أحکام الصور المهمّة فی المسألة
الصورة الاُولی : ما إذا کانا مختلفین بالنفی والإثبات وکان الحکم تکلیفیاً ، وهی علی قسمین :
الأوّل : ما إذا کان المطلق نافیاً والمقیّد مثبتاً ، نحو قولک : «لا تعتق رقبة واعتق رقبة مؤمنة» بناءً علی أنّ قولـه : «لا تعتق رقبـة» مـن قبیل المطلق لا العامّ ،
[[page 279]]کما هو المختار . فلا ریب فی حمله علی المقیّد ؛ لتحقّق التنافی بینهما عرفاً ؛ وذلک لما عرفت أنّ ترک الطبیعة إنّما یحصل عند العرف بترک جمیع أفرادها ؛ وإن کان النظر الدقیق الفلسفی یقتضی خلافه ، کما مرّ .
وعلیه : فالتنافی بین حرمة مطلق الرقبة أو کراهتها ، وبین وجوب المؤمنة منها أو استحبابها ظاهر جدّاً ، والجمع العقلائی إنّما هو حمل مطلقها علی مقیّدها .
الثانی : عکس القسم الأوّل ؛ أی یکون المطلق مثبتاً ومتعلّقاً للأمر والمقیّد نافیاً ومتعلّقاً للنهی .
فحینئذٍ : تارة نعلم أنّ النهی تحریمی أو نعلم أنّه تنزیهی ، واُخری لا نعلم . فلو علمنا کون النهی تحریمیاً فلا ریب فی حمله علی المقیّد ؛ لکونه طریقاً وحیداً إلی الجمع فی نظر العرف . ولو علمنا أنّ النهی تنزیهی فهل یحمل علی المقیّد أو لا ؟ وجهان : أقواهما عدمه ؛ لأنّ الموجب للحمل هو تحقّق التنافی فی أنظار العرف حتّی نحتال فی علاجهما ، ومع إحراز کون النهی تنزیهیاً ـ أی مرخّصاً فی إتیان متعلّقه ـ فلا وجه لتوهّم التنافی ، بل غایة الأمر یکون النهی إرشاداً إلی أرجحیة الغیر أو مرجوحیة متعلّقه بالإضافة إلی فرد آخر .
فلو قال : «صلّ ولا تصلّ فی الحمّام» وفرضنا أنّ النهی تنزیهی فلا شکّ أنّ مفاد الثانی هو ترخیص إتیانها فیه ، وأنّه راجح ذاتاً وصحیح لمکان الترخیص ، لکنّه مرجوح بالإضافة إلی سائر الأفراد ، ولا یلزم من ذلک اجتماع الراجحیة والمرجوحیة فی مورد واحد ؛ لما عرفت أنّ المرجوحیة لأجل قیاسها إلی سائر الأفراد وفی المکان الخاصّ ، لا فی حدّ ذاته .
[[page 280]]وبذلک یظهر النظر فیما أفاده شیخنا العلاّمة ، أعلی الله مقامه ، فراجع .
وأمّا إذا کان کیفیة دلالته مجهولة ولم نعلم أنّه للتنزیه أو للتحریم فللتوقّف فیه مجال ؛ فإنّ کلّ واحد یصلح أن یقع بیاناً للآخر ؛ إذ النهی کما یمکن أن یکون بیاناً لإطلاق المطلق ویقیّد متعلّق الأمر بمقتضی النهی ، کذلک یصلح أن یکون المطلق بیاناً للمراد من النهی ، وأنّه تنزیهی .
والحاصل : أنّ الأمر دائر بین حمل النهی علی الکراهة وحفظ الإطلاق ، وبین رفع الید عن الإطلاق وحمله علی المقیّد .
هذا ، ولکن الأظهر هو حمل المطلق علی المقیّد وإبقاء النهی علی ظهوره ؛ لأنّ التنافی کما هو عرفی کذلک الجمع عرفی أیضاً ، ولا شکّ أنّ لحاظ محیط التشریع یوجب الاستئناس والانتقال إلی کونهما من باب المطلق والمقیّد ؛ لشیوع ذلک الجمع وتعارفه بینهم .
وأمّا جعل المطلق بیاناً للنهی وأنّ المراد منه هو الکراهة فهو جمع عقلی لا یختلج بباله ؛ لعدم معهودیة هذا التصرّف .
ویمکن أن یقال : إنّ الهیئات بما هی معانٍ حرفیة لا یلتفت إلیها الذهن حین التفاته إلی المطلق والمقیّد والجمع بینهما . وکیف کان فلا ینبغی الإشکال فی حمل المطلق علی المقیّد فی هذه الصورة .
وأمّا ما ربّما یقال فی ترجیح ما اخترناه : من أنّ ظهور النهی فی التحریم وضعی مقدّم علی الظهور الإطلاقی ، غیر تامّ ؛ لما عرفت أنّ الوجوب والتحریم
[[page 281]]خارجان عن الموضوع له ، وأنّ الهیئة لم توضع فیهما إلاّ للبعث والزجر ، فأین الظهور اللفظی ؟ !
فإن قلت : إنّ هنا وجهاً آخر للجمع بینهما ، وقد أشار إلیه بعض الأعاظم ، وجعل المقام من باب اجتماع الأمر والنهی ـ علی القول بکون المطلق والمقیّد داخلین فی ذاک الباب ـ فلو قلنا بالجواز هناک یرفع التعارض بین المطلق والمقیّد .
قلت : الفرق بین المقامین واضح ؛ فإنّ التعارض هنا عرفی کجمعه ، والتعارض هناک عقلی ، وجمعه أیضاً کذلک .
والحاصل : أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهی عقلیة غیر مربوطة بالجمع بین الأدلّة ؛ لأنّ مناط الجمع بینها هو فهم العرف ، ولا شبهة فی وقوع التعارض بین المطلق والمقیّد عرفاً ، وطریق الجمع عرفی لا عقلی ، فلا یکون أحد وجوه الجمع بین الأدلّة الجمع العقلی ، وهذا واضح .
الصورة الثانیة : ما إذا کان الدلیلان مثبتین إلزامیین ، نحو قولک : «اعتق رقبة واعتق رقبة مؤمنة» فحینئذٍ إذا اُحرزت وحدة الحکم فلا محیص عن الحمل ؛ لإحراز التنافی بإحراز وحدة الحکم ، ووجود الجمع العرفی .
نعم ، إذا کانت وحدة الحکم غیر محـرزة : فتارة یحـرز کـون الحکم فی المطلق علی نفس الطبیعة ، ولا نحتمل دخالـة قید آخـر فی الموضوع ، غیر القید الذی فی دلیل المقیّد ، واُخری : نحتمل دخالة قید آخر .
فعلی الأوّل : یحمل المطلق علی المقیّد ، لا لما ربّما یتراءی فی بعض الکلمات من أنّ إحراز التنافی لأجل أنّ الحکم فی المقیّد إذا کان إلزامیاً متعلّقاً
[[page 282]]بصرف الوجود فمفاده عدم الرضا بعتق المطلق ، ومفاد دلیل المطلق هو الترخیص بعتقه . وبعبارة اُخری : أنّ مفاد دلیل المقیّد دخالة القید فی الحکم ومفاد دلیل المطلق عدم دخالته ، فیقع التنافی بینهما ، انتهی .
لأنّ التنافی بین الترخیص واللا ترخیص ودخالة القید ولا دخالته فرع کون الحکم فی المقام واحداً ، فلو توقّف إحراز وحدته علیه لدار .
بل وجه التقدیم هو أنّ ملاحظة محیط التشریع وورود الدلیلین فی طریق التقنین توجب الاطمئنان بکونهما من هذا القبیل ؛ خصوصاً مع تکرّر تقیید المطلقات من الشارع . نعم ، الأمر فی المستحبّات علی العکس ؛ فإنّ الغالب فیها کون المطلوب متعدّداً وذا مراتب .
وهناک وجه آخر ؛ وهو أنّ إحراز عدم دخالة قید آخر غیر هذا القید عین إحراز الوحدة عقلاً ؛ لامتناع تعلّق الإرادتین علی المطلق والمقیّد ؛ لأنّ المقیّد هو نفس الطبیعة مع قید عینیة اللا بشرط مع بشرط شیء ، فاجتماع الحکمین المتماثلین فیهما ممتنع ، فیقع التنافی بینهما ، فیحمل المطلق علی المقیّد ، ولا ینافی ذلک ما مرّ من أنّ میزان الجمع بین الأدلّة هو العرف ؛ لأنّ إحراز وحدة الحکم إنّما هو بالعقل لا الجمع بین الدلیلین ، والفرق بینهما ظاهر .
وأمّا علی الثانی ـ أی ما لم نحـرز عـدم دخالـة قید آخـر ـ فیدور الأمر بین حمل المطلق علی المقیّد ورفع الید عن ظهور الأمر فی استقلال البعث ، وبین حفظ ظهور الأمر وکشف قید آخـر فی المطلق ؛ حتّی یجعلـه قابلاً لتعلّق حکم مستقلّ به .
[[page 283]]هذا ، ولکن الصحیح هو الأوّل لضعف ظهور الأمر فی الاستقلال ، ولا یمکن الاعتماد علیه لکشف قید آخر .
نعم ، لو اُحرز تعدّد الحکم واستقلال البعثین لا محیص عن کشف قید آخر ؛ لامتناع تعلّق الإرادتین بالمطلق والمقیّد ، وقد تقدّم شرحه فی مبحث النواهی .
الصورة الثالثة : ما إذا کان الدلیلان نافیین ، کقوله : «لا تشرب الخمر ولا تشرب المسکر» ، ولا ریب فی عدم حمل مطلقه علی المقیّد ؛ لعدم التنافی بینهما عرفاً ـ علی القول بعدم المفهوم ـ والحجّة لا یرفع الید عنها إلاّ بحجّة مثلها ، ولکن یمکن أن یقال بأنّه یأتی فیها ما ذکرناه فی الصورة السابقة ، فتدبّر .
هذه الصور تشترک فی أنّ الوارد إلینا ذات المطلق والمقیّد بلا ذکر سبب .
وأمّا إذا کان السبب مذکوراً فلا یخلو :
إمّا أن یذکر فی واحد منهما أو کلیهما ، وعلی الثانی : إمّا أن یتّحد السببان ماهیة أو یختلفا کذلک ، وعلی جمیع التقادیر فالحکم فیهما : إمّا إیجابی أو غیر إیجابی أو مختلف .
فهنا صور نشیر إلی مهمّاتها :
منها : ما إذا کان السبب مذکوراً فی کلا الدلیلین ، وکان سبب کلٍّ غیر سبب الآخر ماهیة ، نحو قوله : «إن ظاهرت أعتق رقبة» ، و«إن أفطرت فاعتق رقبة مؤمنة» ، فلا شکّ أنّه لا یحمل ؛ لعدم التنافی بینهما ؛ لإمکان وجوب عتق مطلق الرقبة لأجل سبب ووجوب مقیّدها لأجل سبب آخر .
نعم لو أعتق رقبة مؤمنة ففی کفایتها عنهما أو عدم کفایتها کلام مرّ تحقیقه فی مباحث تداخل المسبّبات والأسباب .
ومنها : ما إذا ذکر السبب فی کلّ واحد أیضاً ، ولکن سبب المطلق عین سبب
[[page 284]]المقیّد ماهیة فیحمل ؛ لاستکشاف العرف من وحدة السبب وحدة مسبّبه .
ومنها : ما إذا کان السبب مذکوراً فی واحد منهما ، فالتحقیق عدم الحمل . وعلّله بعض الأعاظم بأنّ الحمل یستلزم الدور ؛ لأنّ حمل المطلق علی المقیّد یتوقّف علی وحدة الحکم ، ففی المثال تقیید الوجوب یتوقّف علی وحدة المتعلّق ؛ إذ مع تعدّدهما لا موجب للتقیید ، ووحدة المتعلّق تتوقّف علی حمل أحد التکلیفین علی الآخر ؛ إذ مع عدم وحدة التکلیف لم تتحقّق وحدة المتعلّق ؛ لأنّ أحد المتعلّقین عتق الرقبة المطلقة ، والآخر عتق الرقبة المؤمنة ، انتهی .
وفیه : أنّ وحدة الحکم وإن کانت تتوقّف علی وحدة المتعلّق لکن وحدة المتعلّق لا تتوقّف علی وحدة الحکم ؛ لا ثبوتاً ولا إثباتاً :
أمّا الأوّل : فلأنّ وحدة الشیء وکثرته أمر واقعی فی حدّ نفسه ؛ تعلّق به الحکم أو لا ، وبما أنّ المقیّد فی المقام هو المطلق مع قید فلا محالة لا یمکن أن یقع متعلّقاً للإرادتین وموضوعاً للحکمین .
وأمّا الثانی : فلأنّ تعلّق الحکم فی المطلق بنفس الطبیعة یکشف عن کونها تمام الموضوع للحکم ، فإذا تعلّق حکم بالمقیّد ـ والفرض أنّه نفس الطبیعة مع قید ـ یکشف ذلک عن کون النسبة بین الموضوعین بالإطلاق والتقیید ، من غیر أن یتوقّف علی إحراز وحدة الحکم .
بل التحقیق : أنّ عدم الحمل إنّما هو لأجل أنّ المطلق حجّة فی موارد عدم تحقّق سبب المقیّد ، فقوله : «اعتق رقبة» حجّة علی العبد علی إیجاد العتق مطلقاً ، ولا یجوز رفع الید عنها بفعلیة حکم قوله : «إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة» عند
[[page 285]]تحقّق سببه . وبعبارة اُخری : أنّ العرف یری أنّ هنا واجباً لأجل الظهار ، وواجباً آخر من غیر سبب ولا شرط ؛ حصل الظهار أم لا .
هذا کلّه راجع إلی الحکم التکلیفی .
وأمّا الوضعی : فیظهر حاله من التدبّر فیه ؛ فربّما یحمل مطلقه علی مقیّده ، نحو قوله : «لا تصلّ فی وبر ما لا یؤکل لحمه» ، ثمّ قال : «صلّ فی وبر السباع ممّا لا یؤکل» ، وقوله : «اغسل ثوبک من البول» ، وقوله : «اغسله من البول مرّتین» .
وقد لا یحمل ، کما إذا قال : «لا تصلّ فیما لا یؤکل لحمه» ، ثمّ قال منفصلاً : «لا تصلّ فی وبر ما لا یؤکل لحمه» ؛ لعدم المنافاة بین مانعیة مطلق أجزائه ومانعیة خصوص وبره بعد القول بعدم المفهوم فی القید المأخوذ فیه حتّی یجیء التنافی من قِبَله ، وعلیک بالتأمّل فی الصور الاُخری واستخراج حکمها ممّا ذکر .
هذا کلّه فی الإلزامیین ، وأمّا غیرهما فیختلف بحسب الموارد ، ولا یهمّنا تفصیله .
نجز الکلام فی البحث عن مباحث الألفاظ ، ونحمد الله علی إتمامها ، وقد لاح بدر تمامه فی لیلة الرابع عشر من شهر شعبان المعظّم من شهور سنة 1373 من الهجرة النبویة ، وکتبه بأنامله الداثرة مؤلّفه الفقیر المیرزا جعفر السبحانی التبریزی ، ابن الفقیه الحاجّ میرزا محمّد حسین ، عاملهما الله بلطفه یوم المساق ؛ یوم تلتفّ الساق بالساق ، آ مّین .
[[page 286]]