المورد الأوّل : فیما یمکن أن یستدلّ به للقائلین بامتناع الأخذ ذاتاً
وهو وجوه :
الوجه الأوّل : أنّ نسبة الحکم لمتعلّقه نسبة العرض إلی معروضه ؛ فالمتعلَّق متقدّم علیٰ حکمه ؛ تقدّم الجوهر علیٰ عرضه .
فوجوب الصلاة ـ مثلاً ـ منتزع من البعث المتعلّق بالصلاة ؛ فیکون متأخّراً عن الصلاة وعن الأمر بها ، کما أنّ الصلاة متقدّمة علی الأمر بها .
فإذن : کلّ ما یکون قیداً للمتعلّق ـ کالصلاة مثلاً ـ فلابدّ وأن یکون متقدّماً
[[page 166]]علی الأمر به ، وعلیٰ ما ینتزع من تعلّق الأمر به . فالصلاة ـ مثلاً ـ بجمیع قیودها متقدّمة علی الأمر بها وعلی الوجوب المنتزع من تعلّق الأمر بها .
وواضح : أنّ قصد الأمر وامتثاله وإطاعته یتوقّف علی الأمر ومتأخّر عنه ؛ لأنّه لو لم یکن هناک أمر لا یکون لقصده معنی ، والأمر متأخّر عن متعلّقه .
فلو اُخذ قصد الأمر فی موضوعه یلزم أخذ ما یکون متأخّراً عن الأمر فی متعلّق الأمر ، فیلزم أن یکون الشیء المتأخّر عن ذاته برتبتین متقدّماً علیها .
وفیه أوّلاً : أنّ الأحکام الشرعیة ـ کما سیظهر لک ـ لیست من قبیل الأعراض ؛ لأنّها من الحقائق المتأصّلة المتحقّقة فی الخارج ، والأحکام اُمور اعتباریة جعلها الشارع الأقدس ـ أو کلّ مقنّن ـ فی عالم التشریع والاعتبار .
فظهر : أنّ ترتیب آثار الأعراض علی الأحکام غیر صحیح .
وثانیاً : لو سلّم أنّ الأحکام من قبیل الأعراض للموضوعات ولکن لا یلزم الدور وتقدّم العرض علیٰ موضوعه ؛ لأنّ الحکم لو کان عرضاً لکنّه لم یکن عرضاً للموضوع المتحقّق خارجاً ، بل عرضاً للموضوع الذهنی ؛ وذلک لأنّه ربّما یتصوّر الشیء غیر الموجود فی الخارج بالعنوان ، ویعلّق علیه الحکم ، بل متعلّقات الأحکام برمّتها کذلک ؛ حیث لم تکن خارجیة .
نعم ، بعد تعلّق الأمر بها یوجدها المکلّف فی الخارج . فالأمر تعلّق بعنوان الصلاة ـ مثلاً ـ ولم تکن موجودة فی الخارج ، وإنّما یوجدها المکلّف .
وبالجملة : لا یحتاج الأمر والبعث إلی موضوع متحقّق فی الخارج ؛ لأنّ الأوامر ـ کما قرّر فی محلّه ـ متعلّقة بالطبائع نفسها ، لا بلحاظ وجودها الخارجی ، بل بلحاظ تقرّرها الذهنی .
فموضوع التکلیف هی نفس الطبیعة من حیث هی هی ، التی لا تقرّر لها إلاّ فی
[[page 167]]الذهن ، لکن لا مقیّدة بوجودها فی الذهن ، وإلاّ لما صحّ الحکم علیها ؛ حتّیٰ قولهم : الماهیة من حیث هی هی لیست إلاّ هی .
فإذن : الأمر إنّما یتعلّق بوجود الطبیعة المتقرّرة فی الذهن ، ویرید إیجادها خارجاً ، وواضح أنّ تقرّر الطبیعة فی الذهن لا یتوقّف علی الأمر ؛ لما أشرنا أنّه ربّما یتصوّر اُمور لا خارجیة لها .
فعلیٰ هذا : کما یمکن تصوّر الصلاة ـ مثلاً ـ من حیث هی هی ، والتصدیق بفائدتها ، والاشتیاق بها ، ثمّ الإرادة المحرّکة نحوها ، ویمکن تصوّرها والتصدیق بفائدتها والاشتیاق وإرادتها مقیّدة بکونها إلی القبلة ، وکونها بعد الوقت ونحوهما .
فکذلک یمکن تصوّرها مقیّدة بالأمر بها ؛ بداهة أنّه للآمر أن یتصوّر طبیعةً ما ، فیتصوّر کونها بقصد الأمر ، ثمّ یأمر بها مقیّدة به .
إذا أحطت خبراً بما ذکرنا ظهر لک : أنّ ما یتوقّف علی الأمر هو وجوده الخارجی للمأمور به بقصد الأمر ، وأمّا الذی یتوقّف علیه الأمر هو وجوده الذهنی ؛ فالموقوف غیر الموقوف علیه .
فتحصّل : أنّ ما یتوقّف الأمر علیه هو تصوّر الطبیعة ؛ إمّا مطلقة أو مقیّدة بقید أو قیود ، وما یتوقّف علی الأمر هو وجودها الخارجی ؛ فلا توقّف فی البین .
والإشکال نشأ من خلط الموضوع الخارجی بالموضوع الذهنی .
وبعبارة اُخری : الاختلاط بین المصداق الخارجی المتوقّف علی الأمر وبین العنوان الذهنی المتوقّف علیه الأمر أوجب الإشکال ، وکم له من نظیر ! کما لایخفیٰ علیٰ من له وقوف بالمسائل .
الوجه الثانی : قریب من الوجه الأوّل ؛ وهو أنّ کلّ حکم یتوقّف علیٰ موضوعه ، والموضوع هنا متوقّف علی الحکم ؛ لأنّ قصد الأمر قید للموضوع ؛ فیلزم تقدّم الشیء علی نفسه .
[[page 168]]وبالجملة : موضـوع الأمـر ـ مثلاً ـ الصلاة مقیّدة بقصد الأمـر ؛ فقصـد الأمر جـزء لموضـوع الأمر ، فالأمـر متوقّف علیٰ موضوعـه المتوقّف جـزئه علی الأمـر ، وهو دور باطل .
وفیه : أنّه یظهر النظر فی هذا الوجه ممّا ذکرناه فی الوجه الأوّل .
أضف إلی ذلک : أنّ قصد الأمر فی مقام الامتثال وإن کان یتوقّف علی الأمر لکن الأمر لا یتوقّف علیٰ قصده ، فتدبّر .
الوجه الثالث : ما أفاده المحقّق النائینی قدس سره ، وهو طویل الذیل ، وحاصله : أنّه قدس سره بعد أن ذکر : أنّ لکلّ من الموضوع والمتعلّق انقسامات عقلیة سابقة علیٰ مرحلة ورود الحکم علیه ، ککون المکلّف عاقلاً بالغاً قادراً رومیاً زنجیاً ، إلیٰ غیر ذلک ، وککون الصلاة إلی القبلة أو فی المسجد أو فی الحمّام ، إلیٰ غیر ذلک .
وانقسامات لاحقة بعد ورود الحکم علیه ؛ بحیث لولا الحکم لما أمکن لحوق تلک الانقسامات ، ککون المکلّف عالماً بالحکم أو جاهلاً به ، وککون الصلاة ممّا یتقرّب ویمتثل بها .
فأثبت إمکان التقیید والإطلاق فی الانقسامات السابقة علیٰ کلّ مـن الموضـوع والمتعلّق .
قال بعـدم إمکان التقیید فـی الانقسامات اللاحقـة ثبوتاً ، وإذا امتنـع التقیید امتنـع الإطلاق أیضاً ؛ لما بین الإطـلاق والتقیید تقابل العـدم والملکـة . ثمّ ورد فی
[[page 169]]بیان عـدم إمکان تقییـد الموضـوع فی مرحلتی الإنشاء والفعلیـة .
إلی أن قال : أمّا الانقسامات اللاحقة للمتعلّق فیمتنع أخذها فی المتعلّق فی مرحلة الإنشاء ومرحلة الفعلیة ومرحلة الامتثال .
وحاصل ما أفاده فی امتناع التقیید فی مرحلة الإنشاء : هو أنّ قصد الامتثال من الانقسامات اللاحقة للحکم ؛ فإن اُخذ قصد امتثال الأمر فی متعلّق نفس ذلک الأمر یستلزم تصوّر الأمر قبل وجود نفسه .
وقال فی بیانه : إنّ فعل المکلّف إذا کان له تعلّق بما هو خارج عن قدرته فلابدّ من أخذ ذلک الشیء مفروض الوجود ؛ لیتعلّق به فعل المکلّف ، ویرد علیه الأمر . وقصد الأمر کذلک ؛ لأنّ قصد الامتثال ـ الذی هو فعل المکلّف ـ إنّما یتعلّق بما هو خارج عن قدرته ـ وهو فعل الشارع ـ فلابدّ وأن یکون موجوداً لیتعلّق القصد به ؛ إذ لا یعقل تعلّق الأمر بالاستقبال ، مع عدم وجود المستقبل إلیه .
فلیس فی المقام إلاّ أمر واحد تعلّق بالقصد ، وتعلّق القصد به . وهذا ـ کما تری ـ یلزم منه وجود الأمر قبل نفسه .
وفیه ـ مضافاً إلیٰ بعض ما ذکرناه فی الوجهین الأوّلین ـ أنّه قدس سره قال أوّلاً : إنّه لو اُخذ قصدالامتثال یستلزم تصوّرالأمر قبل وجود نفسه ، ومقتضیٰ تقریبه الذی ذکرناه وصرّح هو قدس سره أیضاً هو وجود الأمر قبل نفسه ، لا تصوّر الأمر قبل وجود نفسه .
ثمّ إنّه قدس سره صرّح : بأنّه لو کان لفعل المکلّف تعلّق بما هـو خارج عن قدرته یلزم أخذها مفروض الوجود . واستنتج منه فی النهایة : وجود المعلّق علیه خارجاً ، وهو عجیب ، فلاحظ .
[[page 170]]مع أنّه لا دلیل علیٰ لزوم فرض وجود الموضوع ، إلاّ أن یرجع إلیٰ ما ذکرناه ؛ من أنّه لابدّ من تصوّر الموضوع ثمّ تعلّق الأمر به ، فتدبّر .
وحیث إنّ مرجـع امتناع الأخـذ فی کلامه قدس سره إلی الامتناع بالغیر فیظهـر ضعفه عند ذکـر الوجـوه التی اُقیمت للامتناع بالغیر ، التی نشیر إلیها فـی المورد الثانی ، فارتقب .
الوجه الرابع : أنّ خصوصیة الحکم لا تکاد تسری إلی الموضوع المتقیّد إلاّ إذا کان الموضوع المتقیّد مع قیده متحقّقاً قبل الحکم لیتوجّه البعث إلیه ، فإن جاء القید من ناحیة الحکم یلزم منه مفسدة الدور ؛ وهی تقدّم الشیء علیٰ نفسه .
وبالجملة : الأمر الفعلی المتقیّد بقید لا یعقل إلاّ مع وجود المتقیَّد به ، فإن جاء القید من ناحیة الأمر تلزم مفسدة الدور .
وفیه : أنّ لزوم تقدّم المتقیّد بقید قبل تعلّق الحکم وإن کان صحیحاً وممّا لابدّ منه إلاّ أنّه لا یلزم ذلک وجوده خارجاً . وغایة ما یلزم هی وجوده فی الذهن . نعم فی بعض الموارد یکون المتقیّد به موجوداً قبل تعلّق الحکم ، کمسألة الاستقبال .
وبالجملة : لا یلزم تحقّق القیود أوّلاً فی الخارج ثمّ تعلّق التکلیف متقیّدة بها ، بل المقدار اللازم هو وجودها فی ظرف إتیانها .
أضف إلیٰ ذلک : ما ذکرناه فی الوجوه الثلاثة . فإن أحطت خبراً بما تلوناه تکون فی فسحة من دفع امتناع أخذ قصد الأمر فی المتعلّق ذاتاً ، کما لا یخفیٰ .
[[page 171]]