قیام الأمارات مقام القطع بأقسامه
أمّا المقام الثانی : أعنی مقام الإثبات والدلالة ، فلابدّ فی توضیح الحال من التنبیه علی ما سیجیء منّا تفصیله عند البحث عن حجّیة الخبر الواحد ، وملخّصه : أنّ الأمارات المتداولة فی أیدینا ممّا استقرّ علیها العمل عند العقلاء ، بلا غمض أحد منهم فی واحد منها ؛ ضرورة توقّف حیاة المجتمع علی العمل بها . والإنسان المدنی یری أنّ البناء علی تحصیل العلم فی الحوادث والوقائع الیومیة یوجب اختلال نظام المدنیة ، ورکود رحاها ، فلم یر بدّاً منذ عرف یمینه عن شماله ، ووقف علی مصالح الاُمور ومفاسدها عن العمل بقول الثقة وبظواهر الکلام الملقی للتفهیم وغیرها .
جاء نبی الإسلام صلی الله علیه و آله وسلم وأظهر أحکاماً وأوضح اُموراً ، ولکن مع ذلک کلّه عمل بالأمارات من باب أنّه أحد العقلاء الذین یدیرون حیاة المجتمع ، من دون أن یأسّس أصلاً ویقیم عماداً أو یحدث أمارة أو یزید شرطاً أو یتمّم کشف أمارة أو یجعل طریقیة لواحد من الأمارات ، إلی غیر ذلک من العبارات التی تراها متظافرة فی کلمات القوم .
وبالجملة : لم یکن عمل النبی والخلفاء من بعده علی الأمارات إلاّ جریاً علی المسلک المستقرّ عند العقلاء ، بلا تأسیس أمارة أو تتمیم کشف لها أو جعل حجّیة
[[page 332]]وطریقیة لواحدة منها ، بل فی نفس روایات خبر الثقة شواهد واضحة علی تسلّم العمل بخبر الثقة ، ولم یکن الغرض من السؤال إلاّ العلم بالصغری ، وأنّ فلاناً هل هو ثقة أو لا ؟ فراجع مظانّها تجد شواهد علی ما ادّعیناه .
ومن ذلک یعلم : أنّ قیام الأمارات مقام القطع بأقسامه ممّا لا معنی له :
أمّا القطع الطریقی : فإنّ عمل العقلاء بالطرق المتداولة حال عدم العلم لیس من باب قیامها مقام العلم ، بل من باب أنّها إحدی الطرق الموصلة غالباً إلی الواقع ، من دون التفات إلی التنزیل والقیام مقامه .
نعم ، القطع طریق عقلی مقدّم علی الطرق العقلائیة ، والعقلاء إنّما یعملون بها عند فقد القطع ، وذلک لا یستلزم کون عملهم من باب قیامها مقامه حتّی یکون الطریق منحصراً بالقطع عندهم ، ویکون العمل بغیره بعنایة التنزیل والقیام مقامه .
وإن شئت قلت : إنّ عمل العقلاء بالطرق لیس من باب أنّها منزّلة مقام العلم ، بل لو فرضنا عدم وجود العلم فی العالم کانوا عاملین بها ، من غیر التفات إلی جعل وتنزیل أصلاً .
فما تری فی کلمات المشائخ من القول بأنّ الشارع جعل المؤدّی منزلة الواقع تارة أو تمّم کشفه أو جعل الظنّ علماً فی مقام الشارعیة أو أعطاه مقام الطریقیة وغیرها ، لا تخلو عن مسامحة ؛ فإنّها أشبه شیء بالخطابة .
فتلخّص : أنّ العمل بالأمارات عند فقد القطع الطریقی لیس إلاّ لکونها إحدی الأفراد التی یتوصّل بها إلی إحراز الواقع ، من دون أن یکون نائباً أو فرعاً لشیء أو قائماً مقامه .
[[page 333]]وأمّا القطع الموضوعی : فملخّص الکلام أنّ القطع تارة یؤخذ بما أنّه أحد الکواشف ، واُخری بما أنّه کاشف تامّ ، وثالثة بما أنّه من الأوصاف النفسانیة .
فلو کان مأخوذاً فی الموضوع تماماً أو جزءً علی النحو الأوّل فلا شکّ فی أنّه یعمل بها عند فقد القطع ، لا لأجل قیامها مقامه بل لأجل أنّ الأمارات ـ حینئذٍ ـ أحد مصادیق الموضوع مصداقاً حقیقیاً ، وإذا اُخذ بما أنّه کاشف تامّ أو صفة مخصوصة فلا شکّ فی عدم جواز ترتیب الأثر لفقدان ما هو الموضوع عند الشارع ؛ لأنّ الظنّ لیس کشفاً تامّاً ، وأنّ عمل العقلاء علی الأمارات لیس إلاّ لأجل کونها کـواشف عـن الواقع ، من دون أن یلاحظ صفـة اُخـری ، بلا فرق بین تمام الموضوع وجزئه .
وبذلک یظهر النظر فیما أفاده بعض أعاظم العصر ؛ فإنّه قدس سره مع أنّه قد اعترف بأنّه لیس للشارع فی تلک الطرق العقلائیة تأسیس أصلاً قد أتی بما لا یناسبه .
وحاصله : أنّ فی القطع یجتمع جهات ثلاث : جهة کونه قائمة بنفس العالم ؛ من حیث إنشاء النفس فی صقعها الداخلی صورة علی طبق ذی الصورة ، وجهة کشفه عن المعلوم ، وإراءته للواقع ، وجهة البناء والجری العملی علی وفق العلم .
والمجعول فی باب الطرق هی الجهة الثانیة ؛ فإنّ المجعول فیها نفس الطریقیة والمحرزیة والکاشفیة ، وفی الاُصول هی الجهة الثالثة .
ثمّ قال : إنّ حکومة الطرق علی الأحکام الواقعیة لیست الحکومة الواقعیة ، مثل قوله : «الطواف بالبیت صلاة» أو «لا شکّ لکثیر الشکّ» بل الحکومة ظاهریة . والفرق : أنّ الواقعیة توجب التوسعة والتضییق فی الموضوع الواقعی ؛ بحیث یتحقّق
[[page 334]]هناک موضوع آخر واقعی فی عرض الموضوع الأوّلی ، وهذا بخلاف الظاهریة ؛ إذ لیس فیها توسعة وتضییق إلاّ بناءً علی جعل المؤدّی الذی یرجع إلی التصویب .
وأمّا بناءً علی المختار من جعل الطریقیة فلیس هناک توسعة وتضییق واقعی . وحکومتها إنّما یکون باعتبار وقوعها فی طریق إحراز الواقع فی رتبة الجهل به ، فیکون المجعول فی طول الواقع لا فی عرضه .
ثمّ أفاد : إنّ ممّا ذکرنا یظهر قیام الأمارات مقام القطع الطریقی مطلقاً ؛ ولو کان مأخوذاً فی الموضوع وعدم قیامها مقام القطع الوصفی ، انتهی کلامه .
أقول : وفیه مواقع للأنظار :
منها : أنّک قد عرفت وسیمرّ تفصیله عند البحث عن حجّیة الأخبار : أنّه لیس عن جعل الحجّیة والطریقیة وتتمیم الکشف فی الأخبار والآیات خبر ولا أثر ، وأنّ العمل بالأخبار کان أمراً مسلّماً منذ قرون قبل الإسلام ، منذ قام للإنسانیة عمود التمدّن ، وأنّ الشارع الصادع بالحقّ ترک أتباعه علی ما کانوا علیه ، قبل أن ینسلکوا فی سلک الإسلام ، بلا جعل ولا تأسیس ولا إمضاء لفظی ، وأنّ کلّما ورد من الروایات من التصریحات إنّما هو لتشخیص الصغری وما هو موضوع لهذه الکبری الکلّیة . والعجب : أنّه قدس سره قد اعترف کراراً علی أنّه لیس للشارع فی تلک الطرق العقلائیة تأسیس أصلاً ، ولکنّه قد أسّس فی تقریراته هذا البنیان الرفیع الذی لا یخرج عن حیطة التصوّر إلی مقام آخر إلاّ بأدلّة محکمة ، ولیست منها فی الأخبار عین ولا أثر .
ومنها : أنّ تقسیم الحکومة إلی ظاهریة وواقعیة تقسیم لها باعتبار متعلّقها ،
[[page 335]]وهو لیس من التقسیمات المعتبرة ، وإلاّ لکثرت الأقسام حسب کثرة التعلّق ، فإنّ المتّصف بالظاهریة والواقعیة إنّما هی الأحکام دون الحکومة ؛ فإنّ الحکومة قد تکون متعلّقها الأدلّة الواقعیة ، مثل قوله علیه السلام «الطواف بالبیت صلاة» ، وقد تکون متعلّقها غیر الأحکام الواقعیة ، کما فی الأمثلة التی ذکره قدس سره .
[[page 336]]