تقریب آخر لجواز التمسّک فی الشبهة المصداقیة للمخصّص ودفعه
ربما یصحّح التمسّک بالعامّ فـی الشبهـة المصداقیة للمخصّص المنفصل بتقریب ـ قال شیخنا العلاّمة الحائری قدس سره : «إنّه غایة ما یمکن التقریب فی ذلک ـ هو أنّ لکلّ واحد من العمومات ، عموماً أفرادیاً ، وإطلاقاً أحوالیاً ، مثلاً إنّ قول القائل : «أکرم العلماء» یدلّ بعمومه الأفرادی علی وجوب إکرام کلّ واحد من العلماء ، وبإطلاقه علی سرایة الحکم إلی کلّ حالة من الحالات التی تفرض للموضوع ، ومن جملة حالاته کونه مشکوک الفسق والعدالة ، کما أنّه من جملة حالاته کونه معلوم العدالة ، أو معلوم الفسق ، وبقوله : «لا تکرم الفسّاق من العلماء» قد علم خروج معلوم الفسق عنهم ، ولا یعلم خروج الباقی ، فمقتضی أصالة العموم والإطلاق بقاء المشکوک تحت العامّ» .
ولا یخفی : أنّ هذا الوجه أسوأ الوجوه التی أشرنا إلیها فی خلال البحث ، وفیه
[[page 381]]وجوه من الإشکال ، ولا ینقضی تعجّبی من قوله قدس سره «إنّه غایة التقریب»!! إذ یرد علیه اُمور :
فأوّلاً : أنّ محطّ البحث إنّما هو فی تخصیص العامّ وجواز التمسّک به فی الشبهة المصداقیة للمخصّص وعدمه ، لا فی تقیید المطلق وجواز التمسّک بالمطلق فی الشبهة المصداقیة للمقیّد وعدمه ، ومقتضی ما ذکره هو کون «لا تکرم فسّاق العلماء» مقیّداً لإطلاق أحوالی «أکرم العلماء» لا مخصّصاً له ، والتمسّک إنّما هو بإطلاق أحوالی العامّ فی الشبهة المصداقیة ، لا بعموم العامّ .
ولعلّ منشأ التوهّم ملاحظة المثال المعروف ؛ وهو «أکرم العلماء» و«لا تکرم فسّاقهم» وهو لا یخلو من إجمال ، والمناقشة فی المثال لیست من دأب المحصّلین . فلنذکر مثالاً آخر ؛ وهو قوله تعالی :«أوْفُوا بِالْعُقُودِ» مع ما دلّ علی خروج العقد الربوی ، فتری بوضوح أنّه لا یجری فیه ما ذکره ، فتدبّر .
وثانیاً : أنّ التمسّک بالإطلاق الأحوالی کما ذکره ، أسوأ حالاً من التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیة ؛ لما أشرنا فی ردّ المحقّق النائینی قدس سره حیث قال : «إنّ عنوان العامّ قبل العثور علی التخصیص ، کان تمام الموضوع للحکم ، وبعده یصیر العامّ معنوناً بعنوان غیر المخصّص ، فکما لم یجز التمسّک عند الشکّ فی فردیة شیء للعامّ فکذلک إذا شکّ فی فردیته للمخصّص» .
وحاصل ما ذکرناه فی ردّه : هو أنّه لم یتعلّق الحکم ـ لا فی العامّ ، ولا فی الخاصّ ـ بالمعنون ، بل تعلّق الحکم فیهما بالأفراد ، لکنّه علی نعت الإجمال ، فموضوع الحکم فی العامّ والخاصّ لیس إلاّ الأفراد ، لا العنوان والطبیعة کما یکون کذلک فی
[[page 382]]المطلق والمقیّد ، وإلاّ فلو أوجب التخصیص تعنون العامّ ، للزم سرایة إجمال المخصّص المنفصل إلی العامّ ، ولم یلتزم به ، فلا یکون موضوع العامّ فی المثال المعروف عنوان «العالم» وفی الخاصّ عنوان «الفاسق» وفی العامّ المخصّص «العالم غیر الفاسق» بل موضوع الحکم فی العامّ والخاصّ هو الأفراد ، فإذن یکون الخارج عن العامّ بعد التخصیص الأفراد ، کما أنّ الباقی تحته هو الأفراد أیضاً ، وقلنا : إنّ سرّ عدم جواز التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیة ـ مع أنّ موضوع الحکم الأفراد ـ هو عدم تطابق الإرادة الجدّیة مع الإرادة الاستعمالیة ، فتدبّر .
وثالثاً : لو سلّم جواز التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیة للوجه الذی أشرنا إلیه ، فمع ذلک لا یمکن المساعدة علی جواز التمسّک بالمطلق فی الشبهة المصداقیّة ؛ لأنّ تقیید الإطلاق یوجب تعنونه ، ولذا لم یقل أحد بجواز التمسّک بالمطلق فی الشبهة المصداقیة للمقیّد ، مثلاً إذا قال : «صلّ» ثمّ قیّده بقوله : «لا صلاة إلاّ بطهور» فإذا شکّ فی مورد بوجود الطهارة وعدمها ، لا یمکن التمسّک بالمطلق والحکم بصحّة الصلاة مع الشکّ فی الطهارة ، فتدبّر .
ورابعاً : أنّ الحکم الذی فی کلّ واحد من العامّ والخاصّ إمّا حکم واقعی ، أو أعمّ منه ومن الحکم الظاهری :
فعلی الأوّل : یلزم اجتماع حکمین واقعیین ـ الوجوب والحرمة ـ فی شیء واحد فی المثال المعروف ؛ وذلک لأنّ مقتضی عموم قوله : «أکرم کلّ عالم» وجوب إکرام کلّ فرد من أفراد العلماء ، ومقتضی إطلاقه ـ بزعم المستدلّ ـ إکرام کلّ واحد منهم ؛ سواء کان معلوم العدالة ، أو مشکوکها ، أو معلوم الفسق ، أو مشکوکه . . . وهکذا سائر حالاته ، فإذن العادل ومشکوک العدالة ، سیّان فی الواقع فی وجوب الإکرام ، وهکذا
[[page 383]]حال الخاصّ ، فإنّ مقتضی ذلک حرمة إکرام کلّ فرد من أفراد الفاسق واقعاً ؛ سواء کان معلوم الفسق ظاهراً ، أو مشکوکه ، فمشتبه الفسق إذا کان فاسقاً واقعاً ، یحرم إکرامه بإطلاق دلیل الخاصّ ، ویجب إکرامه بإطلاق دلیل العامّ .
ولا یکون المقام من باب اجتماع الأمر والنهی ؛ لما أشرنا فی مسألة الاجتماع ، من أنّه فیما إذا تعلّق حکمان علی عنوانین متصادقین فی موضوع واحد ، ومفروض البحث هنا عنوانان اُخذ مفهوم أحدهما فی الآخر ، وأشرنا فی مسألة الاجتماع إلی أنّ دخول ذلک فی مسألة الاجتماع ، لا یخلو من إشکال ، فلاحظ .
مع أنّه یلزم من ذلک تعلّق حکمین بعنوان واحد ؛ لأنّ مقتضی الإطلاق الأحوالی لدلیل العموم ، شموله لمشکوک العدالة ، کما أنّ مقتضی إطلاق دلیل الخاصّ أیضاً ، شموله لذلک أیضاً ، فمشکوک العدالة عندهم موضوع لوجوب الإکرام ، وموضوع لحرمة الإکرام .
والحاصل : أنّ فرد العامّ واجب الإکرام واقعاً وإن کان مشکوک الفسق ظاهراً ، وکذا مقطوع العدالة واجب الإکرام وإن کان فاسقاً واقعاً ، مع أنّ الحکم الواقعی للفاسق الواقعی ، حرمة الإکرام وإن کان مقطوع العدالة ظاهراً ، فیجتمع الضدّان فی شیء واحد علی عنوان واحد ، فتدبّر .
هذا علی تقدیر کون الحکم فی کلّ من العامّ والخاصّ واقعیاً .
وعلی الثانی : ـ أی إن اُرید منه الأعمّ من الواقعی والظاهری ـ فیرد علیه :
أوّلاً : أنّ الکلام فی الشبهة المصداقیة ، لا الحکمیة ، ومصحّح الحکم الظاهری هو الشکّ فی الحکم ، لا فی المصداق ، فتدبّر .
وثانیاً : أنّه لا یکاد یمکن إفادة الأعمّ من الواقعی والظاهری بدلیل واحد ؛
[[page 384]]لا ستلزامه جعل الحکم الواقعی وحکم الشکّ فی ذلک الحکم المجعول بهذا الدلیل بدلیل واحد ، نظیر ما قاله المحقّق الخراسانی قدس سره فی «کلّ شیء حلال حتّی تعرف الحرام منه بعینه» حیث استفاد من الصدر الحلّیة الواقعیة للأشیاء بعناوینها الأوّلیة ، ومن الذیل الحلّیة الظاهریة للأشیاء المشکوکة حلّیتها .
بل ما أفاده أهون ممّا ذکره المحقّق الخراسانی قدس سره لأنّه لم یرد استفادة الحلّیة الواقعیة والظاهریة من جملة واحدة ، کما فیما نحن بصدده فی مفروض البحث ، بل أراد استفادة الحلّیة الواقعیة من جملة الصدر ، والحلّیة الظاهریة من جملة الذیل ؛ وهی الغایة ، وهما جملتان ، فتدبّر .
وخامساً : أنّا أشرنا غیر مرّة إلی أنّ الإطلاق لیس إلاّ کون الشیء تمام الموضوع للحکم ، ولم یکن لشیء آخر دخالة فی ترتّب الحکم علیه ، فلا تعرّض فیه بالنسبة إلی الأحوال أصلاً ، فما أفاده فی الإطلاق ـ من أنّه یجب إکرامه سواء کان کذا ، أو کذا ـ باطل من الرأس ، کما سیجیء .
فتحصّل : أنّ قول شیخنا العلاّمة الحائری قدس سره : «إنّ هذا التقریب غایة التقریب فی الباب» لیس بسدید ؛ فإنّ التقریب الذی أشرنا إلیه فی الأثناء وإن لم یکن تامّاً فی حدّ نفسه ، إلاّ أنّ الإشکال المتوجّه إلیه أقلّ ممّا یکون علی هذا التقریب ، فلاحظهما وکن قاضیاً .
هذا کلّه فیما إذا کان المخصّص لفظیاً .
[[page 385]]