الأمر الأوّل : فی قبول الإرادة مع بساطتها للشدة والضعف
قال المحقّق النائینی قدس سره ما حاصله : إنّ الإرادة بما أنّها شوق مؤکّد مستتبع لتصدّی النفس لحرکة العضلات لا تقبل الشدّة والضعف ، بل هی فی جمیع الأفعال الصادرة من الإنسان علیٰ نسق واحد .
ولیس هذا من الاُمور التی ترجع فیها إلی اللغة ، بل العرف ببابک ، فهل تریٰ من نفسک اختلاف تصدّی نفسک وحملتها نحو ما کان فی منتهیٰ درجة المصلحة وقوّة الملاک کتصدّی نفسک نحو شرب الماء الذی به نجاتک ، أو نحو ما کان فی أوّل درجة المصلحة ، کتصدّی نفسک لشرب الماء لمحض التبرید ؟
کلاّ ! لا یختلف تصدّی النفس المستتبع لحرکة العضلات باختلاف ذلک ، بل بعث النفس للعضلات فی کلا المقامین علیٰ نسق واحد ، انتهیٰ .
وفرّق المحقّق العراقی قدس سره بین الإرادة التکوینیة والإرادة التشریعیة ، فقال : إنّ
[[page 136]]الإرادة التی لا یتصوّر فیها الشدّة والضعف هی الإرادة التکوینیة ، وأمّا الإرادة التشریعیة فهی تابعة للمصلحة التی تنشأ منها ؛ فإن کانت المصلحة لزومیة کانت الإرادة الناشئة منها إلزامیة ، ویعبّر عنها بالإرادة الوجوبی ، وإن کانت المصلحة غیر لزومیة کانت الإرادة أیضاً غیر إلزامیة ، ویعبّر عنها بالإرادة الاستحبابی .
أقول : لم یقیما العلمان دلیلاً وبرهاناً علیٰ مدّعاهما ، وغایة ما یظهر منهما هی أنّ الإرادة هی الشوق المؤکّد الذی لا تکون فوقها مرتبة . نعم ادّعی المحقّق النائینی قدس سره شهادة الوجدان علیٰ مقالته .
فنقول من رأس : کون الإرادة عبارة عن الشوق المؤکّد وإن وقع فی کلام کثیر ـ حتّی من الفلاسفة ـ ولکنّه غیر صحیح ؛ وذلک لأنّه قد ترید شیئاً ولا تکون مشتاقاً إلیه ، فضلاً عن تأکّده ، بل کنت تکرهه ، هذا .
مضافاً إلی اختلافهما من حیث المقولة ؛ لأنّ الإرادة صفة فعلیة ـ ویعبّر عنها بتجمّع النفس وهمّتها ونحوهما ـ والاشتیاق صفة انفعالیة .
وإن کنت فی ریب ممّا ذکرنا : فاختبر نفسک حال من فسد عینه ، وقال الطبیب الحاذق : إن أردت السلامة والعافیة فلابدّ من قلعها .
فالمـریض العاقل یتصـوّر قلع عینه ویصدق بفائـدته ، فیرجّح القلـع علـیٰ بقائها ؛ لأنّ سلامته وعافیتـه علـیٰ قلعها . ولکنّه مـع ذلک لـم یکن مشتاقاً إلیٰ قلعها ، وهذا أوضح من أن یخفیٰ .
نعـم ، قـد یرید شیئاً ، ویکـون مشتاقاً إلیه أیضاً ، کمـن یریـد إنقاذ محبوبـه من الغرق .
[[page 137]]وبالجملة : قد یرید الإنسان ما یشتاق إلیه نفسه ، وقد یرید ما یکرهه ؛ لحکم العقل وإغرائه علیٰ ترجیح المصلحة القویة علی المصلحة الضعیفة ، وکم فرق بین ترجیح العقل أحد طرفی الفعل علی الآخر ، وبین اشتیاقه لأحدهما دون الآخر ! بداهة أنّ الترجیح حکم العقل ، والاشتیاق من صفات النفس .
فتحصّل : أنّ الشوق المـؤکّد غیـر الإرادة ، بل لـم یکن مـن مبادئها دائماً ، ونفـس الاشتیاق ـ بلـغ ما بلغ ـ ما لـم تضمّ إلیه أمـر آخـر لا یـوجب تحقّق الفعل خارجاً .
ولو سلّم کون الاشتیاق من مبادئ الإرادة ، أو أنّها هی الشوق المؤکّد لکن الضرورة قاضیة بوجود الشدّة والضعف فی الإرادة ؛ بداهة أنّ إرادة إنقاذ المحبوب عن الغرق أقویٰ من إرادة شرب الماء للتبرید .
وکم فرق بین إرادة الحکومة والسلطنة علی الناس ، وبین إرادة کنس البیت ! ولذا قد لا یبالی للوصول إلیٰ مراده فی الاُولی من لا تَقْویٰ له لهلاک نفس أو نفوس کثیرة ، دون الثانیة .
وبالجملة : یختلف إرادة الفاعل فیما یصدر منه قوّةً وضعفاً حسب اختلاف أهمّیة المصالح والغایات المطلوبة منه ؛ فالإرادة المحرّکة لنجاة نفسه أقویٰ من المحرّکة لها للقاء محبوبه ، وهی أقویٰ من المحرّکة لها للتفرّج والتفریح ، وهکذا . . .
فظهر : أنّ الذی یقتضیه الوجدان ، بل علیه البرهان هو أنّ الإرادة لها مراتب ، وهی غیر الاشتیاق ، والاشتیاق ـ بأیّ مرتبة کانت ـ لا یوجب بعثاً ، وهذا ممّا لا إشکال فیه .
والإشکال إنّما هـو فـی کیفیة قبـول الإرادة للشـدّة والضعف ، مـع أنّها حقیقـة بسیطـة ، کما اُورد ذلک الإشکال فـی الوجـود والعلم وغیـرهما مـن الحقائـق البسیطة .
[[page 138]]وقد أجابوا عـن الإشکال فـی جمیع المـوارد : بأنّ ما بـه الاشتراک فیها عین ما به الامتیاز .
ولا یکون الاختلاف بینهما بتمام الذات المستعملة فی الماهیات أو بعضها أو بأمر خارج عنها ؛ ضرورة عدم التباین الذاتی بین الإرادة القویة والضعیفة . ولا یکون اختلافهما ببعض الذات ؛ لبساطتها . ولا بأمر خارج حتّیٰ تکونا فی مرتبة واحدة ، والشدّة والضعف لاحقان به .
فالإرادة ـ کسائر الحقائق البسیطة ـ تکون افتراق مراتبها کاشتراکها بتمام الذات ، وتکون ذات عرض عریض ومراتب شتّیٰ . ولا یهمّنا التعرّض لتحقیق الأمر فی ذلک هنا ، ومن أراد حقیقة الحال فلیراجع مظانّه .
[[page 139]]