الأمر الحادی عشر فی أدلّة القائلین بوجوب المقدّمة وتزییفها
إذا عرفت ما مهّدنا لک من المقدّمات والاُمور : فیقع الکلام فی أنّه هل مقدّمة الواجب واجبة مطلقاً ، أو لیست بواجبة کذلک ، أو فیها تفصیل بین المقدّمة السببی وغیرها بوجوب المقدّمة السببی دون غیرها ، أو یفصّل بین الشرط الشرعی وغیره بوجوب الشرط الشرعی دون غیره ؟ وجوه ، بل أقوال .
والحقّ : عدم وجوب المقدّمة مطلقاً .
ربّما أقام بعض المحقّقین برهاناً علی وجوب المقدّمة ، کما یظهر من بعض آخر کالشیخ الأعظم والمحقّق الخراسانی وشیخنا العلاّمة الحائری ـ قدّس الله أسرارهم ـ التمسّک بالوجدان علی وجوب المقدّمة .
والمترائی : وقوع الخلط فی کلامهم ، کما سیظهر لک جلیاً .
وربّما یقاس الإرادة التشریعیة بالإرادة التکوینیة ، ویقال : إنّ وزان الإرادة التشریعیة وزان الإرادة التکوینیة ؛ فکما أنّه إذا تعلّقت إرادة تکوینیة بشیء تتعلّق بمقدّماته ، فکذلک إذا تعلّقت الإرادة التشریعیة بشیء تتعلّق بمقدّماته . وقد صرّح بذلک العلمان العراقی والنائینی ، قدّس الله أسرارهما .
فقال المحقّق العراقی قدس سره : إنّ الإرادة التشریعیة تابعة للإرادة التکوینیة ؛ إمکاناً وامتناعاً ، ووجوداً وعدماً ، فکلّ ما أمکن تعلّق الإرادة التکوینیة به أمکن تعلّق التشریعی به ، وکلّ ما استحال تعلّق التکوینیة به استحال أن یکون متعلّقاً للتشریعیة . وهکذا : کلّ ما یکون مورداً للإرادة التکوینیة عند تحقّقه من نفس المرید
[[page 237]]یکون مورداً للتشریعیة عند صدوره من غیر المرید . ومن الواضح : أنّ المرید لفعل بالإرادة التکوینیة تتعلّق إرادته أیضاً بالتبع بإیجاد مقدّماته ، فکذلک الإرادة التشریعیة إذا تعلّقت من الآمر بفعل یستلزم تعلّق الإرادة التشریعیة بمقدّمات ذلک الفعل . وقد صرّح قدس سره أخیراً : أنّ إرادة المقدّمة ترشّحیة معلولة لإرادة الواجب ، انتهی .
وقال المحقّق النائینی قدس سره : إن أردت توضیح ذلک فعلیک بمقایسة إرادة الآمر بإرادة الفاعل ؛ فکما أنّه إذا أردت شیئاً یتوقّف علی مقدّمات لا یمکنک أن لا ترید تلک المقدّمات ، بل تتولّد إرادة المقدّمات من إرادة ذلک الشیء قهراً علیک ، فکذلک إرادة الآمر ؛ فإنّ حالها حال إرادة الفاعل ، انتهی .
أقول: تنقیح المقال یتوقّف علی بیان أمرین :
الأمر الأوّل : أنّ إرادة المقدّمة هل هی مترشّحة ومعلولة لإرادة ذیها ، بحیث یکون المرید لذیها مقهوراً لإرادتها ، ولا تحتاج إرادتها إلی المبادئ ؟ وبعبارة اُخری : هل تتولّد إرادة المقدّمة من إرادة ذی المقدّمة وتکون إرادة المقدّمة معلولة لإرادة ذیها ، أو لازمة لماهیتها ؟
أو لیست کذلک ، بل کما یحتاج ذو المقدّمة إلی المبادئ ـ من التصوّر ، والتصدیق ، والاشتیاق أحیاناً ، ثمّ الإرادة ـ فکذلک تحتاج المقدّمة إلیها ؛ طابق النعل بالنعل ؟ غایته : أنّ تعلّق الإرادة بالمقدّمة لم یکن لأجل نفسها ولم تکن مطلوبة لذاتها ، بل لغیرها ، بخلاف ذی المقدّمة ؛ فإنّه مراد ومطلوب لنفسه .
وجهان ، بل قولان . الصحیح هو الثانی ، کما تقدّمت الإشارة إلیه .
[[page 238]]وذلک لأنّ من یرید لقاء صدیقه ـ مثلاً ـ یتصوّره ، ویصدّق بفائدته ، ویشتاق إلیه ، ثمّ یریده ویتوجّه نحوه . وواضح : أنّه بعد ذلک لا یکون مشیه وحرکاته إلی لقاء صدیقه أفعالاً وحرکاتٍ غیر اختیاریة ، بل یتصوّر ویصدّق بفائدة کلّ جزءٍ جزءٍ من أجزاء ما یوصله إلی لقائه ولو ارتکازاً .
وبالجملة : الوجدان أصدق شاهدٍ علی أنّ کلّ ما یصدر من الشخص ـ مقدّمةً کانت أو ذیها ـ لابدّ له من مبادئ ؛ فکلّ مقدّمة مرهونة بإرادتها ، بحیث لو لم یردها لا تکاد توجد . ولیست معنی کون إرادة المقدّمة تابعة لإرادة ذیها أنّها معلولة له ، بل المقصود : أنّ الإرادة تتعلّق أوّلاً وبالذات بذیها ، ولأجل ذلک وبتبعه تتعلّق إرادة بمقدّمته . فغایة ما تقتضیه التبعیة هی : أنّ المقدّمة لم تکن مطلوبة نفسیة ، بخلاف ذیها ؛ فإنّه مطلوب نفسی .
فبعد ما تمهّد لک ما ذکر یظهر لک الضعف فی کلام العلمین العراقی والنائینی ، حیث قالا : إنّه لم تکن لإرادة المقدّمة مبادئ وغایة ، بل توجد قهراً من دون المبادئ .
هذا کلّه فی الإرادة التکوینیة . وکذلک فی الإرادة التشریعیة لا تتولّد إرادة إیجاب المقدّمة من إرادة إیجاب ذیها ، بل یتصوّر مبدئیة نصب السلّم ـ مثلاًـ والتصدیق بفائدته والاشتیاق إلیه ثمّ یرید البعث نحوه .
فتحصّل : أنّ فی کلّ من قسمی الإرادة ـ التکوینیة والتشریعیة ـ تحتاج المقدّمـة إلی المبادئ والغایـات ، ولا یکون مقهوراً بإرادتها ، کما هـو الشأن بالنسبـة إلی ذی المقدّمة .
الأمر الثانی : أنّه فرق بین الإرادتین ـ التکوینیة والتشریعیة ـ من جهة أنّ الإرادة التکوینیة إذا تعلّقت بإیجاد شیء خارجاً لا یمکن أن لا یرید مقدّماتها ، بل لا تنفکّ إرادتها عن إرادته ، لا بمعنی عدم الانفکاک عن علّته وکون إرادتها قهریة ، بل
[[page 239]]لأجل توقّف حصول الغایة علیها . وأمّا فی الإرادة التشریعیة ـ وهی إمکان الانبعاث ببعثه ـ فإن أحرز إمکان انبعاث عبده ببعثه یصحّ منه إرادة البعث ، وإلاّ فلا یمکن البعث بداعی الانبعاث ، کما سیظهر لک قریباً .
وبالجملة : قد عرفت : أنّ الإرادة التشریعیة لا تتعلّق بنفس العمل من الغیر ؛ لأنّ کلّ فعل وعمل مرهون بإرادة نفسه لا إرادة غیره ، واشتیاق صدور العمل من الغیر ربّما یحصل للشخص ، ولکنّه عرفت بما لا مزید علیه : أنّه لا تسمّی إرادة ، بل یتعلّق بالبعث والإیجاب .
وواضح : أنّ إرادة البعث والإیجاب ـ نظیر سائر الأفعال الإرادیة ـ لابدّ وأن یکون لها مبادئ تجب عندها وتمتنع دونها ، وواضح : أنّ غایة البعث الحقیقی هی التوصّل إلی المبعوث إلیه بانبعاث المبعوث بالبعث ولو إمکاناً واحتمالاً . وإلاّ فلو علم بعدم الانبعاث بالبعث أو علم بإتیانه دون البعث ، فلا یکاد یصحّ تعلّق الإرادة الحقیقیة به ، کما سیظهر لک إن شاء الله .
فإذا بعث المولی عبده إلی شیء لغایة الانبعاث ، فإن کان متوقّفاً علی مقدّمة أو مقدّمات تکوینیة فإمّا أن یکون المأمور متوجّهاً إلی مقدّمیتها أو لا . فعلی الأوّل لا یخلو إمّا أن یکون البعث إلی ذیها مؤثّراً فی نفس المأمور أم لا .
فإن کان مؤثِّراً فی نفسه فمحال أن لا یأتی بما یکون مقدّمة له مع توجّهه إلیها ، فالبعث إلیها لغو ؛ لعدم الباعثیة له ، ولا یمکن الانبعاث بعد الانبعاث .
وإن لم یکن الأمر بذیها مؤثّراً فی نفسه : فإن کان متمرّداً وعاصیاً فلا یمکن أن یکون البعث الغیری موجباً لانبعاثه ؛ لأنّ الأمر المقدّمی للتوصّل إلی ذیها ، فإذا لم ینبعث عن ذیها وکان متقاعداً عن إتیانه فلا یکاد یمکن أن ینبعث بالأمر المقدّمی مع عدم ترتّب ثواب وعقاب بالنسبة إلی موافقة الأمر الغیری ومخالفته .
[[page 240]]فتحصّل ممّا ذکر : أنّه عند الالتفات إلی المقدّمة لا یکون لإرادة البعث الحقیقی إلی المقدّمة فائدة وغایة . نعم ، یمکن أن یبعث إلیها تأکیداً ، وهو خارج عن محطّ البحث . کما أنّه علی الثانی ـ أی عند عدم الالتفات إلی مقدّمیة شیء ـ حیث یکون البعث للإرشاد إلی المقدّمیة ، فهو خارج عن محطّ البحث .
وبالجملة : فرق بین الإرادة التکوینیة والإرادة التشریعیة ؛ فإنّ من أراد شیئاً فحیث إنّ التوقّف فی الوجود فلا محالة یرید ما هو مقدّمة له . وأمّا فی التشریعیة : فحیث إنّها إرادة البعث فلابدّ وأن یکون للبعث فائدة ؛ فإن علم بإتیانها مع قطع النظر عن البعث ، أو علم بعدم انبعاثه ، لا یعقل أن یرید البعث الحقیقی نحوها ، فبالنسبة إلی ذی المقدّمة حیث یصحّ تعلّق الإرادة التشریعیة به حسب الفرض فلا إشکال . وأمّا البعث إلی المقدّمة فلا یکون له غایة وفائدة ؛ سواء کان المأمور منبعثاً عن إرادة ذیها ، أم لا .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّه فرق بین الإرادتین ، ولا ملازمة بین الإرادة التشریعیة والتکوینیة ؛ لأنّ الإرادة التکوینیة بذی المقدّمة لا تنفکّ عن إرادة ما هو مقدّمة ، بخلاف الإرادة التشریعیة ، کما عرفت . ومنشأ ما ذکروه هو خلط الإرادة التشریعیة الآمریة بالإرادة التکوینیة الفاعلیة .
فإذا تمهّد لک ما ذکرنا تعرف النظر فیما أفاده المحقّق الخراسانی قدس سره ؛ فإنّه قال قدس سره : ویؤیّد الوجدان ، بل یکون من أوضح البرهان وجود الأوامر الغیریة فی الشرعیات والعرفیات .
توضیح النظر هو : أنّ أکثر الأوامر الغیریة للإرشاد إلی الجزئیة والشرطیة ، لا
[[page 241]]لإفادة البعث الحقیقی . وکثیراً ما تکون الأوامر المتعلّقة بها تأکیداً للبعث إلی ذیها . مثلاً : قولک لمن یکون تحت أمرک : «اذهب إلی السوق واشتر اللحم» یکون الأمر بالذهاب تأکیداً لاشتراء اللحم .
ثمّ إنّه بعدما تمهّد لک عدم إمکان البعث إلی المقدّمة عقلاً ، فلو ورد فی الشرع ما یوهم خلاف ذلک فلابدّ لنا من تأویله ، کما هو الشأن فی کلّ ما ورد فی الشرع وظاهره یخالف حکم العقل ، فتدبّر .
[[page 242]]