ذکر وتعقیب :
ثمّ إنّ المحقّق العراقی قدس سره ذهب إلی أن جمیع معانی الحروف إخطاریّة موضوعة للأعراض النسبیّة.
وحاصل ما أفاده: هو أنّ العَرَض علی قسمین: قسم غیر نسبیّ، وهو الکم والکیف، والآخر نسبیّ، ومعنی العَرَض النسبی هو أن یتوقّف علی وجود الطرفین، کالأعراض السبعة الباقیة، فللحرف وجود رابطیّ ـ أی محمولیّ ـ وهیئة الجملة تدلّ علی ربط العَرَض بموضوعه؛ أی وجود رابط، مثلاً: لفظة «فی» تدلّ علی العَرَض الأینی العارض علی زید فی قولک: «زید فی الدار»، وهیئة هذه الجملة تدلّ علی ربط
[[page 136]]هذا العَرَض الأینی بموضوعه؛ أعنی «زیداً».
وهکذا تدلّ ألفاظ «من» و «علی» و «عن» و «إلی» ـ وما رادفها من الحروف ـ علی أصناف مقولة الأین: من الأین الابتدائی، والأین الاستعلائی، والأین التجاوزی، والأین الانتهائی.
وتوهّم: أنـّه لو کان مدلول الحرف عَرَضاً نسبیّاً فهو بذاته مرتبط بموضوعه، فنفس الحرف یدلّ علی الربط، فلا تبقی حاجة إلی وضع الجملة للدلالة علی ربط العَرَض بموضوعه، بل تکون دلالة الهیئة علی الربط، تکراراً فی الدلالة علی ارتباط العرض بموضوعه فی الجملة المشتملة علی الحرف؛ لتعدّد الدالّ، وهو الحرف والهیئة وهو خلاف الوجدان.
مدفوع: بأنّ الحرف إنّما یدلّ علی العَرَض المنتسب إلی موضوع مّا، والهیئة تدلّ علی ربط ذلک العَرَض بموضوع بعینه مفصّلاً، فلفظة «فی» فی جملة «زید فی الدار» ـ مثلاً ـ تدلّ علی عَرَض الأین منتسباً إلی موضوع مّا، وهیئة الجملة تدلّ علی ربط ذلک العَرَض بزید نفسه، ومدلول الأوّل غیرالثانی، فلم یلزم التکرار المخالف للوجدان.
والإشکال: بأنّ ما ذکر إنّما یتمّ فی بعض الحروف، کلفظة «من» و «علی» و «عن» و «إلی» وما رادفها، وأمّا باقی الحروف، وما أکثرها ـ کحرف النداء والتشبیه والتعجّب ونظائرها ـ فیُشکل جدّاً تشخیص کون مدلولها عَرَضاً من الأعراض.
مدفوع: بأنّ معنی الحرف ـ کما عرفت ـ ینحصر فی الجوهر أو العَرَض أو ربطه بمحلّه، ولا شبهة فی عدم کون معناه من الجواهر.
ولا مجال لتوهّم کون معانی الحروف فی الموارد المذکورة هی ربط الأعراض بمحالّها؛ لشهادة الاستقراء بأنّ حال الحروف المذکورة حال سائر الحروف فی الدلالة علی الأعراض، والهیئات دالّة علی ربطها بمحالّها، نعم تشخیص کون معنی الحروف
[[page 137]]من أیّ أنواع العرض أمر آخر غیر مهمّ فی المقام.
وفیه مواقع للنظر :
وقبل التعرّض لها ینبغی الإشارة إلی الفرق بین الوجود الرابطی والوجود الرابط، وهو أنّ العَرَض النسبی: عبارة عن الوجود الرابطی، الذی یقال له أحیاناً الوجود المحمولی، واصطُلح «الوجود الرابطی» لما یقع طرف الربط، مثلاً: البیاض وجود رابطیّ محمولیّ، وما یربط البیاض إلی زید ـ مثلاً ـ وجود رابط.
وبالجملة: فرق بین الوجود الرابط وبین الوجود الرابطی، فإنّ الأوّل نفس الربط، والثانی له استقلال فی المفهومیّة یقع طرفاً للربط، ویقال: «اللون بیاض».
إذا تمهّد لک ما ذکرنا، یتوجّه علی ما أتعب فیه نفسه قدس سره:
أولاً: بأنّ لفظة «من» تدلّ علی الوجود الرابط، لا علی الوجود الرابطی؛ لأنـّه لو دلّت علی العرض النسبی والوجود الرابطی، فلابدّ وأن یکون معناها مستقلاً بالمفهومیّة وتصحّ أن تقع محمولاً، مع أنّ الوجدان حاکم بخلافه، فإنّه یحکم بأنّ لفظة «من» لها وجود رابط، تربط بین الأشیاء، لا وجود رابطیّ، فتدبّر.
وثانیاً: أنّ «زیداً فی الدار» ـ مثلاً ـ لا یدلّ علی المقولة؛ لأنّ لفظتی «زید» و «الدار» تدلاّن علی الجوهر، وهو واضح، ولفظة «فی» تدلّ علی حصول وجوده فی الدار، وهذا المعنی هو الوجود الرابط، فلا تکون هذه مقولة؛ لأنّ المقولة ـ حتیّ مقولة الإضافة التی هی أضعف المقولات ـ وجود رابطیّ مستقلّ بالمفهومیّة، ومقولة «الأین» هی هیئة کون الشیء فی المکان، ومقولة «متی» هیئة حصول الشیء فی الزمان، ومقولة الوضع هی الهیئة الحاصلة من نسبة الأجزاء بعضها إلی بعض، ومن نسبة
[[page 138]]مجموع الأجزاء إلی الخارج، ومقولة الإضافة هی النسبة المتکرّرة... وهکذا.
وبالجملة: کون شیء فی هذا، أو عن هذا، أو علی هذا، أو إلی هذا، ونحوها ـ اللاتی تدل علیها الحروف ـ وجودات رابطة، لا وجودات رابطیّة مقولیّة، والمقولة المعنی المتحصّل منها.
وثالثاً : ما یقول قدس سره فی مثل «یا» النداء و «واو» القسم ونحوهما؟! هل تحکی عن المقولة؟! حاشا؛ بداهة أنّ «یا» النداء ـ مثلاً ـ لا تحکی عن نداء خارجیّ أو ذهنی بل توجد فرداً منه حین الاستعمال، فمعناها ـ حیث تکون إیجادیّة ـ لا یدخل تحت مقولة أصلاً.
ولیت هذا المحقّق یعیّن أنـّها من أیّ مقولةٍ من الأعراض، والمقولات معلومة معدودة، وإثبات مقولیّة شیء لا یتمّ إلاّ بإثبات أنـّه من أیّ مقولة، فتدبّر.
ورابعاً: أنـّه لا معنی محصّل للأین الابتدائی، والأین الانتهائی، والأین الاستقلالی، والأین التجاوزی، کما لا یخفی.
[[page 139]]