تفصیل الأعلام الثلاثة فی مقدّمة الحرام وما فیه
ولکن اختار کلٌّ من الأعلام الثلاثة ـ الخراسانی والحائری والعراقی ، قدّس الله أسرارهم ـ تفصیلاً فی المسألة ، ینبغی ذکره والإشارة إلی ما فیه :
[[page 246]]أمّا المحقّق الخراسانی قدس سره فقد فصّل بین ما لا یتمکّن مع إتیان المقدّمة من ترک ذیها ، بحیث لم یتخلّل بین المقدّمة وذیها إرادة الفاعل ؛ فقال بحرمة المقدّمة الکذائیة ، وبین ما إذا کانت المقدّمة بحیث تتخلّل بینها وبین ذیها الإرادة ؛ فقال : إنّ وجود المقدّمة وعدمها بالنسبة إلی ذیها سیّان ؛ لأنّ الإرادة متخلّلة .
وبعبارة اُخری : فرّق قدس سره بین ما تکون المقدّمة من المقدّمات التولیدیة التی یقع الحرام بعدها لا محالة من دون تخلّل الإرادة فی البین ، وبین المقدّمة التی یتخلّل بینها وبین الوصول إلی ذیها الإرادة ؛ فقال بحرمة المقدّمة التی تکون من القسم الأوّل ، دون ما تکون من القسم الثانی . وأمّا الإرادة المتخلّلة فی البین فلا یمکن أن تتعلّق بها الإرادة ؛ لأنّها غیر اختیاریة ، وإلاّ یلزم التسلسل ، انتهی .
وأمّـا شیخنا العلاّمـة الحائـری قدس سره فقال ما حاصلـه : أنّ العناویـن المحرّمـة علی ضربین :
أحدهما : أن یکون العنوان بما هو هو مبغوضاً ، من دون تقییده بالاختیار وعدمه ، وإن کان له دخل فی استحقاق العقاب ؛ لأنّه لا عقاب إلاّ علی الفعل الصادر عن اختیار الفاعل ، وذلک کشرب الخمر .
ثانیهما : أن تکون للإرادة دخالة فی مبغوضیته ، بحیث لو صدر عن غیر اختیار لم یکن مبغوضاً ومنافیاً لغرض المولی ، وذلک کالإفطار فی نهار شهر رمضان لمن کان حاضراً وسالماً .
وعلّة الحرام فی القسم الأوّل هی المقدّمات الخارجیة ، ولا مدخلیة للإرادة فی ذلک ، بل هی علّة لوجود علّة الحرام . وأمّا فی القسم الثانی فتکون الإرادة من أجزاء العلّة التامّة .
[[page 247]]وعلی هذا : ففی القسم الأوّل إن کانت العلّة التامّة مرکّبة من اُمور یتّصف المجموع منها بالحرمة ، وتکون إحدی المقدّمات لا بعینها محرّمة ، إلاّ إذا وجد باقی الأجزاء وانحصر اختیار المکلّف فی واحد منها ، فتحرم علیه شخصاً من باب تعیّن أحد أفراد الواجب التخییری بالعرض فیما إذا تعذّر الباقی .
وأمّا فی القسم الثانی فلا یتّصف الأجزاء الخارجیة بالحرمة ؛ لأنّ العلّة التامّة للحرام هی المجموع المرکّب منها ومن الإرادة ، ولا یصحّ إسناد الترک إلاّ إلی عدم الإرادة ؛ لأنّه أسبق رتبةً من سائر المقدّمات الخارجیة .
فظهر : أنّ الحقّ التفصیل فی المسألة ؛ فیقال فی القسم الأوّل : لو فرض وجود باقی المقدّمات مع عدم الإرادة تحقّق المبغوض قطعاً . فعدم إحداها علّة لعدم المبغوض فعلاً .
وأمّا القسم الثانی : فلو فرضنا وجود سائر المقدّمات مع الصارف لم یتحقّق المبغوض ؛ لکونه مقیّداً بصدوره عن الإرادة . فالمقدّمات الخارجیة من دون انضمامها إلی الإرادة لا توجد المبغوض . ففی طرف العدم یکفی عدم إحدی المقدّمات . ولمّا کان الصارف أسبق رتبةً منها یستند ترک المبغوض إلیه دون الباقی ، فیتّصف الباقی بالمحبوبیة ، دون ترک إحدی المقدّمات الخارجیة ؛ فلا یکون فعلها متّصفاً بالحرمة .
أقول : کلا التفصیلین ناشئان عن مطلب معروف بینهم ، وهو : أنّ الإرادة علّة تامّة لوجود الشیء فی الخارج ، وأنّ تخلّف المراد عن الإرادة محال . فإذا تعلّقت الإرادة بشیء لا یتخلّل بینها وبین ذات الشیء أمر .
وبالجملة : زعموا أنّ الإرادة جزء أخیر العلّة التامّة لتحقّق الفعل ، کالفعل التولیدی بالنسبة إلی ما یترتّب علیه ، مع أنّه لیس الأمر کذلک بداهة : أنّ الإنسان
[[page 248]]ما دام محفوفاً بالعلائق المادّیة ومحبوساً فی عالم المادّة ، إذا أراد شیئاً یتخلّل بین إرادته ومراده وسائط کثیرة . مثلاً : من أراد شرب الماء الموجود بین یدیه یبسط العضلات المربوطة إلی أخذه ، فیأخذه ویرفعه حذاء فمه ، ویدخله فی الفم ثمّ یبلعه . فبین إرادة الشرب وتحقّق الشرب خارجاً اُمور . نعم ، آخر الجزء منها ـ الذی یترتّب علیه الفعل خارجاً ـ کإراقة الماء فی الحلق مثلاً فی المثال المفروض ـ فعل إرادی تولیدی .
وبالجملة : لم تکن الإرادة سبباً تولیدیاً لإیجاد الفعل خارجاً . نعم ، الإرادة بالنسبة إلی مظاهر النفس وأفعال نفسها وقواها الطبیعیة سبب تولیدی ، ولکنّه غیر مبحوث عنه . فتحصّل : أنّه یتخلّل بین إرادة الفعل خارجاً وبین تحقّقه اُمور ، ولا یکون لنا مورد یتحقّق الفعل خارجاً بنفس الإرادة بلا مهلة .
إذا تمهّد لک ما ذکرنا یظهر لک النظر فیمـا ذکره المحقّـق الخراسانی قدس سره ؛ من أنّه قد تتخلّل الإرادة بین المقدّمـة وذیها ؛ وذلک لما أشرنا من أنّه لا تکون الإرادة بالنسبـة إلی الأفعال الخارجیة جزء أخیر العلّة التامّة ، بل یتوسّط بینها وبین الفعل شیء من الآلات .
وبالجملة : کما عرفت منّا مکرّراً أنّ البحث فی الملازمة وعدمها بحث عقلی لا عرفی عقلائی ؛ فلابدّ من تدقیق النظر فی الجهات والحیثیات . فلا وجه لأن یقال : إنّه لا سبیل للعرف والعقلاء إلی معرفة هذه التدقیقات الفلسفیة ؛ فإنّ العرف والعقلاء یرون أنّ آخر الأجزاء هی الإرادة التی لا یمکن التکلیف بها .
ویظهر أیضاً ضعف ما أفاده شیخنا العلاّمة الحائری قدس سره فی القسم الثانی ؛ من أنّه لا یصحّ إسناد الترک إلاّ إلی عدم الإرادة ؛ لأنّه أسبق رتبةً من سائر المقدّمات الخارجیة . وذلک لأنّ حرمة الفعل الإرادی وإن کانت متوقّفة علی الفعل بالإرادة
[[page 249]]المتعلّقة به ، ولکن حیث إنّها لم تکن جزء أخیر ، وغایة ما تقتضیه الملازمة لو تمّت ـ کما سنشیر إلیه ـ هی حرمة الجزء الأخیر ، فإذا تخلّلت بین الإرادة والفعل الخارجی مقدّمات فیتّصف الجزء الأخیر بالحرمة بعد تحقّق سائر المقدّمات ، هذا أوّلاً .
وثانیاً : أنّ البحث فی أنّه إذا حرم شیء وصار مبغوضاً ، فهل یوجب ذلک حرمة جمیع المقدّمات أو المقدّمة الأخیرة ، ولم یکن البحث فی أنّ ترک الفعل الحرام بترک الصارف ؛ حتّی یصحّ أن یقال : إنّ إسناد الترک إلی عدم إرادة الفعل .
وبالجملة : الکلام فی مقدّمات وجود المبغوض وکیفیة تعلّق الإرادة التشریعیة بها ، وأنّه هل تتعلّق الإرادة ـ علی فرض الملازمة ـ بالزجر عن جمیع المقدّمات الخارجیة ، أو لا . فمع کون بعض المقدّمات الخارجیة متوسّطاً بین إرادة الفعل وتحقّقه فلا محالة یصیر مبغوضاً ومنهیاً عنه بعد تحقّق سائر المقدّمات .
فبعدما عرفت من توسّط الفعل الاختیاری بین تحقّق الشیء وإرادته ، وأنّ الإرادة لیست مولّدة للفعل ، لا یبقی فرق بین المقدّمات فی المحرّمات علی ما فصّله .
هذا کلّه إذا کان الشیء الحرام وجودیاً . وأمّا إذا کان عدمیاً ـ بأن کان ترک الشیء حراماً ـ فخارج عن محطّ بحث الأعلام ؛ لأنّ کلامهم فیما إذا کان المحرّم وجودیاً ، ولعلّه لعدم وجود محرّم کذلک ؛ لأنّ ترک الواجب وإن کان حراماً ولکنّه لا لمفسدة فیه ، بل لمصلحة فی الواجب .
وکیف کان : لو فرض کون ترک شیء حراماً فهل وزانه وزان ما یکون الفعل محرّماً ، أم لا ؟ الظاهر : حیث إنّه یکفی لترک الشیء عدم إرادة الوجود ، فبناءً علی الملازمة یکون هو المتّصف بالحرمة ، فتدبّر .
وأمّا ما أفاده المحقّق العراقی قدس سره فهو : أنّه لو کانت المقدّمة بالإضافة إلی ذیها تولیدیة فهی محکومة بحکم ذیها .
[[page 250]]وأمّا إذا لم تکن تولیدیة ، بل یکون المکلّف بعد إیجادها مختاراً فی إیجاد ذیها فالمختار هو حرمة خصوص المقدّمة المقارنة ؛ لوجود سائر مقدّمات الحرام بنحو القضیة الحینیة مطلقاً ، من دون اختصاص ببعض المقدّمات . فإرجاع مبغوضیة الحرام إلی محبوبیة ترکه وإنّ ترکه مستند إلی السابق من التروک ، غیر مستقیم .
وذلک لأنّ المبغوضیة ـ کالمحبوبیة ـ قائمة بوجود الفعل أوّلاً وبالذات . واتّصاف ترک المبغوض بالمحبوبیة ـ کاتّصاف ترک المحبوب بالمبغوضیة ـ یکون ثانیاً وبالعرض ؛ ولذا لم یکن ترک الواجب حراماً نفسیاً ، فمقوّم الحرمة هو مبغوضیة الوجود ، کما أنّ مقوّم الوجوب محبوبیّته . ومقتضی ذلک سرایة البغض إلی علّة الفعل المبغوض ، فیکون کلّ جزء من أجزاء العلّة التوأم مع وجود سائر أجزائها بنحو القضیة الحینیة مبغوضاً بالبغض التبعی وحراماً بالحرمة الغیریة ، کما کان الأمر فی مقدّمة الواجب ، من دون فرق بینهما أصلاً ، انتهی .
وفیما أفاده مواقع للنظر
فأوّلاً : أنّ ظاهر عبارته یعطی أنّ المبغوضیة والمحبوبیة دخیلتان فی التشریع ، مع أنّهما أمران انتزاعیان ، والأمر الانتزاعی لا یکاد یکون دخیلاً فی التشریع .
وثانیاً : أنّه لو کانت المحبوبیـة أو المبغوضیة دخیلـة فی التشریع فتکون متقدّمـة علی إرادة التشریع وفی الرتبة السابقة علی البعث والزجر المنتزع منها الوجوب والحرمة ، فهما متأخران عن المبغوضیة والمحبوبیة ، فلا تکونا مقوّمتین للوجوب والحرمة ، کما لا یخفی . إلاّ أن یراد من المقدّمیة : أنّ الحبّ والبغض مـن مبادئ الوجوب والحرمة .
[[page 251]]وثالثاً : أنّه فرق بین مقدّمة الحرام ومقدّمة الواجب وقیاس إحداهما بالاُخری قیاس مع الفارق ؛ فإنّ مبغوضیة الفعل لا یکاد یمکن أن یکون منشأ لمبغوضیة جمیع المقدّمات ؛ لعدم وجود الملاک فیها علی نحو العامّ الاستغراقی ؛ ضرورة أنّ البغض من شیء لا یسری إلاّ إلی ما هو محقّق وجوده وناقض عدمه ، وغیر الجزء الأخیر من العلّة أو مجموع الأجزاء فی المرکّب غیر المترتّب لا ینقض العدم . وأمّا محبوبیة الفعل فتکون منشأ لمحبوبیة جمیع ما یکون دخیلة فی تحقّقه .
وبالجملة : فرق بین إرادتنا بالنسبة إلی إتیان واجب ذی مقدّمات ، أو إتیان محرّم کذلک ؛ لأنّه إن أردنا إیجاد شیء فتتعلّق الإرادة بإیجاد ما یکون مقدّمة له . وأمّا فی إرادتنا ترک حرام فلا نترک جمیع ما یکون له دخالة فی ترکه بحیث تصیر المقدّمات مبغوضة . مثلاً من کره الکون فی السوق ویبغضه لا یبغض المشی فی السکک والشوارع التی تنتهی إلی السوق .
وغایة ما یقضی به الوجدان ـ علی تقدیر ثبوت الملازمة ـ إنّما هی مبغوضیة الجزء الأخیر ، لا سائر الأجزاء علی نحو العامّ الاستغراقی .
وبهذا یتوجّه علیه إشکال رابع ؛ فإنّ قوله : «إنّ الجزء التوأم مع سائر الأجزاء ، ومبغوضیة الحصّة التوأمة» من قبیل ضمّ ما لیس بالدخیل إلی ما هو الدخیل ؛ لأنّ المجموع بما هو مجموع وإن کان مبغوضاً ـ لأنّه العلّة التامّة لتحقّق الحرام ـ ولکن کلّ واحد لیس کذلک بنحو القضیة الحینیة .
وبعبارة اُخری : قد أشرنا أنّ المبغوض هو الجزء الأخیر ، وأمّا سائر الأجزاء فلا تتّصف بالمبغوضیة حقیقة . واتّصافها بالمبغوضیة إنّما هی باتّصالها بالجزء الأخیر ؛ ولذا لو تحقّق جمیع الأجزاء دون الأخیر لا تکون مبغوضة ، وهو واضح لمن راجع وجدانه ، فتدبّر واغتنم .
[[page 252]]أضف إلی ذلک : أنّه قدس سره قاس الإرادة التشریعیة بالإرادة التکوینیة فی مقدّمات الواجب ، ومقتضی قیاسه عدم الحرمة هنا ؛ بداهة أنّ من أراد ترک شیء لا تتعلّق إرادته بترک کلّ واحد من مقدّماته ، بل تتعلّق بترک ما هو مُخرج مبغوضه إلی الوجود ، وهذا واضح .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّه فرق بین مقدّمة الواجب ومقدّمة الحرام ؛ فلو قلنا بالملازمة بین مقدّمة الواجب وبین ذیها ، ولکن لا یصحّ ذلک فی مقدّمة الحرام ؛ لأنّ وجوب المقدّمة ـ علی تقدیر الملازمة ـ إنّما هو لتوقّف ذی المقدّمة علیها ؛ فلو توقّف علی کلّ واحدة منها وجبت لذلک ، بخلاف مقدّمات الحرام ؛ فإنّه لا تتوقّف ترک الحرام علی ترک مقدّماته ، بحیث لو فرض أنّ المکلّف أتی بجمیع مقدّماته ، فهو مع ذلک مختار فی فعل الحرام وترکه بالإرادة ؛ فلا دخل لإیجاد المقدّمات فی اختیار الفعل وعدمه . بخلاف مقدّمة الواجب ، فإنّها من حیث توقّف ذی المقدّمة علی کلّ واحد منها أمکن اتّصاف کلّ واحد منها بالوجوب . وقد أشرنا إلی أنّه علی تقدیر الملازمة ، الحقّ أن یقال : إنّ المقدّمة الأخیرة حرامة ، دون سائر المقدّمات .
إذا أحطت خبراً بما ذکرنا فی مقدّمة الحرام یظهر لک حال مقدّمة المکروه .
وبالجملة : وزان مقدّمة المکروه وزان مقدّمة الحرام ، کما أنّ وزان مقدّمة المستحبّ وزان مقدّمة الواجب .
هذا تمام الکلام فیما یتعلّق بمقدّمة الواجب ، وله الحمد والشکر علی تمامه .
[[page 253]]
[[page 254]]