التحقیق عدم ثبوت مفهوم الوصف
إذا عرفت موضوع البحث فنقول : ذهب المحقّق النائینی قدس سره إلی أنّه لا یعقل أن یکون للوصف مفهوم ؛ لأنّه إنّما یتصوّر المفهوم فی قضیة ، إذا أمکن إرجاع القید إلی الحکم بالمعنی المعقول ؛ وهو تقیید المتحصّل من الجملة ، لا ذات الانتساب الذی هو
[[page 290]]معنی حرفی ، کالقضیة الشرطیة ، والقضیة المغیّاة بالغایة ، وأمّا لو کان القید راجعاً إلی الموضوع أو المحمول ، فلا سبیل إلی القول بالمفهوم ، کما فی الوصف ، فإنّه لا یمکن إرجاع القید إلاّ إلی الموضوع ، فیکون کالشرطیة التی سیقت لفرض وجود الموضوع.
ویظهر من المحقّق العراقی قدس سره ـ کما سبقت الإشارة إلیه ـ أنّه لا إشکال فی أنّ الموضوع علّة منحصرة لشخص حکمه ، وبانتفائه ینتفی شخص حکمه ، والنزاع فی المفهوم وعدمه إنّما هو فی تعلّق سنخ الحکم ، أو شخصه ، فمن قال بالمفهوم یری تعلّق سنخ الحکم ، ومن قال بعدم المفهوم یری أنّ المعلّق هو شخص الحکم ، وتعلّق الحکم علی موضوعه فی القضایا ـ بحسب طبیعتها الأوّلیة واقتضاء ذاتها ـ إنّما هو علی سبیل الإهمال ، فلا إطلاق هناک ، فلا مفهوم .
نعم ، قد تکون فی البین جهة زائدة علی ربط الحکم بموضوعه ، کما فی القضیة الشرطیة ، حیث إنّ أداة الشرط تقتضی ربط سنخ الحکم بشرطه زائداً علی ربطه بموضوعه ، فیکون للقضیة من هذه الجهة إطلاق ؛ وإن لم یکن فیها إطلاق بلحاظ طبیعتها الأوّلیة ، فیستفاد المفهوم من القضیة الشرطیة ، ولهذه العنایة نقول بالمفهوم أیضاً فی الغایة وأداة الحصر ، وأمّا التوصیف فهو من شؤون الموضوع ، ویتقیّد الموضوع به ، وتعلّق الحکم علی الموضوع المتقیّد نظیر تعلّق الحکم بذاته بلا قید من حیث الإهمال ، فلا إطلاق ، فلا مفهوم ، انتهی حاصل ما أفاده .
[[page 291]]أقول : لا یخلو ما أفاداه من النظر :
أمّا ما أفاده المحقّق النائینی قدس سره :
ففیه أوّلاً : ما أشرنا إلیه مکرّراً من صحّة تقیید المعنی الحرفی ، بل التقیید غالباً إنّما یطرأ علی المعنی الحرفی ، فلاحظ .
وثانیاً : أنّ الذی فی باب المفهوم ویریده القائل به ، هو أنّ الإطلاق کما یقتضی کون المأخوذ موضوعاً ، هو تمام الموضوع من حیث ترتّب الحکم علیه ونفی الشریک له ، فکذلک یقتضی عدم بدیل له ، فینحصر ترتّب الحکم علیه دون غیره ، وهو معنی المفهوم . والقید وإن رجع إلی الموضوع ، ولکنّه لا یوجب کون الموضوع مرکّباً کی ینتفی بانتفاء قیده ، بل الموضوع ذات المتقیّد ، فبعد ارتفاع الوصف یکون الموضوع باقیاً . وبهذا یظهر الفرق بین ما نحن فیه ، والشرطیة التی سیقت لفرض وجود الموضوع ، حیث إنّ الشرطیة تقتضی کون الموضوع مرکّباً ، فتدبّر .
وأمّا ما أفاده المحقّق العراقی قدس سره :
ففیه أوّلاً : أنّ النزاع فی المفهوم لم یکن فی تعلّق شخص الحکم وسنخه ، بل محطّ البحث عندهم إنّما هو فی تعلّق سنخ الحکم ، فقالت طائفة بالمفهوم ، واُخری بعدمه . ولعلّ منشأ ما زعمه قدس سره هو توهّم أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء الحکم ، فرأی أنّه لا معنی لانتفاء سنخ الحکم مع عدم المفهوم ، فلابدّ وأن یری منکر المفهوم انتفاء شخص الحکم ، وقد عرفت فی أوائل هذا المقصد أنّ المفهوم هو الحکم بالانتفاء ، لا مجرّد الانتفاء ، فالقائل بالمفهوم یحکم بانتفاء سنخ الحکم ، ولذا یعارض ما دلّ علی ثبوت الحکم ، والمنکر لا یحکم بالنفی ، فتدبّر ، فإنّه لا یخلو من دقّة .
وثانیاً : أنّک قد عرفت عدم استقامة القول بکون القضایا بحسب طبیعتها الأوّلیة مهملة ، بل کثیراً ما تکون القضایا علی سبیل الإطلاق ، ولکن مع ذلک
[[page 292]]لا یکون لها مفهوم ؛ لأنّ غایة ما یقتضیه الإطلاق کون المأخوذ تمام الموضوع لترتّب الحکم علیه ، وهذا ینفی الشریک ، لا البدیل ، فتدبّر .
فظهر : أنّه لا فرق بین الوصف والشرط من حیث وقوعهما محطّ البحث فی استفادة المفهوم ؛ وذلک لأنّه کما یمکن تخیّل المفهوم من جهة أخذ الشرط زائداً علی ذات المشروط به ، صوناً للکلام عن اللغویة ، فکذلک یمکن فیما إذا اُخذ وصف زائد علی ذات الموصوف .
ولکن الذی یسهّل الخطب : هو عدم دلالة الجملة الوصفیة علی المفهوم ؛ لأنّ أقوی ما یمکن أن یستدلّ به للمفهوم إنّما هو من ناحیة الإطلاق ، بلحاظ أنّ الإطلاق کما یدلّ علی أنّه تمام الموضوع لترتّب الحکم علیه وبلا شریک ، کذلک یدلّ علی أنّه بلا بدیل ، ولکن قد أشرنا إلی أنّ الإطلاق لا یقتضی ذلک ، بل غایة مقتضاه هی کون الموصوف بالوصف تمام الموضوع لترتّب الحکم علیه ، ولا یکون له حالة منتظرة لترتّب الحکم علیه .
وبالجملة : غایة ما یقتضیه الإطلاق نفی الشریک ، لا نفی البدیل ، فلا یستفاد من الإطلاق المفهوم .
وربما یتمسّک هنا لإثبات المفهوم بوجه عقلی ، نظیر ما تمسّک به لإثبات مفهوم الشرط ، وحاصله : أنّ ظاهر القضیة ـ بعد إحراز أنّ الأصل فی القید أن یکون احترازیاً ـ یدلّ علی أنّ القید بذاته وعنوانه دخیل فی الموضوع ، ومتمّم لقابلیة القابل ، فإن کان له عدیل فمع تعدّد العلّة ، یکون الجامع علّة ، لا القید بعنوانه ، لئلاّ تنخرم قاعدة الواحد المبرهن علیها فی محلّها ، وهو خلاف الظاهر .
[[page 293]]وفیه : أنّا قد أشرنا غیر مرّة إلی أنّ باب موضوعات الأحکام ، غیر باب العلل الحقیقیة حتّی یتمسّک بقاعدة الواحد ؛ فإنّ المیزان فیه هو فهم العرف العامّ ، ومن الواضح أنّه یمکن أن یجعل ـ لمصالح ـ موضوعات عدیدة بعناوینها ، موضوعاً للحکم ، وأین هذا من باب العلل وباب التأثیر والتأثّر؟!
هذا مضافاً إلی أنّه قد تقدّم مراراً : أنّ مجری القاعدة عند مثبتیها إنّما هو الواحد البسیط الحقیقی الذی لا تشوبه شائبة الکثرة ؛ لا خارجاً ، ولا ذهناً ، ولا وهماً ، لا کلّ مورد یکون هناک صدور وصادر ومصدر .
وبالجملة : لابدّ من تنقیح المسألة وتحریرها علی ما یقتضیه النظر العرفی والعقلائی ، لا علی ما تقتضیه الدقائق الفلسفیة ، فإن ورد فی دلیل : «فی الغنم السائمة زکاة» ، وورد فی دلیل آخر : «فی الغنم المعلوفة زکاة» وفهم العرف والعقلاء تنافیاً بین الدلیلین ، فیستکشف من ذلک وجود المفهوم ؛ لقوله : «فی الغنم السائمة زکاة» وإلاّ فلا .
فتحصّل ممّا ذکرنا کلّه : أنّه لا مفهوم للجملة الوصفیة لو خلّیت وطبعها ؛ وإن کان الوصف فیها معتمداً علی الموصوف ، کما لم یکن للشرطیة کذلک مفهوم . نعم ربما یستفاد المفهوم منهما بلحاظ احتفافها بالقرائن الحالیة أو المقالیة ، فتدبّر .
[[page 294]]