الأمر الأوّل : فی عنوان البحث
المعروف بینهم قدیماً وحدیثاً فی عنوان البحث : «هو أنّه هل یجوز اجتماع الأمر والنهی فی شیء واحد ، أم لا؟» ، ولا یخفی ما فیه ؛ لأنّ المراد بـ «الواحد» إمّا الواحد الشخصی ، أو الجنسی ، أو النوعی ، أو الأعمّ من الشخصی ومنهما :
[[page 23]]لا سبیل إلی إرادة الواحد الشخصی ؛ لأنّ شخصیة الشیء إنّما هی بالوجود ، وهو قبل الوجود کلّی ، وبالوجود یصیر جزئیاً ، فیلزم أن یکون البحث فی أنّه هل یجوز اجتماع الأمر والنهی فی الصلاة الخارجیة مثلاً الواقعة فی الدار الغصبیة ، أم لا؟ ومن الواضح أنّ الخارج ظرف سقوط التکلیف لا ثبوته ، فاجتماع الأمر والنهی لا معنی له .
وبالجملة : الواحد الشخصی ـ بلحاظ کون الخارج ظرف سقوط التکلیف لا ثبوته ـ لا یعقل أن یتعلّق به تکلیف واحد ، فضلاً عن تکلیفین ، لأنّ الشیء بعد وجوده الخارجی لا یکاد یمکن أن یتعلّق به أمر أو نهی ، فاجتماع الأمر والنهی فی الواحد الشخصی لا معنی له .
ولو اُرید بـ «الواحد» الواحد الجنسی ـ بأن یراد أنّ الواحد الذی له أنواع مختلفـة ، متعلّق للأمر والنهی ، کجنس الحرکـة الجامعـة بین الحرکة الصلاتیـة والحرکة الغصبیة ـ أو الواحد النوعی الذی له أصناف متعدّدة کالحرکة ، لکنّها بعنایة اُخری ، ففیه:
أوّلاً : أنّ الواحد الکذائی ـ الجامع الجنسی أو النوعی ـ لم یتعلّق به أمر ولا نهی ؛ لأنّ الأمر تعلّق بعنوان «الصلاة» مثلاً ، والنهی تعلّق بعنوان «الغصب» أو «التصرّف فی مال الغیر بغیر رضاه» وبعد تعلّق الأمر والنهی کذلک ، یمکن انتزاع جامع جنسی أو نوعی منهما ، ولکنّه غیر ما تعلّق به التکلیف .
وثانیاً : لا معنی لتعلّق الأمر والنهی بالواحد الجنسی مع قطع النظر عن التصادق علی الواحد الشخصی ؛ لأنّ الحرکة فی ضمن الصلاة تکون مأموراً بها ، کما أنّها فی ضمن الغصب والتصرّف فی مال الغیر ، تکون منهیّاً عنها مع قطع النظر عن تصادقهما فی الخارج .
[[page 24]]وبالجملة : یجوز الأمر بالحرکة المتحصّصة بالصلاة ، والنهی عن الحرکة المتحصّصة بالغصب ، بلا إشکال وریب ، وکالأمر بالسجود لله تعالی ، والنهی عنه للصنم ، فلا معنی للنزاع فی الواحد الجنسی أو النوعی مع قطع النظر عن التصادق علی الواحد الشخصی .
إذا تمهّد لک حال إرادة الواحد الشخصی أو الواحد الجنسی أو النوعی ، یظهر لک الأمر فی إرادة الأعمّ من الشخصی ومنهما .
فظهر ممّا ذکرنا : أنّ الواحد الشخصی لم یکن محلاًّ للبحث ؛ لعدم معقولیته ، ولا الواحد الجنسی أو النوعی ؛ لعدم محذور فیه ، بل لا ینبغی البحث والنزاع فیه لوضوحه ، فالبحث فی الحقیقة إنّما هو فی انطباق عنوانی المأمور به والمنهیّ عنه وتصادقهما فی الموجود الخارجی ، فالحری عقد عنوان البحث هکذا : هل یجوز اجتماع الأمر والنهی علی عنوانین متصادقین خارجاً علی واحد شخصی ؛ بحیث یکون الموضوع الخارجی مجمع العنوانین ، أم لا؟
فعلی هذا ، یکون النزاع فی هذه المسألة کبرویاً لا صغرویاً ، خلافاً للعلمین الخراسانی والنائینی لأنّه یظهر منهما أنّ النزاع فی المسألة صغروی ، فقد قال المحقّق الخراسانی قدس سره فی الأمر الثانی عند بیان الفرق بین هذه المسألة ومسألة النهی فی العبادة : «إنّ الجهة المبحوث عنها فی هذه المسألة ، هی أنّ تعدّد الوجه والعنوان فی الواحد ، هل یوجب تعدّد متعلّق الأمر والنهی ؛ بحیث یرتفع به غائلة استحالة الاجتماع فی الواحد بوجه واحد ، أو لا یوجبه ، بل یکون حاله حاله؟
[[page 25]]فالنزاع فی سرایة کلّ من الأمر والنهی إلی متعلّق الآخر ؛ لاتحاد متعلّقیهما وجوداً ، وعدم سرایته ؛ لتعدّدهما وجهاً . . . » .
فقال المحقّق النائینی قدس سره : «إنّ ظاهر عنوانهم البحث ـ بأنّه هل یجوز اجتماع الأمر والنهی فی شیء واحد؟ ـ کون النزاع فی تضادّ الأمر والنهی وعدمه ، مع أنّ تضادّ الأحکام بأسرها ، أمر مفروغ عنه غیر قابل للنزاع فیه ، فلیس ظاهر العنوان مراداً قطعاً ، فالبحث إنّما هو فی أصل لزوم الاجتماع وعدمه ، لاجوازه وعدمه ، فالأولی تبدیل عنوان البحث هکذا : إذا اجتمع متعلّق الأمر والنهی من حیث الإیجاد والوجود ، فهل یلزم مـن الاجتماع الکذائی أن یتعلّق کلّ مـن الأمر والنهی بعین ما تعلّق به الآخر ، کما هو مقالة القائل بالامتناع ، أو لا یلزم ذلک ، کما هو مقالة القائل بالجواز؟ . . . » .
فتری أیّها الخبیر أنّهما بصدد تحریر محطّ النزاع بنحو لا یلزم القائلین بالجواز ، اجتماع الأمر والنهی فی شیء واحد ، فنزاع القوم فی الحقیقة فی أنّه هل یلزم اجتماع الأمر والنهی فی شیء واحد ، أم لا؟ فیکون النزاع صغرویاً .
وواضـح أنّه لا داعی إلی عقد عنوان البحث صغرویاً بعد إمکان عقد البحث کبرویاً ؛ أی فی جواز اجتماع الأمر والنهی علی عنوانین کلّیین متصادقین فی الخارج علی أمر واحد شخصی وعدمه ، فمن لم یجز ذلک یری أنّ الأمر والنهی المتعلّقین بالعنوانین ، یسریان إلـی الخارج ، ومـن جوّزه یری عدم سرایة الحکم المتعلّق بالعنوان إلی الخارج ، وما ذکره العلمان دلیل أحد شقّـی المسألة ، وواضح أنّه لا بدّ من عقد عنوان البحث بنحو قابل للردّ والقبول .
[[page 26]]وبالجملة : لزوم التوالی الفاسدة من لزوم اجتماع الأمر والنهی فی شیء واحد واجتماع الضدّین ، إنّما هو دلیل أحد طرفی التردید ، فلا معنی لجعله معقداً للبحث ، فتدبّر .
إذا تمهّد لک ما ذکرنا یظهر لک : أنّ المراد بـ «الواحد» هو الواحد الشخصی ؛ إبقاءً لما ورد من السلف إلی الخلف ، خلافاً للمحقّق الخراسانی قدس سره حیث قال : «إنّ المراد بالواحد مطلق ما کان ذا وجهین ومندرجاً تحت عنوانین : بأحدهما کان مـورداً للأمـر ، وبالآخـر للنهی ؛ وإن کان کلّیاً مقولاً علـی کثیرین ، کالصلاة فی المغصوب. وإنّما ذکر هـذا لإخـراج ما إذا تعـدّد متعلّق الأمـر والنهی ، ولم یجتمعا وجـوداً ولو جمعهما واحـد مفهوماً ، کالسجـود لله تعالی ، والسجـود للصنـم ، لا لإخراج الواحـد الجنسـی أو النوعـی ، کالحرکـة والسکون الکلّیین المعنـونین بالصلاتیة والغصبیة . . . » .
وأنت خبیر : بأنّ الصلاة فی الدار المغصوبة لم تکن أمراً واحداً ، ولم تکن متعلّقة للأمر ، ولا النهی ، بل الأمر تعلّق بعنوان«الصلاة» والنهی تعلّق بعنوان «الغصب» و«التسلّط علی مال الغیر بغیر رضاه» وهما فی عالم العنوانیة متغایران ، غایة الأمر یتحدان باعتبار الوجود الخارجی .
ثمّ إنّه لا یخفی : أنّه لو لم یلحظ الواحد بلحاظ وجوده الخارجی ، فلا ینبغی الإشکال والخلاف فی جواز تعلّق الأمر والنهی به ، کالسجود لله تعالی ، وللصنم ، وإنّما الإشکال والخلاف فیما إذا لوحظ اجتماعهما وتصادقهما علی موجود خارجی ، فالأولی أن یتحدّد عنوان البحث بما ذکرنا ، فتدبّر .
[[page 27]]