعلم بالخطاب ، فلا یمکن فیها الإطلاق والتقیید اللحاظی ، بل لابدّ : إمّا من نتیجة الإطلاق ، کما فی العلم والجهل بالحکم بعد قیام الضرورة والأدلّة علی اشتراک العالم والجاهل بالأحکام وامتناع الإهمال الثبوتی . وإمّا أن یکون الملاک محفوظاً فی تقدیر خاصّ ، فلابدّ من نتیجة التقیید .
الثالث : ما کان انحفاظ الخطاب لا بالإطلاق والتقیید اللحاظی ولا بنتیجة الإطلاق والتقیید ، وذلک فی التقدیر الذی یقتضیه نفس الخطاب ؛ وهو الفعل والترک ؛ حیث یکون انحفاظ الخطاب فی حالتی الفعل والترک بنفسه لا بإطلاقه ـ لحاظاً أو نتیجةً ـ إذ لا یعقل الإطلاق والتقیید بالنسبة إلیهما ، بل یؤخذ المتعلّق معرّی عن
[[page 459]]حیثیتهما ؛ لأنّه مع التقیید بالفعل یلزم طلب الحاصل ، ومع التقیید بالترک یلزم طلب الجمع بین النقیضین ، ومع الإطلاق کلا المحذورین .
فلیس فی الخطاب بالنسبـة إلیهما إطلاق وتقیید مطلقاً ، ولکـن مع ذلک یکون الخطاب محفوظاً بالاقتضاء الذاتی فی کلتا الحالتین ما لم یتحقّق العصیان والطاعة .
والفرق بین هذا القسم والسابقین من وجهین :
الأوّل : أنّ نسبـة تلک التقادیر السابقة إلی الخطاب نسبة العلّة إلی المعلول ؛ لمکان رجوعهـا إلی قیود الموضوع ؛ وهـی تتقدّم علی الحکم تقدّم العلّـة علی المعلول . والإطلاق أیضاً یجـری مجری العلّة ؛ مـن حیث إنّ الإطلاق والتقیید فـی رتبة واحـدة ، فالإطلاق فی رتبـة علّة الحکم . وهـذا بخلاف تقدیری فعل المتعلّق وترکـه ؛ فإنّ هـذا التقدیر معلول الخطاب ؛ لأنّ الخطـاب یقتضی فعل المتعلّق ویمنع ترکه .
الثانی : أنّ الخطاب فی التقادیر السابقة یکون متعرّضاً لبیان أمر آخر غیر تلک التقادیر ، غایته أنّه تعرّض عند وجودها ، وهذا بخلاف تقدیری الفعل والترک ؛ فإنّ الخطاب بنفسه متکفّل لبیان هذا التقدیر ؛ حیث إنّه یقتضی فعل المتعلّق وعدم ترکه .
إذا عرفت ذلک فاعلم : أنّـه یترتّب علی مـا ذکرنا طولیة الخطابین ؛ وذلک لأنّ خطاب الأهمّ یکون متعرّضاً لموضوع خطاب المهمّ ومقتضیاً لهدمه ورفعه تشریعاً ؛ لأنّ موضـوع خطاب المهمّ هـو عصیان خطاب الأهمّ . فالأهـمّ یقتضی طـرد موضوع المهمّ ، والمهمّ لایتعرّض لموضوعـه ، ولیس بینهما مطاردة ، ولیسا فی رتبة واحـدة ، بل خطاب الأهـمّ مقدّم علی خطاب المهمّ برتبتین أو ثلاث ،
[[page 460]]ومـع هـذا الاختلاف فی الرتبـة لایعقل عرضیتهما ، انتهی .
أقول : لایذهب علیک أنّ فی هذه المقدّمة مواقع للنظر ، نذکر مهمّاتها :
الأوّل : أنّ تقسیم الإطلاق والتقیید إلی اللحاظی وما هو نتیجتهما ، والفرق بینهما بأنّ نتیجة الإطلاق لابدّ فی إثباتها من دلیل آخر ممّا لا طائل تحته ، غیر أنّه تکثیر فی التقسیم والاصطلاح ، وتشویش للأذهان ؛ إذ الإطلاق ـ کما فی اللغة والعرف ـ هو المسترسل من القید مقابل التقیید ، وفی الاصطلاح جعل طبیعة ـ مثلاً ـ متعلّقاً أو موضوعاً للحکم ، من غیر تقییدها بقید ، وهو لایتقوّم باللحاظ أو بإرسال الطبیعة ساریة فی المصادیق ، بل یتقوّم بجعلها موضوعاً للحکم بلا قید .
وبذلک یبطل تقسیمه إلی ما یمکن لحاظه عند الخطاب وإلی مالا یمکن ؛ إذ قد عرفت أنّ اللحاظ وإمکانه أمر زائد علی الإطلاق ؛ لأنّ محور الاحتجاج بین الموالی والعبید هو جعل الشیء موضوعاً للحکم بلا قید ، من غیر توجّه إلی أنّ المقنّن أو الحاکم أرسل الموضوع فی المصادیق ولاحظه بالنسبة إلی التقادیر المتصوّرة فی المتعلّق ، مع قطع النظر عن الخطاب أولا ، بل لحاظ الإرسال والتقادیر ـ علی فرض إمکانه ـ مضرّ بالإطلاق .
فالحکم فی الإطلاق لیس إلاّ علی نفس الطبیعة بلا قید ، ولایکون الحاکم ناظراً إلاّ إلی موضوع حکمه ، فلحاظ التقادیر لو أمکن یهدم أساس الإطلاق .
وبعبارة اُخری : إذا قال القائل یجب علی المظاهر عتق رقبة ، ولم یقیّدها بشیء یحکم العقلاء بأنّ تمام الموضوع للوجوب عتق الرقبـة ، مـن غیر دخالـة شـیء ، ویقال : إنّ الظهار سبب لوجوب العتق مـن غیر قید ، فملاک الاحتجاج هـو
[[page 461]]أخـذ شیء سبباً أو متعلّقاً أو موضـوعاً بلا قید .
وبه یظهر : أنّ الاحتجاج به لیس لأجل أنّه من الدلالات اللفظیة ، بل لأجل أنّ المتکلّم بما أنّ بیده زمام البیان ، وهو عاقل مختار فی وضع ما یطلبه ورفع ما لایطلبه لابدّ أن یکشف عن مقصوده ویصرّح به ویجمع ما له دخل من قیوده ؛ فلو کان قید دخیلاً فی غرضه لأتی به وبیّنه ؛ إمّا فی ضمن هذا الدلیل أو بدلیل منفصل ؛ وحیث لم یأت به ـ لا فی ضمن هذا الدلیل ولا بدلیل آخر ـ یحکم العقل بأنّ ما وقع موضوعاً تمام المطلوب لا بعضه ، فیصیر من الدلالات العقلیة ، وسیجیء فی المطلق والمقیّد زیادة توضیح لذلک .
بل لو سلّم عدم إمکان التقیید بما یتأخّر عن الحکم فی هذا الحکم لایضرّ ذلک بجواز التمسّک بالإطلاق ، بعد إمکان بیان القید بدلیل آخر ، فلا نحتاج فی تسویة العالم والجاهل فی الأحکام إلی التمسّک بالإجماع ، بل التمسّک بإطلاق الأدلّة کافٍ فی إثبات المطلوب ، ولیس الشرط إمکان بیانه فی الخطاب الأوّل ، بل تمکّن المولی من بیانه بأیّ خطاب شاء .
لایقال : فرق بین ما یمکن التقیید به فی اللفظ وبین غیره ؛ بأنّ الأوّل إطلاق لفظی والآخر حالی .
لأنّا نقول : کأنّک غفلت عن أنّ الإطلاق لیس من المفاهیم التی یدلّ علیها اللفظ حتّی نجعله قسمین . أضف إلی ذلک : أنّه لایضرّ بالمطلوب ؛ لجواز التمسّک بالإطلاق الحالی لرفع احتمال القید .
ثمّ إنّک لو أحطت خبراً بما قدّمناه فی عدّة مواضع ـ خصوصاً فی تقیید مفاد الهیئة الذی یعدّ من المعانی الحرفیة ؛ حیث ذکرنا فیها : أنّ امتناع التقیید فیها ممنوع ، وعلی فرض تسلیمه إنّما هو فی النظرة الاُولی ، وأمّا إذا کان بنظر مستأنف ، کما هو
[[page 462]]الحال فی غالب القیود فلا بأس به ـ تعلم هنا أنّه لا إشکال فی إمکان النظر المستأنف فی الحکم المجعول فی الکلام وتقییده بالعلم والجهل ؛ إذ لافرق فی قوله «اعتق رقبة مؤمنة» و«اعتق رقبة معلومة الحکم» فی جواز التقیید بالنظر المستأنف .
نعم ، مالایمکن التقیید فیه مطلقاً لایجوز التمسّک فیه بالإطلاق ؛ لأنّ التمسّک لرفع القید المحتمل وهو مع امتناعه غیر محتمل ، لا لأجل ما توهّم المستدلّ من أنّ الإطلاق مستلزم لفساد التقیّدین ـ یعنی فساد التقیید بالفعل والتقیید بالترک ، وفسادهما عبارة عن طلب الحاصل وطلب الجمع بین النقیضین ـ ضرورة أنّ الإطلاق لیس الجمع بین التقییدین حتّی یلزم ما ذکر ، بل عبارة عن عدم التقیید ؛ أمکن ذلک أولا .
غایة الأمر : ما هو موضوع البحث فی باب الإطلاق والتقیید وموضوع احتجاج العقلاء هو الإطلاق الذی یمکن تقییده ؛ ولو منفصلاً ، وبین الإطلاق والتقیید الکذائیین شبیه العدم والملکة ، وهذا لاینافی أن یکون هنا إطلاق یکون النسبة بینه وبین التقیید تقابل الإیجاب والسلب ، فتبصّر .
الثانی : أنّ ما تخیّله فی رفع غائلة إیجاب الجمع مـن کـون أمـر الأهـمّ والمهمّ فی رتبتین غیر مجدٍ أصلاً ؛ إذ لو کفی تأخّر خطاب المهمّ عـن الأهمّ رتبـةً فی رفع الغائلة مع اتّحاد زمان فعلیتهما لوجب أن یکفی مع اشتراط المهمّ بالإطاعة ؛ فإنّها ـ کالعصیان ـ من طوارئ أمر الأهمّ ، ولو جعلت شرطاً لصار قیداً للموضوع ویتقدّم علی أمـر المهمّ تقدّم الموضوع علی حکمه ، مع أنّـه لا إشکال فی أنّه یقتضی الجمع .
فظهر : أنّ ما هو الدافع للغائلة هو سقوط أمر الأهمّ بعصیانه ومضیّ وقته ،
[[page 463]]وعدم ثبوت أمر المهمّ إلاّ بعد سقوط الأهمّ ، لا ما تخیّلوه من ترتّب الأمرین . هذا ، وللمقال تتمّة سیوافیک عن قریب .
الثالث : أنّ العصیان لایکون متأخّراً رتبة عن الأمر ؛ لعدم ملاک التأخّر الرتبی فیه ؛ فإنّ التأخّر الرتبی إمّا من ناحیة العلّیة والمعلولیة ، أو کون شیء جزءً للعلّة أو جزءً للماهیة أو شرطاً للتأثیر أو التأثّر وأمثال ذلک ، وکلّها مفقودة بالنسبة إلی العصیان .
فإن قلت : یمکن تقریب تأخّر العصیان عن الأمر بوجهین :
الأوّل : أنّ الإطاعة من العوارض أو الحالات اللاحقة للأمر ، فتتأخّر عنه بداهة ؛ لأنّها عبارة عن الانبعاث عن البعث ، ولا إشکال فی تأخّر الانبعاث عن البعث تأخّر المعلول عن علّته أو جزئها بناءً علی أنّ الأمر لیس علّة تامّة للانبعاث ، بل العلّة هو مشارکاً مع ملکات آخر من الخوف والطمع .
وعلیه : فالعصیان وإن لم یکن نقیضاً للإطاعة ـ لأنّ نقیض کلّ شیء رفعه ـ إلاّ أنّه لازم للنقیض أو مصداق له ؛ إذ نقیض الإطاعة والامتثال هو عدم الإطاعة والامتثال ، وهو یتحقّق فی ضمن العصیان الذی هو عبارة عن ترک الامتثال بلا عذر .
وحینئذٍ : فالنقیضان ـ أعنی الإطاعة وعدمها ـ فی رتبة واحدة ، والعصیان مصداق للنقیض ، والماهیة ومصداقها لیستا فی رتبتین ؛ لمکان اتّحادهما الذاتی .
فیستنتج : أنّ العصیان فی رتبة نقیض الإطاعة ، ونقیض الإطاعة فی رتبتها ، والإطاعة ونقیضها متأخّران رتبة عن الأمر ، فهکذا العصیان ؛ لأنّ ما مع المتأخّر رتبة متأخّر کذلک .
الثانی : أنّ الأمر بالأهمّ مستلزم للنهی عن ضدّه العامّ ، فالأمر به متقدّم علی النهی عن ترک الأهمّ ، والنهی متقدّم علی عصیانه ، والعصیان متقدّم علی أمر المهمّ ؛
[[page 464]]تقدّم الموضوع علی حکمه . فظهر تأخّر أمر المهمّ عن أمر الأهمّ بثلاث مراتب .
وإن شئت قلت : الأمر بالأهمّ دافع للعصیان وعلّة لرفعه ، وعلّة الشیء متقدّمة علیه ، والعصیان ورفعه فی رتبة واحدة ؛ لکونهما نقیضین ، وما مع المعلول مؤخّر عن العلّة .
قلت : کلا الوجهین لا یخلو من خلط ، وما قدّمناه فی إبطال کون ترک أحد الضدّین مقدّمة علی الآخر کافٍ فی إبطالهما ، ونشیر إلیه هنا إجمالاً ؛ وهو أنّ التقدّم والتأخّر الرتبیین لیسا من الاعتبارات المحضة من دون واقعیة لهما فی نفس الأمر . کیف ، وحکم العقل بأنّه وجد هذا فوجد ذاک بنحو تخلّل الفاء لیس إلاّ لاستشعاره أمراً واقعیاً وشیئاً ثبوتیاً .
فحینئذٍ : فإثبات أمر واقعی للشیء ـ کالتأخّر الرتبی ـ فرع کون الشیء الموصوف ذا تقرّر فی ظرفه وذا حظٍّ من الوجود .
وظرف النسبة والاتّصاف بعینه ظرف الطرفین ؛ فلو کانت واقعیاً فلا محالة یتّصف الطرفان بالواقعیة ، مع أنّ الواقعیة مفقودة فی النقیض ومصداقه ؛ لأنّهما أعدام لیس حقیقتهما سوی أنّهما لا واقعیة لهما ، وقد تقدّم أنّ کون الملکات والاستعدادات من مراتب الوجود لایلازم کون أعدامهما کذلک .
مع أنّ الوجه الثانی مبنی علی اقتضاء الأمر للنهی عن ترکه ، وهو باطل مبنی علی باطل آخر .
والحاصل : أنّ کون النقیضین فی رتبة واحدة ممنوع تقدّم الکلام فیه ،
[[page 465]]وکون ما مع المتأخّر رتبة متأخّراً رتبة ممنوع أیضاً ؛ لأنّ قیاس المساواة لو صحّ فإنّما هو فی المسائل الهندسیة ، لا فی الأحکام العقلیة التی تدور مدار وجود المناط ، وقد عرفت أنّ مناط التأخّر الرتبی هو ما قدّمناه ، ومع فقدانه لا وجه للتأخّر ، وقیاس التأخّر الرتبی الذی یدرکه العقل لأجل بعض المناطات بالتأخّر الزمانی قیاس مع الفارق .
نعم ، العصیان یتأخّر عن الأمر زماناً علی مسامحة ، وهو غیر التأخّر الرتبی .
وبالجملة : أنّ العصیان عبارة عن ترک المأمور به بلا عذر ، وهو معنی عدمی لا یمکن أن یتّصف بحیثیة وجودیة مطلقاً ، وقد تکرّر منّا أنّ القضایا الصادقة التی موضوعاتها اُمور عدمیة لابدّ وأن تکون من السالبة المحصّلة أو ترجع إلیها ، والموجبات مطلقاً لا تصدق فی الأعدام إلاّ بتأوّل ، کما فی بعض القضایا غیر المعتبرة ، کقولنا «العدم عدم» ، فالعصیان بما أنّه أمر عدمی لایمکن أن یتأخّر عن شیء أو یتقدّم علی شیء ، ولایکون موضوعاً لحکم ولا شرطاً لشیء أو مانعاً .
وبذلک یظهر : أنّ أخذ أمر عدمی لایؤثّر ولا یتأثّر ولایوجب مصلحة ولا مفسدة فی الموضوع لایجتمع مع ما علیه العدلیة من کون الأحکام تابعاً لمصالح أو مفاسد یقتضیها موضوعاتها ، والعدم لا اقتضاء فیه ، إلاّ أن یرجع إلی مانعیة الوجود ، وهو غیر مجدٍ أصلاً فی المقام .
لا یقال : قولک لایکون العصیان شرطاً لحکم ولا موضوعاً مصادرة جدّاً ؛ ضرورة أنّا نری حکم العقل بوجوب الطاعة وقبح المعصیة ، فکیف حکم علی أمر باطل بالقبح والحرمة ؟ مع أنّه یمکن أن یقال : إنّ العصیان لیس أمراً عدمیاً ؛ وإن کان الأمر العدمی منطبقاً علیه ، إلاّ أنّ العصیان له حیثیة ثبوتیة یعبّر عنه بالطغیان تارة ، والتورّط فی الحمی اُخری ، وعدم الاعتناء بأوامر المولی ثالثة .
[[page 466]]وحینئذٍ : فعدم الامتثال أمر عدمی یصدق فی غیر موارد العصیان ، کما فی العاجز والساهی ، والعصیان أخصّ منه ، ویقرب أن یکون أمراً وجودیاً .
لأنّا نقول : إن کان المراد أنّ ترک المأمور به بلا عذر بما هو ترک موصوف بصفة وجودیة بحسب الواقع فهو ضروری البطلان ؛ لأنّ ثبوت شیء لشیء فرع ثبوت المثبت له ، وإن کان المراد أنّ العقلاء یحکمون باستحقاق العبد التارک لأمر مولاه بلا عذر للعقوبة فهو حقّ ، لکن لایلزم أن یکون الترک موصوفاً بصفة وجودیة .
وأمّا دعوی کون العصیان عبارة عن نفس تلک العناوین النفسانیة ؛ أی حالة الطغیان والجرأة حتّی یکون وجودیاً فهو واضح الفساد .
وأمّا کون ترک الطاعة بلا عذر لأجل حصول ملکات فی النفس فلا یوجب أن یکون الترک العمدی أو بلا عذر من أنحاء الوجود الخارجی .
وبالجملة : أنّ حکم العقلاء باستحقاق العبد العاصی للعقوبة لایلزم منه کون العصیان فی الأوامر من الاُمور الوجودیة ، أو مع کونه عدمیاً متّصفاً بأمر وجودی .
وبعد ، لابدّ من التفکیک بین حکم العقل البرهانی وحکم العقلاء والعرف الاستحسانی ، فتدبّر .
وبما ذکرنا : ینهدم أساس الترتّب ؛ لأنّه مبنی علی التقدّم والتأخّر الرتبیین ، وهما تتحقّقان بین الأمر وإطاعته ، علی تأمّل فیه أیضاً ، ولا یحصل بین الأمر وعصیانه . اللهمّ إلاّ أن یجعل الموضوع من یترک المأمور به بلا عذر ، لکن مع ذلک لایکون التقدّم رتبیاً ، وسیجیء البحث عنه .
[[page 467]]
المقدّمة الخامسة :
الموضوع للحکم إمّا غیر قابل لتصرّف من الشارع کالعقل والبلوغ أو قابل له ، والثانی إمّا قابل للدفع والرفع أو قابل للدفع فقط ، وعلی التقدیرین إمّا أن یکون قابلاً للرفع الاختیاری أیضاً أو لا ، والرفع التشریعی إمّا أن یکون بنفس التکلیف أو بامتثاله .
ومحلّ البحث فی الأهمّ والمهمّ هو هذا الأخیر ، وهو ما إذا کان امتثال التکلیف رافعاً لموضوع الآخر ؛ حیث یتحقّق اجتماع کلّ من الخطابین فی الفعلیة ؛ لأنّه ما لم یتحقّق امتثال أحد الخطابین الذی فرضنا أنّه رافع لموضوع الآخر لایرتفع الخطاب الآخر ، فیجتمع الخطابان فی الزمان والفعلیة بتحقّق موضوعهما .
والتحقیق : أنّ اجتماع مثل هذین الخطابین لایوجب إیجاب الجمع ، ولابدّ أوّلاً من معرفة معنی الجمع وما یوجب إیجابه :
فنقول : أمّا الجمع فهو عبارة عن اجتماع کلّ منهما فی زمان امتثال الآخر ؛ بحیث یکون ظرف امتثالهما واحداً . وأمّا الذی یوجب الجمع فهو أحد أمرین : إمّا تقیید کلّ من المتعلّقین ، أو أحدهما بحال إتیان الآخـر ، و إمّا إطلاق کلّ من الخطابین کذلک .
والدلیل علی عدم إیجاب الجمع اُمور :
الأوّل : أنّه لو اقتضیا إیجاب الجمع والحال هذه یلزم المحال فی طرف المطلوب ؛ لأنّ مطلوبیة المهمّ إنّما یکون فی ظرف عصیان الأهمّ ، فلو فرض وقوعه علی صفة المطلوبیة فی ظرف امتثاله ـ کما هو لازم إیجاب الجمع ـ یلزم الجمع بین النقیضین ؛ إذ یلزم أن لایکون مطلوباً قبل العصیان ، وأن یکون مطلوباً قبله .
[[page 468]]الثانی : أنّه یلزم المحال فی طرف الطلب ؛ لأنّ خطاب الأهمّ یکون من علل عدم خطاب المهمّ ؛ لاقتضائه رفع موضوعه ، فلو اجتمع الخطابان فی رتبة یلزم اجتماع الشیء مع علّة عدمه ، أو خروج العلّة عن العلّیة ، أو خروج العدم من کونه عدماً ، وکلّ ذلک خلف محال .
الثالث : أنّ البرهان المنطقی أیضاً یقتضی عدم إیجاب الجمع ؛ فإنّ الخطاب الترتّبی بمنزلة المنفصلة المانعة الجمع فی النسبة الطلبیة فی جانب المهمّ ، والنسبة التلبّسیة فی جانب الأهمّ ، فصورة القضیة هکذا : إمّا أن یکون الشخص فاعلاً للأهمّ ، وإمّا أن یجب علیه المهمّ ، ومعه کیف یعقل إیجاب الجمع ؟ انتهی .
قلت : ما ذکره رحمه الله لایخلو من أنظار ، والأولی عطف عنان الکلام إلی توضیح ما یقتضی عدم الجمع من المناط ، فلابدّ من استقصاء العناوین التی یتصوّر أخذها شرطاً لخطاب المهمّ أو موضوعاً له حتّی یتّضح موارد اقتضاء الجمع عن موارد عدم الاقتضاء ، ویتبیّن المناط فیهما .
فنقول : الذی یمکن أن یقع شرطاً اُمور :
الأوّل : العصیان الخارجی أو ما یساوقه خارجاً ؛ أیّ عنوان کان ، وهو وإن لم یلزم منه إیجاب الجمع إلاّ أنّه یوجب الخروج من بحث الترتّب .
توضیحه : أنّه ما دام لم یتحقّق العصیان خارجاً لایکون أمر المهمّ فعلیاً ، وبتحقّق العصیان یسقط أمر الأهمّ ؛ لخروج متعلّقه من إمکان الإتیان به ؛ إذ مع إمکانه لایتحقّق العصیان ، ومع عدم إمکانه لایعقل بقاء الأمر الفعلی ، من غیر فرق بین کون العصیان تدریجی التحقّق أو دفعی التحقّق .
[[page 469]]ففی الثانی أیضاً قبل تحقّق آن المعصیة الظرف ظرف أمر الأهمّ فقط ، وبتحقّقه یتحقّق العصیان ویسقط أمر الأهمّ ، ویخلفه أمر المهمّ ، فأین اجتماعهما ؟
فلازم اجتماعهما فی الفعلیة : إمّا تخلّف المشروط عن شرطه بتقدّمه علیه ـ إن تعلّق أمر المهمّ بموضوعه قبل تحقّق المعصیة ـ أو بقاء أمر الأهمّ مع تحقّق المعصیة وعجز المکلّف عن الإتیان به ، وهما محالان .
وأمّا توهّم کـون العصیان فی الرتبة العقلیـة شرطاً فواضـح الفساد ؛ لأنّ العصیان ترک المأمـور به بلا عذر خارجاً ، ولا ربط له بالرتبة العقلیة ، وهذا الإشکال وارد أیضاً علی من جعل الشرط شیئاً یکون مساوقاً للعصیان خارجاً ، طابق النعل بالنعل .
الثانی : جعل الشرط التلبّس بالعصیان بمعنی الأخذ والشروع فیه .
ویرد علیه أوّلاً : أنّ العصیان فیما نحن فیه لیس من الاُمور الممتدّة أو المرکّبة ممّا یتصوّر فیه الأخذ والشروع ، بل إذا ترک المأمور به إلی حدّ سلب القدرة ینتزع منه العصیان فی آن سلب القدرة ، ولاینتزع قبله . فتحقّق العصیان آنی ؛ وإن کان محتاجاً فی بعض الأحیان إلی مضیّ زمان حتّی تسلب القدرة . فالعصیان بنفسه لایکون متدرّج الوجود حتّی یتأ تّی فیه الشروع والختم .
وثانیاً : أنّ الشروع فیه إمّا محقّق للعصیان أولا ، ولا ثالث لهما . والأوّل هو القسم الأوّل ؛ أعنی کون العصیان الخارجی شرطاً ، وقد عرفت بطلانه ، والثانی حکمه حکم القسم الذی سیوافیک بیانه ؛ أعنی ما إذا کان الأمر الانتزاعی من العصیان الخارجی شرطاً .
وبالجملة : التعبیر بالتلبّس کرّ علی ما فرّ منه ، کما تشبّث به المستدلّ فی خلال کلامه علی ما فی تقریر تلمیذه ومقرّر بحثه ؛ لأنّ التلبّس بالعصیان والشروع
[[page 470]]فیه إن کان عصیاناً بالحمل الشائع فلازمه سقوط أمر الأهمّ ، فیخرج من بحث الترتّب ، وإن کان غیر عصیان فالأمران باقیان فی الباعثیة والفعلیة ، مع أنّ المکلّف لایقدر علی جمعهما وإیجادهما فی زمان واحد ، وسیأتی زیادة توضیح لذلک فی القسم الآتی .
الثالث : أن یکون الشرط أمراً انتزاعیاً من العصیان الخارجی باعتبار ظرفه ، فلازمه طلب الجمع ؛ لأنّ الأمر الانتزاعی بلحاظ ظرفه متحقّق قبل وقت امتثال أمر الأهمّ وقبل عصیانه ، فأمر المهمّ صار فعلیاً باعثاً نحو المأمور به وأمر الأهمّ لم یسقط ، بل هو باقٍ بعد علی باعثیته ما لم یتحقّق العصیان ، فهذا باعث نحو إنقاذ الابن ـ مثلاً ـ أوّل الزوال بعنوان المکلّف ، وذاک إلی إنقاذ الأب کذلک بعنوان الذی یعصی ، أو الذی یکون عاصیاً فیما بعد . والمکلّف الذی یکون عاصیاً فیما بعد مبعوث فعلاً نحو ذاک وذلک ، وهو غیر قادر علی ذلک وذاک معاً .
ومجرّد اختلاف العنوانین وطولیة موضوع الأمرین لا یدفع طلب الجمع ، ألا تری أنّ عنوان المطیع أیضاً مؤخّر عن الأمـر ، فلو جعل شرطاً یکون مقدّماً علی أمـر المهمّ فیصیر أمر الأهـمّ مقدّماً علیه برتبتین ، ومـع ذلک لایدفـع به طلب جمع الضدّین .
والحاصل : أنّ العصیان التصوّری الانتزاعی مع وجوده عند فعلیة الأهمّ وإن کان لایوجب خروج الواجب المشروط ممّا کان علیه ـ لما عرفت ـ إلاّ أنّ حصول الشرط یوجب انتزاع الوجوب الفعلی عنه ، والبعث الفعلی نحو المأمور به بلا حالة انتظاریة .
وحینئذٍ یکون الشرط الانتزاعی ـ أعنی الـذی یعصی ـ بمنزلـة سائـر العناوین ، کطلوع الشمس ومجیء الحاجّ ، إذا فرضنا أنّه طلعت الشمس وقدم
[[page 471]]الحاجّ ، فلا یشکّ ذو مسکة فی أنّ هذا إیجاب للجمع .
وبذلک یتّضح : أنّ التقدّم الرتبی لیس مناطاً لدفع التضادّ ، بل المناط سقوط أحد الأمرین ، کما فی العصیان الخارجی إذا جعل شرطاً مع عدم تأخّره عن أمر الأهمّ رتبة ، کما مرّ .
ولکن یدفع معه التضادّ ، لا للتقدّم الرتبی ، بل لعدم اجتماع الأمرین الفعلیین ؛ لما عرفت من أنّ العصیان الخارجی یوجب سقوط أمر الأهمّ وثبوت أمر المهمّ ، وهذا هو تمام الموضوع والمناط لرفع التضادّ وطلب الجمع . وبذلک ینهدم أساس الترتّب ، ویتّضح حال سائر العناوین المساوقة لهذا الأمر الانتزاعی .
فتحصّل من جمیع ما ذکرناه : أنّ ما یدفع به التضادّ وطلب الجمع خارج من أساس الترتّب رأساً .
فإن قلت : إنّ المکلّف لو جمع بین الأهمّ والمهمّ لم یقعا علی صفة المطلوبیة ، وهذا آیة عدم الأمر بالجمع .
قلت : إنّ الذی یعصی یمتنع علیه الجمع ؛ للزوم اجتماع النقیضین ، وإلاّ فلو فرض جواز الجمع ؛ بمعنی أنّ العاصی مع کونه عاصیاً أتی بالأهمّ یقع کلّ منهما علی صفة المطلوبیة ؛ لأنّ الذی یعصی مع کونه عاصیاً فی ظرفه مطلوب منه الإتیان بالأهمّ ؛ لعدم سقوط أمره بالضرورة ما لم یتحقّق العصیان خارجاً ، والفرض أنّ شرط المهمّ حاصل أیضاً ، فیکون مطلوباً .
وبما ذکرنـاه : یظهـر الخلـل فـی الـوجهتین اللتین استـدلّ بهما علی أنّ الخطابیـن المرتّبین لایقتضیان إیجـاب الجمـع ، مـن أنّ خطـاب الأهـمّ مـن علـل عـدم خطاب المهمّ ، فلو اجتمعا لزم اجتماع الشیء مـع علّة عدمـه ، ومـن أنّ مطلوبیـة المهمّ إنّما یکون فی ظرف عصیان الأهـمّ . فلو فرض وقوعـه علی
[[page 472]]صفـة المطلوبیـة فی ظـرف امتثالـه یلزم الجمـع بیـن النقیضین ، انتهـی .
وکلا الوجهین غیر تامّ :
أمّا الأوّل : فلأنّه إن أراد أنّ امتثال الأهمّ من علل عدم خطاب المهمّ فهو مسلّم ، لکن لا بمعنی العلّیة والمعلولیة الحقیقیتین ولکن لایجدیه أصلاً ، بل قد عرفت أنّه هادم أساس الترتّب .
وإن أراد أنّ فعلیته من علل عدم خطاب المهمّ فهو فاسد ؛ إذ البحث فی الترتّب فی أنّ الصلاة إذا ابتلیت بالمزاحم الأهمّ ـ أعنی إزالة النجاسة عن المسجد ـ تکون مأموراً بها حینما أمر بمزاحمها ، فلو کانت الصلاة غیر مأمور بها أوّل الزوال ، بل کانت الإزالة واجبة فقط خرج المقام من بحث الترتّب ، ولما صحّ الصلاة فی أوّل الزوال ، علی القول بأنّ صحّة المأتی به موقوفة علی الأمر . ویتوجّه إذن مقالة شیخنا البهائی من أنّ عدم الأمر کافٍ فی البطلان ، ولایحتاج إلی النهی ، بل الغایة من مقاساة هذه الجهود فی المقام تصویر أمرین فعلیین بالأهمّ والمهمّ جمیعاً فی آنٍ واحد بنحو الترتّب ؛ حتّی یصحّ امتثال ما أراد منهما .
وأمّا الثانی : فلما أوردنا علی الأوّل آنفاً ، فلأنّ ما هو الشرط فی وقوع المهمّ علی صفة المطلوبیة إن کان هو العصیان الخارجی الملازم لسقوط أمر الأهمّ یلزم الخروج من بحث الترتّب ، وإن کان هو العصیان الانتزاعی باعتبار ظرفه الآتی فلا محالة یجتمع الأمران ویصیر المهمّ مطلوباً حینما کان الأهمّ مطلوباً بعد ؛ بمعنی أنّه لو فرضنا ـ علی وجه محال ـ أنّ العاصی فی ظرفه أتی بالأهمّ أیضاً صار المهمّ مطلوباً فی ظرف امتثال الأهمّ أیضاً .
[[page 473]]وإن شئت قلت : فرض امتثال الأهمّ فرض هدم شرط المهمّ ، وفرضه فرض عدم الأمر به ، وهو هدم أساس الترتّب ، والتمسّک بما یهدم أساسه لبنیان أساسه جمع بین المتنافیین ، وإلاّ فلو فرضنا معه حصول شرط المهمّ یقع علی صفة المطلوبیة . فعدم وقوعه علی صفتها من آیات بطلان الترتّب ، لا من آیات صحّته .
وبما ذکر یظهر حال البرهان المنطقی علی زعمه .
وبذلک یظهر الجواب عمّا أورده علی مقالة المحقّق الخراسانی ؛ حیث ذکر المحقّق : أنّ فی مرتبة الأمر بالمهمّ اجتماع الأمرین ؛ بداهة فعلیة الأمر بالأهمّ فی هذه المرتبة وعدم سقوطه .
فأجاب عنه : بأنّ إیجاب الجمع هو أن یطالب به فی حال الاشتغال بالآخر ، مع أنّ المکلّف لو اشتغل بالأهمّ لایطالب بالمهمّ ، ولایتعلّق به أمر .
وأنت خبیر بما فیه ؛ إذ فیه ما یقضی منه العجب ؛ لأنّ عدم المطالبة فی حال الاشتغال بالأهمّ إنّما هو لأجل عدم حصول ما هو الشرط للمهمّ ؛ لفقدان العصیان الخارجی وکذلک الانتزاعی ؛ لأنّ انتزاع العصیان إنّما هو لجهة حصوله فی ظرفه ووجوده فیه ، وقد علم خلافه .
[[page 474]]