الجهة الاُولی : فی حکم النهی المتعلّق بالعبادة
لو تعلّق النهی بالعبادة واُحرز کون النهی للإرشاد إلی الفساد ، فلا إشکال ـ بل ولا کلام ـ فی اقتضاء النهی الإرشادی للفساد .
وإن اُحرز کون النهی تحریمیاً نفسیاً ، فتصدّی شیخنا العلاّمة الحائری قدس سره لتصحیح العبادة المنهی عنها بإرجاع النهی إلی خصوصیة العبادة ، کما هو الشأن فی مسألة اجتماع الأمر والنهی ، وقد أتعب نفسه الزکیة فی ذلک ، وحاصل ما أفاده : هو تعلّق النهی بأمر خارج عن الصلاة ؛ قیاساً للمقام علی مسألة اجتماع الأمر والنهی ، فکما أنّه فی مسألة الاجتماع یصحّ القول بإمکان اتحاد عنوان المبغوض مع عنوان المقرّب ، فکذا فی المقام من دون تفاوت ، فإنّ أصل الصلاة شیء ، وخصوصیة إیقاعها فی مکان شیء آخر مفهوماً وإن کانا متحدین فی الخارج ، فالعمل المشتمل علی الخصوصیة ، موجب للقرب من حیث ذات العمل وإن کان إیجاده فی تلک الخصوصیة مبغوضاً للمولی .
[[page 163]]وأنت خبیر : بأنّ ما ذکره خارج عن محطّ البحث ؛ لأنّ محطّ البحث هو فیما إذا تعلّق النهی النفسی التحریمی بذات العبادة ، لا بأمر خارج عنها ، فمرکز الأمر والنهی فی هذه المسألة واحد ، بخلافه فی مسألة الاجتماع ، فإنّ مرکز تعلّق أحدهما غیر الآخر وإن اتحدا خارجاً ، وعلیه فلو تعلّق النهی النفسی التحریمی بعبادة ، فلا ینبغی الإشکال فی أنّه یقتضی فسادها ؛ لأنّ صحّة العبادة إمّا لأجل موافقتها للأمر ، أو الشریعة ، وبتعلّق النهی بها یکشف عن مبغوضیة فعلیة ذاتیة فی متعلّقه ، ومن الواضح عدم صلاحیة ما هو المبغوض ذاتاً للتقرّب به مع وحدة الحیثیة ، فتقع فاسدة .
ولو اُحرز کون النهی تنزیهیاً نفسیاً ، فالأمر کذلک ؛ لأنّ بقاء النهی علی تنزیهیته ودلالته علی مرجوحیة متعلّقه ، لا یجتمع مع الصحّة ؛ فإنّه إذا کان الشیء مرجوحاً ومکروهاً ـ بالمعنی المصطلح للکراهة ـ لا یکون محبوباً ، کما لا یکون مبغوضاً ، وقد عرفت مصحّح عبادیة العبادة .
وبعبارة اُخری : إذا اُحرز کون النهی تنزیهیاً ، فلا یکاد یفرّق فی حکم العقل بینه وبین النهی التحریمی فی دلالته علی الفساد ؛ حیث إنّ النهی التنزیهی یدلّ علی مرجوحیة متعلّقه ومطلوبیة ترکه، ولا یصلح المرجوح لأن یتقرّب به العبد إلی مولاه.
هذا إذا لم نقل برجوع النهی التنزیهی إلی أقلّیة الثواب ، وأمّا إن قلنا برجوعه إلیها کما لعلّه کذلک بالنظر العرفی ؛ بلحاظ أنّ الکراهة بما أنّها کراهة ، لا تمنع عن إیجاد متعلّقها ، فإذا تعلّقت ببعض أفراد العبادة الواجبة ، تصیر إرشاداً إلی کون هذا الفرد أقلّ ثواباً من غیره .
وبالجملة : إنّ النهی التنزیهی حیث یکون متضمّناً للرخصة فی الفعل ، فالعرف یأوّله إلی ما یمکن معه فرض الصحّة ، کالإرشاد إلی أنّ هذا الفرد أقلّ ثواباً من الغیر ، أو غیر ذلک .
[[page 164]]ولکن لا یخفی : أنّه علی هذا یکون خارجاً عن محطّ البحث ؛ لأنّ المفروض کون النهی التنزیهی متعلّقاً بذات الصلاة .
وتوهّم : أنّ العبادة لا تجتمع مع النهی بقسمیه ، مدفوع بما أشرنا إلیه من أنّ المراد بـ «العبادة» هی التی لولا النهی تکون صالحة للتقرّب بها وأن یُتعبَّد بها ، لا العبادة الفعلیة ، فتجتمع العبادة مع النهی .
نعم ، یتوجّه إشکال أنّ النهی التنزیهی ـ بمعناه الاصطلاحی ـ حیث یکون مقتضاه ترخیص الشارع بالتعبّد ، فکیف یمکن الترخیص فی التعبّد بأمر مرجوح؟! وهل هذا إلاّ الترخیص بالتشریع؟!
ولکنّه یندفع : بأنّ الترخیص حیثی مفاده : أنّه لیس لنهی الشارع تنزیهیاً ، حرمـة ذاتیـة مـن جهـة تعلّق هذا النهی ، ولا ینافی الحرمة مـن قبل التشریع أو غیره ، فتأمّل .
ولو اُحرز کون النهی مقدّمیاً ، غیریاً أو تبعیاً ، أو هما معاً ، کما إذا قلنا بأنّ ترک الضدّ واجب من باب المقدّمة ، أو قلنا بأنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه ، فالأمر بإزالة النجاسة عن المسجد وإن جامعه نهی عن الصلاة بالأمر المقدّمی أو التبعی ، إلاّ أنّه لا یقتضی فسادها ؛ لأنّ النهی الغیری أو التبعی لا یکشف عن مفسدة ومبغوضیة متعلّقه ، فعند تعلّق النهی بالصلاة یکون ملاک الصلاة باقیاً ، ولا تکون مبغوضة ذاتاً ، وغایة ما هناک هو الالتزام بترکها لأجل ترک ضدّه ، فمع القول بکفایة الملاک فی صحّة العبادة ، یصحّ التقرّب بالمنهی عنه بالنهی الغیری أو التبعی .
ولتوضیح أنّ النهی الغیری لا یکشف عن فساد متعلّقه ـ کما أنّ الأمر الغیری لا یکشف عن مصلحة فی متعلّقه ـ نقول : إنّه إذا أشرف ولد عزیز علی المولی وأخ له علـی الغرق ، فتری أنّـه یتوجّـه أوّلاً إلی ولده ویأمر عبـده بإنقاذه ، وینهی عبده
[[page 165]]ـ غیر القادر علی إنقاذهما معاً ـ عن إنقاذ أخیه ، مع أنّ نهیه لیس لعدم المصلحة فی إنقاذ أخیه ، بل لأقوائیة مصلحة إنقاذ ولده العزیز وصرف القدرة إلی ما یکون أقوی وأولی . هذا فی متعلّق النهی الغیری .
وهکذا الحال فی الأمر الغیری ؛ لأنّ الأمر بسلوک طریق لإتیان واجب لا یکشف عن مصلحة فی متعلّقه ، بل ربما یکون مبغوضاً فی حدّ نفسه ، إلاّ أنّه للوصول إلی الواجب یکون مأموراً به .
إن قلت : لا إشکال فی تعلّق النهی ـ ولو غیریاً ـ بالعبادة ، وبإتیانه الفعل المنهی عنه یکون متجرّیاً ، فیکون الفاعل بذلک بعیداً عن ساحة المولی ، فلا یصلح التقرّب به ، فمقتضی تعلّق النهی الغیری هو فساد العبادة .
قلت : عصیان الفاعل إنّما هو لترک الضدّ الأهمّ ، لا لفعل المهمّ ، فلیس فی فعله تجرٍّ ؛ ضرورة أنّ التجرّی علی المولی فی المثال المعروف ، إنّما هو بترک الإزالة المأمور بها ، لا بفعل الصلاة ، بل لا ارتباط له بها ، وإلاّیلزم القول ببطلان صلاة من تجرّأ وأفسد صومه ، مع أنّه واضح الفساد .
وحدیث انطباق الأمر الغیری ـ أعنی ترک الأهمّ ـ علی الأمر الوجودی ، قد عرفت حاله .
مضافاً إلی أنّه لو سلّم أنّ العصیان یتحقّق بنفس إتیان المهمّ ، نقول : لا دلیل
[[page 166]]علی أنّ التجرّی موجب للفساد ؛ لأنّ الجرأة والجسارة عنوان لا یکاد تسری مبغوضیته إلی نفس الفعل ، وکون العبد بعیداً عن ساحة المولی بجرأته لا یوجب البعد بعمله ، بل بجرأته وجسارته ، وهو عنوان آخر لا تسری المبغوضیة منه إلی الفعل . هذا حال إحراز النهی المتعلّق بالعبادة .
[[page 167]]