الجهة الثالثة فی دفع بعض الإشکالات علی مذهب المشهور فی الواجب المشروط
ربّما یورد علی مذهب المشهور فی الواجب المشروط ـ مضافاً إلی ما تقدّم من امتناع تقیید الهیئة وقد عرفت ضعفه ـ بعض الإشکالات :
الأوّل : ما أورده المحقّق العراقی قدس سره علی مقال المشهور ، وصرّح فی مفتتح کلامه : أنّه مؤیّد لما ذهب إلیه فی الواجب المشروط ؛ من أنّ التکلیف المشروط فعلی قبل تحقّق شرطه . ولکن یظهر من أثناء کلامه : أنّه بصدد إثبات وجهٍ لمقالته . فالأولی أن یقول : «ویدلّ علیه» ، وما ذکره انحراف صناعی عن البحث .
وکیف کان : حاصل إشکاله هو : أنّ إنشاء التکلیف من المقدّمات التی یتوصّل بها المولی إلی تحصیل المکلّف به فی الخارج ، فإذا لم یکن الواجب المشروط قبل تحقّقه فی الخارج مراداً للمولی ـ کما هو مذهب المشهور ـ فلا یعقل أن یتوصّل العاقل إلی تحصیل ما لا یریده فعلاً بإنشاء التکلیف المشروط .
ولا مخلص للمشهور فی دفع هذا الإشکال إلاّ أن یلتزموا بوجود غرضٍ نفسی فی نفس إنشاء التکلیف المشروط به قبل تحقّق شرطه ، وهو کما تری .
ولکن من التزم بما ذهبنا إلیه فی الواجب المشروط ـ من کون التکلیف فعلیاً قبل تحقّق شرطه ـ لا یرد علیه هذا الإشکال ؛ لکون الإرادة فعلیة قبل تحقّق الشرط ؛ فللمولی أن یتوصّل بإنشائه إلی ما یریده فعلاً ، وإن کان علی تقدیر ، انتهی .
[[page 82]]وفیه : أنّه من عجیب الکلام ، ولا یکون ما ذکره إشکالاً علی مقال المشهور .
وذلک لأنّه لو أغمضنا عن إمکان تعلّق الإرادة فی الواجب المشروط قبل تحقّق شرطه ، وسلّمنا أنّ البعث لابدّ وأن یکون لغرض فی المکلّف به ، ولم نقل بکفایة وجود الغرض فی نفس التکلیف والبعث ، کالأوامر الامتحانیة ، نقول : إنّ إنشاء البعث فی الواجب المشروط لیس للتوصّل به إلی المبعوث إلیه فعلاً حتّی یتوهّم عدم معقولیته ، بل للتوصّل إلیه علی تقدیر تحقّق الشرط ، وکم فرق بینهما ؟ ! مثلاً إنشاء إیجاب الحجّ علی تقدیر الاستطاعة إنّما هو للتوصّل به إلی إیجاب الحجّ فی ظرف الاستطاعة لا قبله ، وکم له نظیر فی الأوامر العرفیة! کما هو أوضح من أن یخفی .
نعم ، یمکن أن یتوجّه علیهم إشکال ، وهو : أنّه إذا لم یرده فعلاً قبل تحقّق شرطه ، فلا فائدة فی الإنشاء والبعث الکذائی ، وهل هو إلاّ بعث عبث ؟ ! فللمولی الحکیم أن یصبر إلی أن یتحقّق الشرط ، فیأمره عند ذلک بإتیانه .
ولکن یجاب عن الإشکال : بأنّه إنّما یتطرّق فی الخطابات الشخصیة القائمة بمخاطب واحد ـ مثلاً ـ وتصویره فیها بمکان من الإمکان . وأمّا فی الخطابات والأحکام القانونیة الکلّیة المتوجّهة إلی عامّة المکلّفین بخطاب واحد فلا مخلص للمقنّن إلاّ بجعله مشروطاً بعدما یری اختلاف آحاد المکلّفین فی واجدیتهم الشرط وعدمه . فإذن : لا مناص له إلاّ من جعل الحکم علی العنوان مشروطاً بالشرط لینبعث کلّ مَن کان واجداً للشرط ، وینتظر الفاقد إلی أن یتحقّق له الشرط .
والشارع الأقدس حیث رأی مصلحة الحجّ ـ مثلاً ـ علی فرض الاستطاعة ، ورأی اختلاف المکلّفین فی واجدیتهم للاستطاعة وعدمها ، فأمر بالحجّ علی فرض الاستطاعة ، فقال عزّ من قائل : «ولله ِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَیْهِ
[[page 83]]سَبِیلاً» ، فمن کان مستطیعاً یَحُجّ ، وینتظر الفاقد لها إلی أن یرزقه الله الاستطاعة .
فظهر : أنّ إشکال هذا المحقّق غیر وارد علی مقال المشهور .
ثمّ إنّه لو تمّ الإشکال فهو مشترک الورود ویتوجّه علی مقالته أیضاً ؛ وذلک لأنّه لا یری أنّ الإرادة الفعلیة متعلّقة بإیجاد العمل قبل تحقّق الشرط ، وإلاّ یکون الواجب مطلقاً عنده ، بل یری أنّ الإرادة منوطة بحصول الشرط وفی ظرفه ، فنسأل من جنابه : أنّه إذا أراده بعد حصول شرطه فأیّ فائدة فی طلبه فعلاً ؟ فإن قال : إنّه لأجل الإعلام حتّی ینبعث فی محلّه ، فنحن أیضاً نقول مثله ، فتدبّر .
الثانی : ـ وهو الإشکال المعروف فی المسألة ، ولأجل هذا الإشکال قال صاحب «الفصول» قدس سره بالواجب المعلّق ، والمحقّق العراقی بالإرادة المُظهرة ـ وحاصله : أنّ وجوب المقدّمة ناشٍ عن وجوب ذیها وأنّ إرادة المقدّمة لازمة لإرادة ذیها ، فبین المقدّمة وذیها ملازمة ؛ إمّا بین الوجوبین والإیجابین ، أو بین الإرادتین .
فإذن : یمتنع وجوب المقدّمة قبل وجوب ذیها ؛ لإستلزامه وجود المعلول قبل وجود علّته ، أو وجود إحدی المتلازمتین قبل الاُخری .
فإذن : لا وجه لوجوب المقدّمات المفوّتة فی الواجب المشروط قبل وجوب ذیها ؛ لعدم وجوب ذیها قبل تحقّق الشرط ، فلابدّ لإثبات وجوب المقدّمة کوجوب الغسل قبل طلوع الفجر ، من غیر جهة وجوب ذیها .
فتخلّص صاحب «الفصول» قدس سره عن الإشکال بتصویر الواجب المعلّق ، والمحقّق العراقی قدس سره بالإرادة المظهرة .
[[page 84]]ولکن إذا أحطت خُبراً بما ذکرناه فی معنی تلازم الإرادتین والوجوبین ، یظهر لک دفع هذا الإشکال أیضاً .
وحاصل ما ذکرناه هو : أنّ المراد بالملازمة بین المقدّمة وذیها لم یکن بین وجوبیهما ، بحیث یستلزم من إیجاب ذی المقدّمة إیجاب وإنشاء آخر علی المقدّمة ؛ لأنّه ربّما لا یکون للمولی بعث إلی المقدّمات ؛ لأنّه قد یأمر المولی بشیء ویغفل عمّا هو مقدّمته ، فضلاً عن إیجابه الملازمة بین إرادة ذی المقدّمة ومقدّمتها ، بحیث تکون إرادة المقدّمة ناشئة من إرادتها ، بل تحصل إرادتها قهراً علی مرید ذیها ؛ لما عرفت : أنّ الإرادة لا تکاد تکون منشأً ومبدأً لوجود إرادة اُخری .
فالذی یمکن أن یراد بالملازمة هو أن یقال : إنّ المرید لإتیان فعل إذا رأی أنّ له مقدّمة أو مقدّمات لا یکاد یحصل بدونها ، فکما یتصوّر الفعل ویصدّق بفائدته فیحصل له الشوق أحیاناً فیریده ، فکذلک یتصوّر المقدّمة أو المقدّمات فیصدّق بفائدتها فیحصل له الشوق أحیاناً فیریدها ، من دون أن تکون إرادة المقدّمة قهراً علی مرید ذیها ومعلولة لإرادة ذیها ، فإرادتها غیری تبعی .
فإذا رأی الشخص لزوم ضیافة صدیقه فی الغد ـ مثلاً ـ ورأی أنّه لا تکاد تحصل الضیافة فی الغد إلاّ بتهیئة مقدّمات الضیافة فی هذا الیوم ، فالعقل یری لزوم تهیئة مقدّمات الضیافة فی هذا الیوم ، مع کون الضیافة واجبة فی الغد .
هذا حال الإرادة الفاعلی .
وکذلک الحال فی الإرادة الآمری ؛ فإنّ المولی الحکیم إذا رأی أنّ الفعل مشروطاً بشرط ذو مصلحة ، فیأمر عبده بإیجاده مشروطاً ، فإذا رأی توقّف إیجاده فی الوقت علی تهیئة مقدّمات قبل حصول المعلّق ، بحیث لو لم یحصّلها من قبل لفاته الواجب فی وقته ، لیریدها البتّة .
[[page 85]]والحاصل : أنّ إرادة المقدّمة لم تکن ناشئة من إرادة ذیها حتّی یشکل وجوبها عند عدم وجوبه ، بل إرادة ناشئة ومعلولة عن مبادئها المخصوصة بها . نعم إرادتها تبعیة وغیریة ، ومعناها : أنّه لو لم یکن ذو المقدّمة مطلوباً فی محلّه المضروب له لما کانت المقدّمة مرادة .
فظهر لک : أنّ الإرادة فی الواجب المشروط لم تکن فعلیة قبل حصول شرطه ، ومع ذلک تجب المقدّمة أو المقدّمات التی یفوت الواجب فی محلّه لو لم یأت بها من ذی قبل ، من دون توجّه إشکال .
ولیعلم : أنّه لو لم یتمّ ما ذکرنا فلا یتمّ جواب المحقّق العراقی قدس سره ؛ لأنّ إرادة ذیها إذا کانت منوطة فکیف تتولّد منها إرادة مطلقة بمقدّماته ؟ ! فتدبّر .
والحاصل : أنّ الإرادة المتعلّقة بشیء کما لا تکاد تؤثّر فی البعث إلی ذلک الشیء قبل حصول شرطه ، فکذلک لا تؤثّر فی البعث نحو مقدّماته ؛ فلو لم یتمّ ما ذکرناه لا تکون الإرادة المنوطة التی أبدعها المحقّق العراقی قدس سره مخلصاً عن الإشکال ، بل لو توجّه الإشکال علی المشهور یتوجّه علیه أیضاً ، فتدبّر وکن من الشاکرین .
[[page 86]]