فی حال رجوع الاستثناء إثباتاً واستظهاراً
فإذا تمهّد لک ما ذکرنا من إمکان إرجاع الاستثناء إلی الجمیع ، فحان البحث فی مقام الإثبات والاستظهار ؛ وأنّه هل الظاهر رجوعه إلی الجمیع ، أو الأخیر ، أو لاظهور فی واحد منهما؟
فنقول : یتصوّر للاستثناء والجمل التی تعقّبها صور وأقسام یختلف الاستظهار بحسبها :
فمنها : ما إذا ذکر الاسم الظاهر فی الجملة الاُولی ، واشتملت سائر الجمل المعطوفة علیها علی الضمیر ، وکان المستثنی مشتملاً علی الضمیر ، کقولنا :«أکرم العلماء ، وسلّم علیهم ، وأضفهم ، إلاّ الفسّاق منهم» فإنّ الظاهر منه عند العرف والعقلاء ، إرجاع الاستثناء إلی الجمیع . کما یناسبه الاعتبار أیضاً ؛ لأنّ الضمائر وأسماء الإشارة ، تشترکان فی أنّ مفادهما الإشارة إلی الشیء ، ولا تلاحظان مستقلاًّ ، ولا یخبر عنهما کذلک . نعم بینهما فرق من جهة اُخری ؛ وهی أنّ اسم الإشارة وضع لیشار به إلی المحسوس ، بخلاف الضمیر ، فإنّه للأعمّ ، ولکنّ هذا لا یوجب فرقاً فیما هو المهمّ فی المقام ؛ من جهة أنّ کلاًّ منهما لا یصلح للإخبار عنه حقیقة .
وواضح : أنّه لم یکن فی الجمل شیء صالح للإشارة إلیه إلاّ الاسم الظاهر المذکور فی الجملة الاُولی ؛ لأنّ الضمیر لا یشیر إلی الضمیر ، والأحکام المتواردة علی الضمائر ، متواردة علی الاسم الظاهر حقیقة ، فبرجوع ضمیر المستثنی إلی الاسم الظاهر ، یخرج عن تحت جمیع الأحکام المتعلّقة به ، فیؤول المثال المذکور حقیقة إلی قولنا : «أکرم وسلّم وأضف العلماء ، إلاّ الفسّاق منهم» هذا إذا اشتمل المستثنی علی الضمیر .
[[page 486]]وکذا الحال فیما إذا لم یشتمل المستثنی علی الضمیر ، کما إذا قیل فی المثال المتقدّم : «إلاّ الفسّاق» لأنّ المستثنی بحسب الواقع مشتمل علی الضمیر ، ویکون منویاً فیه ، فالکلام فیه هو الکلام فی المشتمل علی الضمیر .
ولوفرض عدم تقدیر الضمیر فیه ، یکون المستثنی عنواناً ینطبق علی جمیع المستثنیات منها ، کما هو کذلک أیضاً ؛ لأنّ سائر الجمل ـ غیر الجملة الاُولی ـ مشتمل علی الضمیر ، ومعلوم أنّه غیر ملحوظ مستقلاًّ ، فلا تصلح بنفسها لانطباق العنوان علیه ، ولا تکون بنفسها محکومة بحکم .
وما ذکرنا هو مقتضی الاعتبار ، وارتکاز الفهم العقلائی أیضاً ، کما لا یخفی علی اللبیب .
ومنها : ما إذا کانت الجمل المتعدّدة مشتملة علی الظاهر والضمیر ؛ بأن کانت الجملة الاُولی مشتملة علی الظاهر ، والثانیة علی الضمیر ، والثالثة علی الظاهر ، والرابعة علی الضمیر . . . وهکذا ، مثل قولک : «أکرم العلماء ، وسلّم علیهم ، أضف التجّار ، وأکرمهم ، إلاّ الفسّاق منهم» فحینئذٍ لا یدور الأمر بین رجوع الاستثناء إلی الأخیر أو إلی الجمیع ، بل یدور بین الرجوع إلی الجملة الاُولی المشتملة علی الظاهر ، وبین الجملة المتوسّطة المشتملة علی الاسم الظاهر وما بعده ، وحیث إنّه لا ترجیح لإحداهما علی الاُخری ، یصیر الکلام مجملاً .
ومنها : ما إذا کانت الجمل بأجمعها مشتملة علی الاسم الظاهر ، فالظاهر أنّها
[[page 487]]کالصور السابقة فی أنّه لامرجّح للرجوع إلی الأخیرة دون الرجوع إلی الجمیع ؛ لأنّه کما یحتمل رجوعه إلی الأخیرة ، فکذلک یحتمل رجوعه إلی الجمیع ، فیصیر الکلام مجملاً .
نعم ، یظهر من المحقّق النائینی قدس سره التفصیل بین ما إذا کانت الجمل المتقدّمة مشتملة علی الموضوع والمحمول ، کقوله : «أکرم العلماء ، وأضف الشعراء ، وأهن الفسّاق ، إلاّ النحویین» أو قال : «أکرم العلماء ، وأکرم الشعراء ، وأکرم السادات إلاّ النحوی» فیرجع إلی خصوص الأخیرة ، وبین ما حذف فیها الموضوع ، کقوله : «أکرم العلماء ، والشعراء ، والسادة ، إلاّ النحوی» .
ولکن فیه : أنّ الاستثناء إنّما یرجع إلی الموضوع بلحاظ تعلّق الحکم به ، لا الموضوع فقط ، ولا الحکم کذلک ، ومجرّد ذکر الحکم لا یکون دخیلاً فی موضوع الاستثناء ، فإذن لا وجه للتفصیل .
ودعوی : «أنّ تکرار عقد الوضع فی الجملة الأخیرة مستقلاًّ ، یوجب أخذ الاستثناء محلّه من الکلام» ، لا ترجع إلی محصّل ؛ لما أشرنا من أنّ احتمال الرجوع إلی الجمیع ، مساوٍ لاحتمال الرجوع إلی خصوص الأخیرة ؛ لو لم نقل بأظهریته منه عند العرف ، ومع هذا لا یکون الکلام هنا بمهمّ .
[[page 488]]