تمهید : فی بناء العقلاء علی أصل التقلید
واستدلّ القوم علی جواز التقلید بوجوه ؛ أتقنها وأهمّها ـ بل یمکن أن یقال : إنّـه الدلیل الوحیـد ـ هـو بناء العقلاء علی رجـوع الجاهـل إلی العالم ، بل قد عـدّ ذلک من القضایا الفطریة الارتکازیـة ، وأنّ الإنسان بفطرته وارتکازه واقف علی لـزوم الاستعلام مـن العالم ، مـن غیر فرق بین أن یرجع ذلک إلی معاشه وحیاتـه المادّی وغیره . فالجاهل باُمور الصنائع یرجع إلی الصنّاع ، والمریض المسدود علیه باب معالجة مرضه یرجع إلی الأطبّاء ، وهکذا .
وهذا البناء من العقلاء أو الفطرة الإنسانیة بمثابةٍ لایرتدع عنه الإنسان إلاّ
[[page 609]]بقول صریح ونصّ مبین ، ینادی بأعلی صوته : یا معشر العقلاء یحرم علیکم الرجوع إلی الصنّاع والفلاّح والأطبّاء فیما تجهلونه إذا لم یفد قولهم العلم .
ولایکفی فی ذلک العمومات التی أوضحنا حالها عند البحث عن حجّیة الظنّ ؛ من حرمة العمل بالظنّ وغیرها ، لا لأنّه لایری العمل بأقوالهم عملاً بالظنّ ، بل عملاً بالعلم ـ کما قیل ـ وإن کان له وجه أیضاً ، بل لأنّ هذه الاُمور المرتکزة التی فطر علیها الإنسان فی حیاته بمثابة من الرسوخ والاستحکام لاینقدح فی أذهانهم أنّ الغرض من تلک العمومات ردعها وقلعها من رأس ، ولا ینتقل منها إلیه ما لم ینصّ علیه بصریح القول .
وأوضح شاهد علیه : أنّ المخاطبین فی عصر نزول هذه الآیات لم یتنبّه أحد ولم ینتقل واحد منهم إلی أنّ الهدف منها ردع تلک المرتکزات ، وأنّه لایجوز بعد نزولها العمل بقول الثقة ، أو لایجوز ترتیب أثر الملکیة علی الید ، وغیرها من الأمارات الظنّیة ، بل بقوا علی ما کانوا علیه .
وعلیه : رجوع الجاهل فی أحکامه العرفیة أو الشرعیة فرع من فروع ذلک البناء ، وصرح قائم علیه .
[[page 610]]