تفصیل المحقّق النائینی فی الاقتضاء وتزییفه
فصّـل المحقّـق النائینـی قدس سره بیـن الضـدّیـن اللذیـن لا ثالث لهما ، وبیـن مـا یکون لهمـا ثالث ؛ باستلـزام الأمـر بالشـیء النهـی عـن ضدّه فـی الأوّل ، دون الثانـی .
فقال فی الأوّل : إنّ الأمر بأحد الضدّین یلازم الأمر بعدم ضدّه الآخر عرفاً ؛ وذلک مثل الحرکة والسکون والاجتماع والافتراق ـ بناءً علی أن یکون السکون والافتراق وجودیین ؛ فإنّ الحرکـة وإن لم تکن مفهوماً عین عـدم السکون ، ولا الاجتماع عین عدم الافتراق مفهوماً ؛ بداهة أنّه لا یکون عدم السکون عقلاً عین الحرکة بل یلازمها ، وکذا لا یکون عـدم الافتراق عین الاجتماع عقلاً بل یلازمها ؛ لأنّ العدم لا یتّحد مع الوجود خارجاً ، ولا یکون هو هو مفهوماً ، إلاّ أنّه خارجاً یکون عدم السکون عبارة عن الحرکة ، وعدم الافتراق عبارة عن الاجتماع بحسب التعارف العرفی ؛ فیکون الأمر بأحدهما أمراً بالآخـر ، بحیث لا یری العرف فرقاً بین أن یقول : «تحرّک» ، وبین أن یقول : «لا تسکن» ، ویکون مفاد إحدی العبارتین عین مفاد الاُخری .
فیکون حکم الضدّین اللذین لا ثالث لهما حکم النقیضین ، مـن حیث إنّ الأمـر بأحدهما أمر بعدم الآخـر ، وإن کـان فی النقیضین أوضـح ، مـن جهـة أنّ عـدم العدم فی النقیضین عین الوجود خارجـاً ، ولیس الأمـر فی الضدّیـن کـذلک ، إلاّ أنّ العرف لا یری فرقـاً بینهما ، والأحکـام إنّما تکون منزّلـة علی ما هـو المتعـارف العرفی .
[[page 286]]فدعوی : أنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه الخاصّ فیما لا ثالث لهما ، لیس بکلّ البعید .
وأمّا فی الضدّین اللذین لهما ثالث فقال قدس سره بعدم الاقتضاء ؛ لا عقلاً ، وهو واضح ، ولا عرفاً ؛ إذ لا یکون «صلّ» ـ مثلاً ـ بمعنی : «لا تَبع ولا تأکـل» ـ مثلاًـ حتّی عند العرف . . . إلی أن قال : هـذا کلّه إذا کان بین الشیئین تناقض أو تضادّ ، وأمّـا إذا کان بین الشیئین عدم وملکة فالظاهر أنّه ملحق بالنقیضین فی الموضوع القابل لهما ، حیث إنّ الأمر بأحدهما یلازم النهی عـن الآخـر باللزوم بالمعنی الأخصّ . فالأمر بالعدالة یلزمه النهی عن الفسق ، کما لا یخفی .
وفیه أوّلاً : أنّ مقتضی ما ذکره کون الحیثیة الوجودیة عین الحیثیة العدمیة ، وهو کما تری ، ولا یتسامح فی ذلک العرف .
وبالجملة : دعوی أنّ العرف لا یفرق بین الحرکة وعدم السکون ـ مثلاً ـ بحیث لا یری فرقاً بین الحیثیة الوجودیة والعدمیة ، ولم یفرق بین الأمر والنهی ، ویکون فی نظره «تحرّک» عین «لا تسکن» ، فهو ظاهر البطلان .
وثانیاً : لو تمّ ما ذکره عند العرف فلا یفید ذلک فی إثبات مطلوبه ؛ لأنّ مقتضی ما ذکره : أنّ الأمر بالسکون عین النهی عن الحرکة ، فلا یکون عند العرف شیئان یکون الأمر بأحدهما مقتضیاً للنهی عن الآخر ، مع أنّ مدّعی الاستلزام یدّعی : أنّه إذا تعلّق أمر بشیء فهنا نهی متعلّق بضدّه ، فهناک شیئان ، فما أفاده غیر مرتبط بما نحن فیه ، فتدبّر .
[[page 287]]
تبیین مقال واستدراک
قد عرفت : أنّهم استدلّوا لاقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه بدلیلین : أحدهما من ناحیة المقدّمیة ، والآخر من ناحیة الاستلزام . وقد عرفت ـ لعلّه بمالا مزید علیه ـ عدم تمامیة الدلیلین لإثبات حرمـة الضدّ ؛ لابتنائهما علی اُمـور غیر نقیة .
ولکن ینبغی الإشارة إلی أنّهما إنّما یعدّان دلیلین مستقلّین علی القول بوجوب مطلق المقدّمة . وأمّا علی القول بالمقدّمة الموصلة فیرجع الدلیلان إلی دلیل واحد ، ویکون اتّحاد المتلازمین فی الحکم من متمّمات الدلیل الأوّل .
وبالجملة : علی القول بوجوب المقدّمة الموصلة لابدّ من ضمّ دلیل آخر إلی الدلیل الأوّل ؛ وهو لزوم کون المتلازمین محکومین بحکم واحد ، وذلک لما أشرنا : أنّ الدلیل الأوّل ملتئم من اُمور ثلاثة :
1 ـ مقدّمیة ترک الضدّ للضدّ الآخر .
2 ـ کون مقدّمة الواجب واجبة .
3 ـ اقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه العامّ .
فلو تمّت هذه الاُمور فمقتضاها ـ علی تقدیر کون مطلق المقدّمة واجبة ـ هو أنّ ترک الصلاة الذی یکون مقدّمة لفعل الإزالة واجب ، وضدّه العام ـ حسب ما عرفت ـ هو فعل الصلاة ؛ فتکون محرّمة ؛ فتقع باطلة . فتتمّ صورة الاستدلال ، من دون احتیاج إلی ضمّ کون المتلازمین متّحدین فی الحکم .
وأمّا علی وجوب المقدّمة الموصلة فحیث إنّ الواجب لیس مطلق ترک الصلاة
[[page 288]]بل الترک المقیّد بالإیصال ولیس نقیضـه إلاّ ترک هذا الترک ، لا فعل الضدّ والترک المجرّد ـ لما أشرنا أنّه لا یکون لشیء واحد نقیضان ـ وواضح : أنّ ترک هذا الترک ینطبق علی الترک المجرّد وعلی فعل الصلاة ، ولکن انطباقه علی فعل الصلاة عرضی ، وأمّا انطباقه علی الترک المجرّد ذاتی ، فلیس ترک هذا الترک عین فعل الصلاة ، بل یلازمه إذا تحقّق فی ضمنها .
فإثبات حرمـة الضدّ لا یتمّ علی القول بالمقدّمة الموصلة إلاّ بالتشبّث بذیل دلیل الاستلزام ؛ فیقال : حیث إنّ المتلازمین متّحدان فی الحکم ، ولا یمکن أن یکون أحدهما محکوماً بغیر ما حکم به الآخر ، فیحتاج هذا القول ـ مضافاً إلی الاُمور الثلاثة ـ إلی إثبات أنّ ترک ترک الصلاة ملازم لفعل الصلاة ، فإذا حرم یحرم ما یلازمه ؛ فیحرم فعل الصلاة .
فظهر ممّا ذکرنا : أنّه علی تقدیر کون المقدّمة الموصلة واجبة لا یمکن إثبات المطلب من ناحیة المقدّمیة إلاّ بضمّ دلیل الاستلزام به ، فإذن یتّحد الدلیلان .
هذا ما أفاده سماحة الاُستاد ـ دام ظلّه ـ فی یوم ، وحاصله : أنّه علی القول بوجوب مطلق المقدّمـة یمکن عـدّ کلّ من المقدّمیـة والاستلزام دلیلاً مستقلاًّ . وأمّا علی القول بالمقدّمة الموصلة فلا یتمّ الاستدلال بالمقدّمیة إلاّ بأن ینضمّ إلیها دلیل الاستلزام .
ولکن استدرک ـ دام ظلّه ـ فی الیوم التالی وقال بأنّه علی القول بوجوب مطلق المقدّمة لابدّ وأن ینضمّ إلیها دلیل الاستلزام أیضاً ؛ لأنّه ـ کما ذکرنا فی وجوب المقدّمة الموصلة ـ أنّ الذی یحکم به العقل ویشهد علیه الوجدان علی تقدیر ثبوت الملازمة ـ بعد إرجاع الحیثیة التعلیلیة فی الأحکام العقلیة إلی الحیثیة التقییدیة ـ هو وجوب عنوان الموصل بما هو موصل .
[[page 289]]فنقول هنا : إنّه لو قلنا بوجوب مطلق المقدّمة ، نقول بأنّ الواجب هو عنوان الموقوف علیه بما هو موقوف علیه ، لا المقدّمة بالحمل الشائع ، والمقدّمة وإن کانت تنطبق علیها عناوین کثیرة ـ انطباقاً ذاتیاً أو عرضیاً ـ ولکن لا تجب لشیء منها إلاّ لانطباق عنوان الموقوف علیه بما هو موقوف علیها ، فالواجب علی تقدیر وجوب مطلق المقدّمة إنّما هو الموقوف علیه بما هو موقوف علیه .
فإذن : حیث إنّه لم یکن فیما نحن فیه ترک الضدّ ـ بما هو ترک ـ مقدّمة لفعل الضدّ الآخر ، بل بما هو موقوف علیه ، فنقیضه هو ترک الموقوف علیه بما هو موقوف علیه . وواضح : أنّه لیس عین فعل الصلاة وذاتها ، بل یلازمها وینطبق علیها انطباقاً عرضیاً ، فإذا حرم هذا العنوان ـ أی ترک الموقوف علیه ـ لا تثبت حرمة فعل الصلاة ، إلاّ أن یتشبّث بحدیث الاستلزام .
نعم ، إن قلنا بأنّ الواجب ـ علی القول بوجوب مطلق المقدّمة ـ ما تکون مقدّمة بالحمل الشائع ـ کما ذهب إلیه المحقّق الخراسانی قدس سرهـ یکون دلیل المقدّمیة تماماً ، من دون أن ینضمّ إلیه حدیث الاستلزام ، فتدبّر .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّه إن قلنا بوجوب المقدّمة الموصلة أو قلنا بوجوب مطلق المقدّمة ، وقلنا بأنّ الواجب حیثیة الموقوف علیه بما هو موقوف علیه ، لا یمکن عدّ کلّ من المقدّمیة والاستلزام دلیلاً مستقلاًّ ، بل یکون الاستلزام تتمّة لدلیل المقدّمیة .
نعم ، إن قلنا بأنّ الواجب ما یکون مقدّمة بالحمل الشائع یکون کلّ منهما دلیلاً مستقلاًّ ، فتدبّر واغتنم .
[[page 290]]