إشکال کلمة التوحید ودفعه
وهنا إشکال معروف علی کلمة «لا إله إلاّ الله » : وهو أنّ الخبر المقدّر للفظة «لا» النافیة للجنس ، إمّا «ممکن» أو «موجود» وعلی أیّ حال لا یدلّ الاستثناء علی التوحید الذی هو عبارة عن الاعتقاد بوجود الباری ونفی الشریک عنه تعالی ؛ وذلک لأنّه علی الأوّل لا یثبت إلاّ إمکان الله تعالی ، لا وجوده ، فلا تدلّ کلمة «لا إله إلاّ الله » علی وجوده تعالی ، وعلی الثانی فغایة ما تدلّ علیه حصر وجود الإلهیة فیه تعالی ، لا نفی إمکان وجود إله غیره .
وبالجملة: لو قدّر «موجود» فی کلمة «لا إله إلاّ الله » فغایة ما یقتضیه الاستثناء، حصر وجود الاٰلهة فیه تعالی ، لا نفی إمکان الشریک له ، فعلی کلا التقدیرین یشکل دلالة کلمة التوحید علی نفی وجود إله غیره تعالی وإثبات الوجود له .
[[page 312]]وقد أتعب المحقّق النائینی قدس سره نفسه الزکیة فی الجواب عن الإشکال ، فقال أوّلاً بعدم تقدیر للخبر ، فکما أنّ لفظة «کان» قد تکون ناسخة ؛ وهی الرابطة الزمانیة ، وقد تکون تامّة وغیر محتاجة إلی الخبر ، فکذلک «لا» تکون تارة للنفی الربطی وعدم وصف لموضوع ، واُخری لنفی المحمول ؛ أی عدم الشیء ، فلا یحتاج إلی الخبر ، فیکون معنی الکلمة الشریفة نفی هویة واجب الوجود وإثباته لذاته تعالی ، ونفی واجب الوجود وإثبات فرد منه عین التوحید ؛ لأنّ غیره لو کان واجب الوجود لوجب وجوده ؛ لوجوبه ذاتاً ، فلو لم یکن غیره تعالی واجب الوجود فإمّا ممتنع الوجود ذاتاً ، وإمّا ممکن الوجود ذاتاً ، وکلاهما لیسا بواجب الوجود ذاتاً ، فانحصر الواجب فیه تعالی .
ثمّ قال : «لو قدّر الخبر فلا یتوجّه الإشکال ؛ سواء قدّر «ممکن» أو «موجود» لأنّ المراد من «الإله» المنفی هو واجب الوجود ، فلو قدّر «ممکن» فنفی الإمکان عن غیره تعالی وإثبات الإمکان له ، مساوق لوجوده تعالی ؛ لأنّه لو أمکن وجوده لوجب ، لأنّ المفروض أنّه واجب الوجود ، فلو لم یمتنع لوجب ، ولو قدّر «موجود» فنفی الوجود عن غیره تعالی ملازم للامتناع ؛ لأنّه لو لم یمتنع لوجب وجوده ، لأنّه لو خرج الشیء عن الامتناع وأمکن یجب وجوده ؛ لأنّ المفروض أنّه واجب الوجود» .
وأجاب بعضهم عن الإشکال : بأنّ المراد بالإمکان هنا الإمکان العامّ ، ولمّا کان إمکانه تعالی عین وجوبه ـ لکونه إمکاناً عامّاً ، لا إمکاناً خاصّاً ـ فیبقی إمکان الالهة ، وینفی إمکان معبود آخر یتمّ المطلوب ؛ لاستلزام إمکان الشیء حینئذٍ وجوبه .
[[page 313]]کما أجاب بعض آخر عن الإشکال ـ سواء کان الخبر المقدّر کلمة «ممکن» أو «موجود» ـ بأنّ المراد من «الله » هو واجب الوجود ، ومع تقدیر «ممکن» تدلّ علی إمکانه تعالی وعدم إمکان غیره ، وإمکانه تعالی ملازم لوجوده ؛ للملازمة بین إمکان وجوده ووجوده . وعلی تقدیر کلمة «موجود» فی الخبر تدلّ علی عدم وجود غیره تعالی ، وعدم وجود غیره ملازم لامتناعه ؛ لأنّه لو أمکن لوجد . . . إلی غیر ذلک من الأجوبة التی ذکرت فی المقام .
وهذه الأجوبة وإن کانت صحیحة فی حدّ نفسها بلحاظ القواعد الفلسفیة ، إلاّ أنّها بعیدة عن أذهان العرب والأعراب المقرّین بهذه الکلمة ، بل لم یکد یفهم عبدة الأوثان من هذه الجملة المبارکة تلک المطالب ، ومع ذلک قبل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلممنهم الإقرار بها ، فالحقیق فی الجواب عن الإشکال ما أشرنا إلیه ، وحاصله : أنّ کلمة الإخلاص سیقت لنفی ما یعتقده عبدة الأوثان من الشرک فی العبادة ، لا إثبات وجود الواجب أو وجوبه ، فلا إشکال .
ویقرب أن یقال فی الجواب : إنّ الخبر المقدّر «موجود» ونفی وجود الالهة وإن لم یستلزم نفی إمکانها ، إلاّ أنّ الحکم بعدم إمکان تلک الالهة ، غیر لازم فی الاعتقاد لعامّة الناس ، ولا یجب علیهم أزید من ذلک وإن کان لعلماء الاُمّة براهین ساطعة وأدلّة قاطعة علی نفی إمکان الغیر ، ولا یعتبر هذا فی الإسلام ، بل المعتبر هو الإقرار والاعتقاد بأنّ للعالم إلهاً ومعبوداً واحداً ، ولذا کان صلی الله علیه و آله وسلم یحکم بإسلام من اعترف بمفاد کلمة التوحید وإن لم یعرف معنی الإمکان الخاصّ ؛ أی سلب الضرورة عن الطرفین ، أو العامّ ؛ وهو سلب الضرورة عن الطرف المقابل ، ولم یمکنه الاستدلال علی ذلک .
[[page 314]]والمهمّ فی تنویر القلب هو الاعتقاد والطمأنینة، لا الاستدلال، ولذا فقد لا یکون الشخص قادراً علی إقامة الدلیل والبرهان علی وجوده تعالی ، ووحدانیته ، وصفاته الجمالیة والجلالیة ، والنبوّة ، والإمامة ، والمعاد ، وسائر المعتقدات ، ومع ذلک تکون نفسه مطمئنة بها ؛ لا تزلزل ولا اضطراب لها ، بل قلبه متنوّر بها خاضع لبارئه ؛ بحیث لا یکاد ینحرف عن الصراط المستقیم ، والنهج القویم ، ولا یخالف ربّه طرفة عین .
وبالعکس فقد یقدر بعض الناس علی إقامة الدلیل والبرهان علی تلک الاُمور بأحسن وجه ، إلاّ أنّ نفسه غیر متنوّرة وقلبه لیس خاضعاً ، وفی طلیعتهم الشیطان اللعین ، فإنّه مع اعترافه بالمبدأ والمعاد واعتقاده بهما ، ولکنّه لیس خاضعاً وخاشعاً له تعالی ، فلم یکن ذا بصیرة ونورانیة« وَمَنْ لَمْ یَجْعَلِ الله ُ لَهُ نُورَاً فَمَالَهُ مِنْ نُورٍ » .
والحاصل : أنّ الخضوع والخشوع أمر زائد علی ما یحصل بالدلیل والبرهان ، ولا یکاد یحصل من کتب المتکلّمین والفلاسفة وأضرابهم وممّا نسجته عقولهم وأفکارهم ، بل إنّما یحصل بالعلم بالکتاب والسنّة ، ودوام ذکره تعالی ، وإطاعته وإطاعة رسوله واُولی الأمر من عترته فی جمیع شؤونه وأعماله ، ولذا وجبت الصلاة والصیام والزکاة والخمس وسائر العبادات فی أزمنة متطاولة ، بل فی جمیع الأزمنة ؛ لیخضع قلبه ، ولا ینسی ذکره تعالی فی الشدائد والزلاّت ، ودعوة القرآن الکریم إنّما هی لتنویر القلوب وإنارتها ، ولذا لم یجرِ علی طریقة المتکلّمین والفلاسفة ونظرائهم .
اللهمّ نوّر قلوبنا بأنوار معرفتک ، ووفّقنا لما تحبّ وترضی ، واجعلنا من أحسن عبیدک نصیباً عندک ، وأقربهم زلفة لدیک ، بحقّ محمّد وآله ، إنّک علی کلّ شیء قدیر ، وبالإجابة حقیق وجدیر ، آمین یا ربّ العالمین .
هذا تمام الکلام فی المفهوم .
[[page 315]]
[[page 316]]