توهّم بقاء الرجحان والجواز بعد نسخ الوجوب ودفعه
ربّما یتوهّم بقاء الرجحان والجواز عند نسخ الوجوب ، وذلک بأحد وجهین :
الوجه الأوّل : أنّ الطلب الإلزامی والوجوب کما یکشف عن إرادة حتمیة إلزامیة ، کذلک یکشف عن الرجحان الجامع بین الوجوب والاستحباب ، وعن أصل الجواز ، وغایة ما یقتضیه نسخ الوجوب هی رفع الإرادة الحتمیة الإلزامیة ، وواضح : أنّ سقوط کاشفیة شیء بالنسبة إلی شیء لا یوجب سقوطها بالنسبة إلی أمر آخر ، فتبقی کاشفیته بالنسبة إلی غیر الإرادة الإلزامیة بلا مانع .
وفیه : أنّه لو سلّم کاشفیة الطلب والوجوب ، فغایته کاشفیته عن إرادة بسیطة حتمیة ، ولم یکد یکشف فی عرضه عن إرادتین اُخریین :
أحدهما : إرادة الرجحان الجامع ،
ثانیهما : وإرادة أصل الرجحان .
نعم ، عند کشفه عن إرادة حتمیة یحکم العقل ویری وجود الرجحان وأصل الجواز بوجود المنکشف لذاتـه ، لا بما أنّه منکشف عنهما ، کما أشرنا آنفاً : أنّ اللفظ إذا دلّ علی معنی مشتمل علی عدّة أجزاء لا یدلّ علیها بما أنّه مدلول علیه ، بل مدلول علیها بذاته ، فتدبّر .
فاختلط المنکشف بما هو مدلول علیه ، بالمنکشف بما هو بالذات . والطلب والوجوب إنّما یکشف عن إرادة حتمیة ، وهی بذاتها ـ لا بما أنّها منکشفة ـ تدلّ علی الرجحان الجامع والجواز ؛ ولذا یستفاد الجواز والرجحان إذا استفیدت الإرادة الحتمیة من غیر اللفظ أیضاً .
[[page 436]]ولو سلّم کاشفیته عنهما ـ بحیث یکون المنکشف متعدّداً ـ لکنّه لم یکن فی عرض کشفه عن إرادةٍ حتمیة ، بل فی طولها ، ومع الطولیة لا یعقل بقاء الکاشفیة بعد رفع الوجوب ، بل لو فرض العرضیة لم یمکن ذلک أیضاً ؛ لأنّه مع سقوط الکاشف لا مجال للکشف .
نعم ، یتمّ ذلک لو کانت هناک کواشف متعدّدة ومنکشفات کذلک فی عرض واحد ، ولکن لا أظنّ الالتزام به من أحد .
الوجه الثانی : ما اُشیر إلیه فی تقریر المحقّق العراقی قدس سره ، وهو : أنّ مقتضی الجمع بین دلیلی الناسخ والمنسوخ ، والقدر المتیقّن من دلیل الناسخ ، إنّما هو رفع خصوص جهة الإلزام ، وفیما عداها یؤخذ بدلیل المنسوخ ویحکم بمقتضاه . باستحباب الفعل وجوازه نظیر الجمع بین دلیلٍ ظاهره الوجوب ، کقوله : «أکرم زیداً» ، ودلیلٍ آخر نصّ فی الجواز ، کقوله : «لا بأس بترک إکرام زید» ، بحمل الأوّل علی مطلق الرجحان والاستحباب .
وبالجملة : فکما أنّه یجمع هناک بینهما ؛ فیؤخذ بظهور دلیل الوجوب فی مطلق الرجحان ، ویرفع الید عن ظهوره فی الإلزام وجهة المنع عن النقیض ، کذلک فی المقام أیضاً . فإذا لم یکن لدلیل النسخ دلالة علی أزید من رفع الوجوب ، فلا جرم یؤخذ بظهور دلیل المنسوخ فی مطلق رجحانه ، وبذلک یثبت استحبابه .
وفیه : أنّه فرق بین المقام وما هناک ، وقیاس أحدهما بالآخر قیاس مع الفارق ، وذلک لأنّ الجمع هناک لأجل تحکیم النصّ ، أو الأظهر علی الظاهر ، ورفع الید عن الظاهر بالقرینة علی خلافه ، وأنّه استعمل فی الاستحباب من أوّل الأمر .
[[page 437]]وما نحن فیه أجنبی عن ذلک ؛ لأنّه بعد الفراغ عن ظهور دلیل المنسوخ فی معناه ، ومعلومیة مفاده المستعمل فیه ، یشکّ فی مقدار رافعیة دلیل الناسخ إیّاه ، فمسألة الجمع بین الدلیلین أجنبیة عن المقام .
وبعبارة اُخری : أنّ الجمع بین الأمر الظاهر فی الوجوب والنصّ المرخّص فی ترکه ـ بحمل الأمر علی الاستحباب ـ لیس أخذاً ببعض مراتب الظهور وترک بعض مراتبه ، بل هو تحکیم النصّ علی الظاهر وحمله علی خلاف ظاهره .
وأمّا ما نحن فیه : فبعد العلم بأنّ الأمر للوجوب والعلم برفع الوجوب ، فلا مجال لبقاء الاستحباب إلاّ إذا فرض مراتب للظهور ، وهو بمکان من الفساد ، فتدبّر .
[[page 438]]