الجهة الثانیة : فی ما وضع له مادّة الأمر ، وهی «أ م ر»
ذهب بعض إلی أنّ مادّة «أمر» موضوعة للطلب ، کما أنّه ذهب آخر إلی أنّها موضوعة للإرادة المظهرة ، کما ذهب ثالث إلی أنّها موضوعة للبعث ، إلی غیر ذلک من الأقوال .
ولکن الذی یتبادر منها : أنّها موضوعة لمعنیً اسمی منتزع من هیئات الصیغ الخاصّة بما لها من المعنی الحرفی .
وبعبارة اُخریٰ : أنّ هیئات صیغ الأمر وإن کانت معانی حرفیاً آلیاً لإیجاد البعث ـ کهیئة «اضرب» لإیجاد بعث الضرب ، وهیئة «أکرم» لإیجاد بعث الإکرام ، وهکذا ـ إلاّ أنّه یمکن تصویر جامع اسمی بینها ، کما صحّ انتزاع مفهوم الربط ـ الذی هو مفهوم اسمی ـ من المعانی الحرفیة والروابط بالحمل الشائع .
فکما صحّ وضع لفظ الربط لمفهوم اسمی انتزاعی من المعانی الحرفیة فکذلک صحّ وضع لفظ الأمر لمعنیً اسمی منتزع من الهیئات بما لها من المعانی الحرفیة ؛ أی
[[page 111]]یکون لفظ الأمر موضوعاً لمعنیً تکون مصادیقه : «اضرب» و«أکرم» و«انصر» وهکذا .
فالطلب والبعث والإرادة المظهرة وغیر ذلک لم یکن أمراً ، بل هی إمّا من مقدّمات الأمر ، أو مظهراته ، أو لواحقه .
فما یتبادر من مادّة الأمر هو الجامع المنتزع ، کما أنّ لفظة هیئة الأمر جامع بین هیئات اضرب وأکرم ونحوهما . ولفظة الهیئة جامع بین هیئات ضرب ویضرب وضارب وهکذا .
وبالجملة : المتبادر من مادّة الأمر هی الحصّة من الشیء .
فتحصّل : أنّ المتبادر من مادّة الأمر هو الجامع الانتزاعی من هیئات صیغ الأمر بما لها من المعانی ، لا نفس تلک الهیئات ولو استعملت لغواً أو فی غیر معانیها .
فإذا کان مفهوم الأمر معنیً اسمیاً انتزاعیاً من المعانی الحرفیة الحدثیة فله معنیً اشتقاقی یصحّ الاشتقاق منه . کما أنّ للفظة «القول» و«اللفظ» معنیً اسمیاً ، ومع ذلک صحّ الاشتقاق منه بلحاظ المعنی الحدثی .
هذا کلّه بحسب معنی الأمر لغة .
ولا یبعد أن یکون معناه الاصطلاحی أیضاً هو هذا ؛ وذلک لأنّ معناه الاصطلاحی هو الطلب بالصیغة ؛ فیصحّ الاشتقاق منه بلحاظ کونه حدثاً صادراً عن المتکلّم .
فظهر : أنّ وزان الأمر وزان «اللفظ» و«القول» ؛ فکما أنّ لهما معنیً اسمیاً ، ومع ذلک صحّ الاشتقاق منهما بلحاظ المعنی الحدثی ، فکذلک الأمر یصحّ الاشتقاق منه بلحاظ معناه الحدثی ، ولو کان له معنیً اسمیاً .
ولا یخفیٰ : أنّ قوله : «آمرک بکذا . . .» یستعمل تارة فی الجامع الانتزاعی حین إظهار الطلب الحقیقی بأحد الأدوات ـ من قول أو فعل ـ واُخریٰ فی مقام إنشاء
[[page 112]]البعث . فعلی الأوّل لا یکون أمراً بالحمل الشائع ، وإنّما یفید ذلک بالحمل الأوّلی . وعلی الثانی ـ فمضافاً إلی کونه أمراً بالحمل الأوّلی ـ یکون مصداقاً لعنوان نفسه .
وبالجملة : لفظة «الأمر» وضعت لکلّ ما یدلّ علی البعث والإنشاء . فقولک : «آمرک بکذا . . .» إن أردت بذلک إنشاء البعث بنفس ذلک اللفظ فیکون هذا مصداقاً وحملاً شائعاً لنفسه ، ولا مانع من أن یکون شیء مصداقاً لعنوان نفسه .
وذلک مثل «اللفظ» فإنّ معناه ما یتلفّظ به الإنسان ؛ فکما أنّ المتلفّظ بکلمة «زید» لفظ فکذلک المتلفّظ بکلمة «اللفظ» لفظٌ ؛ لأنّه أیضاً ما یتلفّظ به الإنسان . ونظیر ذلک «القول» و«الشیء» و«الموجود» وأمثال ذلک .
ذکر وتعقیب
فقد ظهر لک ممّا ذکرنا : أنّه قد یکون بعض الأشیاء حملاً شائعاً ومصداقاً لعنوان نفسه ، ولا إشکال فی ذلک ، وکم له من نظیر ! ولفظ الأمر کذلک .
ولکن أورد المحقّق العراقی قدس سره علیٰ ذلک ـ أی فی صدق الأمر فیما لو أظهر الطالب طلبه بلفظ الأمر ؛ فقال : «آمرک بکذا» قاصداً بذلک إظهار طلبه بهذا اللفظ ـ إشکالین ، أجاب عن أحدهما ولم یجب عن الآخر ، فلیراجع إشکاله الأوّل وجوابه إلی تقریرات بحثه .
[[page 113]]وأمّا إشکاله الثانی ـ الذی لم یتفصّ عنه ـ فحاصله : أنّ مفهوم مادّة الأمر منتزع عن إبراز الطلب ، فلا محالة یکون هذا المفهوم فی عالم التصوّر حاکیاً وطریقاً إلی الإبراز ، ومعه یستحیل أن یکون واسطة لثبوته ؛ ضرورة أنّ مرجع الطریقیة إلی کونها من وسائط إثباته ؛ بحیث یری المحکی عنه مفروغ الثبوت . وفی هذا النظر یستحیل توجّه النفس إلی إثباته بهذه المادّة المستعملة فی معناها .
وحینئذٍ : لو اُرید إظهار الطلب بهذه المادّة فلا محیص من تجرید المعنی عن قید الإبراز ، فیراد منه حینئذٍ صرف الطلب . وإنّما یراد منه الطلب بقید الإبراز عند الإخبار بهذه المادّة عن إظهار الطلب بمظهر آخر ، انتهی .
وفیه أوّلاً : أنّ الوجدان أصدق شاهدٍ بأنّ قولک «آمرک بکذا . . .» فی صورة إنشاء الطلب به مثل قولک ذلک فی صورة إخبارک عن إظهار الطلب بمظهر آخر فی أنّه لا یکون فیه مجازیة وتجرید ، ولا ینقدح المجازیة فی الذهن أصلاً .
ومن هنا صحّ أن نتّخذ ذلک سنداً ودلیلاً علیٰ مقالته ، ونقول : إنّ معنی مادّة «أمَرَ» لم تکن الإرادة المظهرة بالوجدان ، فتدبّر .
وثانیاً : أنّه لو کان معنی مادّة الأمر منتزعاً عن إبراز الإرادة والطلب فغایة ما هناک هی حکایة مادّة الأمر عن مفهوم إبراز الإرادة ، وواضح أنّ ذلک لا ینافی إیجاد مصداق منه من نفس «آمرک بکذا . . .» .
[[page 114]]ولک أن تقول : إنّ ما أفاده علیٰ مبناه فی معانی الهیئات تمام ؛ لأنّه ـ کما تقدّم ـ یریٰ أنّ معانی الهیئات کلّها حکائی لا إیجادی . وأمّا علی المختار ـ من أنّ الهیئات علیٰ قسمین : إیجادی وحکائی ـ فلا یتمّ ، فتدبّر .
[[page 115]]