أقسام المطلق
وأمّا المطلق ، فقال المحقّق الخراسانی قدس سره فی آخر مبحث المطلق والمقیّد تحت عنوان «تبصرة لا تخلو من تذکرة» ما حاصله : أنّ قضیّة مقدّمات الحکمة تختلف حسب اختلاف المقامات ؛ فإنّها تارة : یکون حملها علی العموم البدلی ، واُخری : علی العموم الاستیعابی ، وثالثة : علی نحو خاصّ ممّا ینطبق علیه ؛ حسب اقتضاء خصوص المقام واختلاف الآثار والأحکام ، کما هو الحال فی سائر القرائن بلا کلام ، فمقتضی الحکمة فی قوله تعالی :«أحَلَّ الله ُ الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوٰا» هو العموم الاستیعابی ؛
[[page 340]]بلحاظ أنّ إرادة البیع مهملاً أو مجملاً تنافی فرض کونه فی مقام البیان ، وإرادة العموم البدلی لا تناسب المقام ، ولا مجال لاحتمال إرادة بیعٍ اختاره المکلّف ؛ أیّ بیع کان ، فمقدّمات الحکمة توجب حمل المطلق ـ وهو«الْبَیْعَ» ـ علی العموم الاستیعابی ؛ لأنّه المناسب بعد کونه فی مقام البیان ووافقه فی ذلک بعض .
وفیه : أنّه قد أشرنا غیر مرّة إلی أنّ مقتضی جریان مقدّمات الحکمة فی جمیع الموارد ، لیس إلاّ أمراً واحداً ؛ وهو کون ما أخذه موضوعاً للحکم ، هو تمام الموضوع لحکمه من دون دخالة أمر آخر ، فإن کان المأخوذ موضوعاً ماهیة لا بشرط ـ کما فی قوله تعالی :«أحَلّ الله ُ الْبَیْعَ» ـ فمقتضی الحکمة أنّ نفس ماهیة البیع تمام الموضوع للحکم بالحلّیة ، ولا تکون هناک حالة منتظرة فی ترتّب الحلّیة علیه ، وأنّی له وللدلالة علی الاستیعاب؟!
نعم ، حیث إنّ الطبیعة تتکثّر بتکثّر الأفراد ، ویری العقل والعقلاء أنّ ما أخذه موضوعاً للحکم بالحلّیة ، موجود فی هذا البیع ، وذاک البیع . . . وهکذا ، فلا محالة یحکمون بنفوذ کلّ واحد من أفراد البیوع ، ومن المعلوم أنّ استفادة ذلک لیس بدلالة الإطلاق .
وکذلک إذا جعلت النکرة موضوعاً للحکم ، کقوله : «أعتق رقبة» فإنّ مادّة «الرقبة» تدلّ علی نفس الطبیعة ، والتنوین أو التنکیر . یدلّ علی واحد غیر معیّن ، فـ «رقبةٌ» تدلّ ـ بتعدّد الدالّ ـ علی رقبة غیر معیّنة من الطبیعة ، ولا یکون فیها دلالة علی البدلیة بلا ریب .
[[page 341]]نعم ، مقتضی حکم العقل ـ بعد تعلیق الحکم علیه ـ هو التخییر بإتیان أیّ فرد شاء فی مورد التکالیف ، ولذا یکون فرق بین قوله : «أعتق رقبة» وبین قولک : «أعتق أیّة رقبة شئت» فإنّ التخییر فی الأوّل عقلی ، وفی الثانی لفظی مستفاد من اللفظ .
والحاصل : أنّ مقتضی الحکمة فی جمیع الموارد أمر واحد ؛ وهو أنّ ما اُخذ تحت دائرة الحکم تمام الموضوع لترتّب الحکم علیه .
نعم ، حکم العقل والعقلاء یختلف بحسب المقامات ، وهو غیر دلالة اللفظ ؛ فربما یستفاد أنّ الحکم متعلّق بنفس الطبیعة ، ولم ترفع الید عنها ، کما هو الشأن فی قابلیة الإنسان للصنعة والکتابة ، فکما أنّه إذا لم یکن بعض أفراده قابلاً للصنعة والکتابة ، لا یمکن أن یقال : «إنّ الإنسان کذا» مع أنّه لا دخالة للخصوصیات الفردیة فی القابلیة ، فکذلک فی«أحَلَّ الله ُ الْبَیْعَ» فإنّه قد جعل نفس طبیعة البیع تمام الموضوع لتعلّق الحلّیة علیه ، ولا یکاد یمکن ذلک إلاّ إذا کان جمیع أفراد البیع ومصادیقه محلّلاً . کما أنّه ربما یستفاد من الدلیل تحدید الطبیعة ، وذلک فیما إذا جعلت النکرة موضوعاً للحکم .
ولا یخفی : أنّ ذلک لا یضرّ بوحدة مقتضی الإطلاق ، ولذا تجری مقدّمات الحکمة فیما إذا جعل الفرد موضوعاً للحکم ، ومقتضاه عدم دخالة حالةٍ دون اُخری فی موضوعیته للحکم ، وواضح أنّه لا تختلف أصالة الإطلاق فی حالات الفرد ، مع أصالة الإطلاق فی صورة کون الماهیة أو النکرة موضوعاً للحکم .
فظهر : أنّ استفادة الاستیعاب والبدلیة من مقدّمات الحکمة ، غیر وجیه ، بل من المحال أن یستفادا من الإطلاق ، وتوهّم استفادة ذلک نشأ من الخلط بین مقتضی الإطلاق وحکم العقل والعقلاء ، فتدبّر وتأمّل حتّی لا تخلط .
[[page 342]]
تنبیه وتوضیح مقال
قد أشرنا آنفاً إلی أنّ تقسیم العموم إلی الأقسام الثلاثة ـ من الاستغراقیة ، والمجموعیة ، والبدلیة ـ لیس بلحاظ تعلّق الحکم وبعد تعلّقه ، کما هو الشأن فی استفادة الإطلاق ، حیث إنّها بعد تعلّق الحکم ، ولکن نعطف عنان البحث حوله ثانیاً توضیحاً للمقال .
فنقول : یظهر من المحقّقین الخراسانی والنائینی أنّ انقسام العموم إلی الأقسام المذکورة لیس باعتبار معناه الأفرادی ؛ بحیث یکون التقسیم إلیها باعتبار وضع العموم بمعناه الأفرادی ؛ لأنّ العموم بحسب الوضع لیس معناه إلاّ الشمول ، وهو معنی واحد شامل لجمیع الأقسام ، بل التقسیم إلیها إنّما یکون باعتبار تعلّق الحکم بموضوعاتها ؛ حیث إنّ الغرض من الحکم :
تارة : یکون علی وجه یکون لاجتماع الأفراد دخل فی الغرض ؛ بحیث یکون مجموع الأفراد بمنزلة موضوع واحد ، وله إطاعة واحدة بإکرامه جمیع أفراد العلماء فی مثل قولک : «أکرم جمیع العلماء» وعصیانه یکون بعدم إکرام فرد واحد منهم .
واُخری : یکون الغرض علی وجه یکون کلّ فرد فرد من العالم ، موضوعاً مستقلاًّ ، وتتعدّد الإطاعة والعصیان حسب تعدّد الأفراد .
وثالثة : یکون کلّ واحد موضوعاً علی البدل ؛ بحیث لو أکرم واحداً منهم لأطاع وامتثل .
[[page 343]]وفیه أوّلاً : أنّ دلالة العموم بأقسامه دلالة لفظیة ، ولکلّ واحد من الأقسام الثلاثة ألفاظ مخصوصة حسب ما فصّلناه ، فإنّ المتبادر من لفظة «کلّ عالم» بدوالّ ثلاثة هو العامّ الاستغراقی ؛ أی کلّ فرد من أفراد العالم قبل تعلّق الحکم ، وکذا المتبادر من لفظة «مجموع» مثلاً العامّ المجموعی ، ومن «أیّ» العامّ البدلی ، ولا یتوقّف العرف والعقلاء فی فهم واحد منها من تلک الألفاظ علی کیفیة تعلّق الحکم ، وهم بمرأی منک ومسمع فاختبرهم . ولازم ما أفاداه هو توقّف أهل المحاورة فی فهم کیفیة تعلّق الحکم حتّی یتفحّصوا ویتطلّبوا حوله .
وبالجملة : باب العموم باب دلالة الألفاظ ، ولکلّ من الاستغراقیة والمجموعیة والبدلیة ألفاظ تخصّها قبل تعلّق الحکم ، فحدیث توقّف استفادة ذلک علی کیفیة تعلّق الحکم ـ کما هو الشأن فی استفادة الإطلاق من المطلق ـ غیر صحیح .
وثانیاً : لک أن تقول : إنّه لا یعقل أن یکون اختلاف الثلاثة باختلاف کیفیة تعلّق الحکم ؛ لأنّه لابدّ فی کلّ قضیّة ـ إخباریة کانت ، أم إنشائیة ـ من تصوّر الموضوع أوّلاً ، ثمّ انحدار الحکم الوحدانی علیه ؛ لأنّ الحکم تابع لموضوعه ، ومن الواضح أنّه لا یعقل انحدارالحکم الوحدانی علی الموضوعات الکثیرة المأخوذة علی نحو الاستغراق ، ولاانحدار الحکم الاستغراقی علی موضوع وحدانی ، فظهر أنّه قبل تعلّق الحکم لابدّ من تعیین الموضوع من حیث الاستغراقیة ، والمجموعیة ، والبدلیة ، وأنّ مقتضی ما أفاداه ـ من أنّه قبل تعلّق الحکم لا یکون هناک استغراق ، ولا مجموع ، ولا بدل ، وإنّما هی بعد تعلّق الحکم ـ هو أن یکون الحکم منحدراً ومتعلّقاً علی ما لم یکن له فی حدّ نفسه استغراق ، ولا مجموع ، ولا بدل ، ومن المعلوم أنّ الإهمال الثبوتی الواقعی لا معنی له ، بل فی الواقع إمّا یتعلّق الحکم بجمیع الأفراد ، أو بفرد مّا ، أو بمجموع الأفراد .
[[page 344]]فظهر ووضح : أنّ تقسیم العموم إلی الأقسام الثلاثة ، إنّما هو بلحاظ تقسیم الموضوع قبل تعلّق الحکم ؛ باعتبار وضع اللفظ لها .
ولو سلّم أنّ الإطلاق المستفاد من دلالة العقل ، هو من باب المرآتیة للأفراد ، لکنّا نقول بذلک أیضاً وأنّه قبل تعلّق الحکم ؛ لأنّ المرآتیة إمّا تکون لجمیع الأفراد ، أو لمجموع الأفراد ، أو لفرد منها ؛ لما أشرنا من أنّ الإهمال الثبوتی لا معنی له ، فإذا کان الأمر فی الإطلاق المستفاد من دلالة العقل کذلک فما ظنّک فیما تکون دلالته لفظیة باعتبار وضع اللفظ له؟! فتدبّر .
[[page 345]]