المقصد الأوّل فی الأوامر

الجهة الثانیة فی أنّ صیغة الأمر هل هی موضوعة لمعنیً واحد أو لمعانٍ متعدّدة‏؟

کد : 148312 | تاریخ : 29/01/1394

الجهة الثانیة فی أنّ صیغة الأمر هل هی موضوعة لمعنیً واحد أو لمعانٍ متعدّدة ؟

‏ ‏

‏ذکر لصیغة الأمر معانٍ‏‎[1]‎‏ ، کما ذکر لهمزة الاستفهام معانٍ .‏

‏فیقع الکلام فی أنّ تلک المعانی هل معانیها بنحو الاشتراک اللفظی ، أو لها معنیً‏‎ ‎‏واحد ـ وهو البعث أو إنشاء الطلب ـ والدواعی الکثیرة لا توجب المجازیة أو أنّ فی‏‎ ‎‏واحد منها حقیقة وفی الباقی مجاز ؟ وجوه ، بل أقوال .‏

‏والظاهر أنّ المتبادر من صیغة الأمر : هو البعث والإغراء الاعتباری فی عالم‏
‎[[page 131]]‎‏الاعتبار ـ أعنی فی دائـرة المولویة والعبودیة ـ والمعانی الکثیرة التی عدّت لصیغة‏‎ ‎‏الأمـر لیست معانیها ، ولم توضع الهیئة لها ، ولـم تستعمل فیها فی عـرض استعمالها فی‏‎ ‎‏البعث والإغراء .‏

‏بل هی مستعملة فیها مجازاً علیٰ حذو سائر الاستعمالات المجازیة ؛ حیث لم‏‎ ‎‏یستعمل اللفظ فیها فی غیر ما وضع له ، بل استعمل فیما وضع له ؛ لیتجاوز منه إلی‏‎ ‎‏المعنی المراد جدّاً ؛ للعلاقة .‏

‏مثلاً : لفظ «الأسـد» فی قوله : «رأیت أسداً یرمـی» لم یستعمل فـی الرجل‏‎ ‎‏الشجاع ، بل استعمل فـی معناه الواقعی ، کما فی قوله : «رأیت أسـداً» مریـداً به‏‎ ‎‏الحیوان المفترس .‏

‏نعم ، یستعمل لفظ «الأسد» تارة ویرید منه الأسد الواقعی ؛ فیکون حقیقة‏‎ ‎‏فیه ، من «حقّ الشیء» إذا ثبت ، فکأنّه اُرید أن یثبت ذهن السامع فیه ، ولا یتجاوزه‏‎ ‎‏إلیٰ غیره . کما یستعمل اُخریٰ ویرید منه التجاوز منه إلیٰ غیر معناه الموضوع له ،‏‎ ‎‏بادّعاء أنّه عینه ؛ فیکون مجازاً ، من «جاز» إذا تعدّیٰ ، فکأنّ المتکلّم بحسب القرینة‏‎ ‎‏یرید انصراف ذهن السامع من الأسد الواقعی إلی الرجل الشجاع .‏

‏وما أسمعناک فی الاستعمالات المجازیة هو الذی ذکره المشهور فی خصوص‏‎ ‎‏الکنایة ؛ حیث قالوا : إنّ اللفظ فی باب الکنایة یستعمل فیما وضع له ؛ لینتقل منه إلی‏‎ ‎‏المعنی المراد بذلک اللفظ .‏

‏مثلاً قوله : «زید کثیر الرماد» إذا استعمل ذلک واُرید منه انتقال ذهن السامع‏‎ ‎‏إلی لازمه ـ الذی هو عبارة عن جوده وکرمه ـ تکون کنایة . وأمّا إذا استعمل واُرید‏‎ ‎‏منه إفادة معناه فقط لا یکون کنایة .‏

‏وقد استعملت فی قوله تعالی : ‏‏«‏فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ‏»‏‎[2]‎‏ فی معناه لینتقل‏‎ ‎
‎[[page 132]]‎‏الذهن منه إلیٰ عدم قدرتهم علی إتیان مثله .‏

‏وأمّا فی غیر باب الکنایة ـ من سائر أنواع المجازات ـ فیرون أنّ اللفظ فیها‏‎ ‎‏مستعمل فی غیر ما وضع له .‏

‏ولکن الذی یحکم به الذوق السلیم ، وتقتضیه البلاغة : أنّ اللفظ فی غیر باب‏‎ ‎‏الکنایة ـ من سائر أنواع المجازات ـ أیضاً استعمل فیما وضع له ، ولا فرق بین الکنایة‏‎ ‎‏وسائر أنواع المجازات من هذه الجهة .‏

‏ولذا یسری الصدق والکذب فی هذه القضایا أیضاً ؛ فإنّ من یقول : «کنت اُقدّم‏‎ ‎‏رجلاً واُؤخّر اُخریٰ» مثلاً فإمّا یرید معناه الحقیقی ، أو یرید منه لازمه ، الذی هو‏‎ ‎‏عبارة عن التحیّر والاضطراب .‏

‏وصدقه علی الأوّل إنّما هو إذا تقدّم أحد رجلیه وأخّر اُخراه ، وکذبه عدم ذلک .‏‎ ‎‏وأمّا صدقه علی الثانی فإنّما هو إذا حصلت منه حالة التحیّر والاضطراب ، وکذبه إنّما‏‎ ‎‏هو فیما لم یحصل منه تلک الحالة ، وإن تقدّم أحد رجلیه وأخّر اُخراه .‏

وبالجملة :‏ أنّ الاستعمالات المجازیـة برمّتها لم تکـن استعمالات الألفاظ فـی‏‎ ‎‏غیـر ما وضعت لها حتّیٰ یکـون التلاعب بالألفاظ ، بل استعمالات لها فیما وضعت لها ؛‏‎ ‎‏فالتلاعب إنّما هـو فی المعانـی حسب ما فصّلنـاه فـی الجـزء الأوّل مـن هـذا‏‎ ‎‏الکتاب فلاحظ .‏

‏ولم یشذّ منها صیغة الأمر وهمزة الاستفهام ، بل استعمل کلّ منهما فی معناهما‏‎ ‎‏الموضوع له ؛ من إیجاد البعث الاعتباری والاستفهام .‏

‏غایة الأمر : استعملت هیئة الأمر ـ مثلاً ـ فی البعث لیحقّ ویثبت ذهن السامع‏‎ ‎‏علیه ، ویفهم منها ذلک ، فیبعث إلی المطلوب ، فیکون حقیقة . وربّما تستعمل فیه ، لکن‏‎ ‎‏لیتجاوز ذهنه إلی المعنی المراد جدّاً بعلاقة ونصب قرینة .‏


‎[[page 133]]‎‏ففی قوله تعالی : ‏‏«‏أمْ یَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَیٰاتٍ‏»‏‎[3]‎‏ ‏‎ ‎‏استعملت هیئة الأمر فی البعث ، لکن لا لغرض البعث ، بل للانتقال منه إلی خطأهم فی‏‎ ‎‏التقوّل علیٰ رسول الله  ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ ، أو لتعجیزهم عن الإتیان بمثل القرآن ، فتدبّر .‏

‎ ‎

‎[[page 134]]‎

  • )) قلت : وقد أنهاها بعضهم ـ کما حکی ـ إلی نیف وعشرین معنی(أ) ، نشیر إلی بعضها :     منها : التمنّی ، کقول امرء القیس :ألا أیّها اللیل الطویل ألا انجلی    بصبحٍ وما الإصباح منک بأمثل(ب)     ومنها : التهدید ، کقوله تعالی : «اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ» [فصّلت (41) : 40] .     ومنها : الإنـذار ، کقولـه تعالـی : «قُلْ تَمَتَّعُوا» [إبـراهیـم (14) : 30] ، ویمکـن رجوعـه إلـی التهدید .     ومنها : الإهانة ، کقوله تعالی : «ذُقْ إنَّکَ أَنْتَ الْعَزِیزُ الْکَرِیمُ» [الدخان (44) : 49] .     ومنها : التعجیز ، کقوله تعالی : «فأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ» [ البقرة (2) : 23] .     ومنها : التسخیر ، کقوله تعالی : «کُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِینَ» [الأعراف (7) : 166] .     ومنها : الدعاء ، کقوله تعالی : «رَبِّ اغْفِرْ لِی» [ص (38) : 35] .     إلی غیر ذلک . [المقرّر حفظه الله ] .ــــــــــــــــــــــــــأ ـ مفاتیح الاُصول : 110 / السطر 18 .ب ـ جامع الشواهد : 161 .
  • )) البقرة (2) : 23 .
  • )) هود (11) : 13 .

انتهای پیام /*