الفصل العاشر فی الفور والتراخی
قال المحقّق الحائری قدس سره فی باب المواسعة والمضایقة فی کتاب صلاته فی الاستدلال علی المضایقة ما حاصله بتقریبٍ منّا: أنّ الأمر وإن لم یدلّ بدلالة لفظیّة علی الفور، لکن یلزمه الفور؛ لأنّ العلل الشرعیّة کالعلل التکوینیّة فی أنّ المعلول لا ینفکّ عن العلّة فیهما، فیجب المسارعة إلی الإتیان بقضاء الفوائت.
لکن قد مرّ مراراً أنّ هذا الکلام منه ـ رحمه الله ـ غیر صحیح، وأنّ قیاس العلل الشرعیّة والأوامر الشرعیّة علیها فیغیر محلّه، فإنّ غایة ما یمکن أن یقال فی تقریبه: هو أنّ هیئة الأمر موضوعة للإیجاب، فالإیجاب علّة للوجوب، فإذا أوجب بإطلاق الهیئة یلزمه حصول الوجوب؛ لعدم انفکاک أحدهما عن الآخر، بل هما واحد فی الحقیقة، فإذا کان الإیجاب علّة للوجوب فلا یتخلّف المعلول عن علّته، هذا، ولکن الإیجاب متعلّق بالطبیعة، ویتصور فی الأمر بالطبیعة ثلاث صور:
أحدها: تعلّقه بها بقید الفوریّة.
وثانیها: کذلک بقید التراخی.
وثالثها: تعلّقه بها بنحو الإطلاق.
وقد مرّ أنّ المادّة فی صیغ الأمر موضوعة للطبیعة المطلقة، والهیئة موضوعة للإغراء والبعث نحوها، فلیس فی صیغة الأمر ما یدلّ علی الفور أو التراخی، ولیس فیها إلاّ المادّة والهیئة، وشیء منهما لا یدلّ علی شیء منهما ولو بالدلالة الالتزامیّة،
[[page 280]]والفور والتراخی یفتقران إلی التقیید، فیمکن أن یریدها الآمر بنحو التخییر بین الفور والتراخی؛ أی مطلق الطلب.
فتلخّص من جمیع ما ذکرنا: أنّ صیغة الأمر لا دلالة لها بنفسها لا علی الفور ولا علی التراخی، بل تدلّ علی مطلق الطلب.
لکن قد یقال : إنّ الصیغة وإن لم تدلّ بنفسها علی ذلک، ولکن قام الدلیل من الخارج علی أنّ الأوامر الشرعیّة اُرید بها الفور، کقوله تعالی: «وَسارِعُوا إِلی مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها السَّمواتُ وَالأرْضُ»، وقوله تعالی: «فَاسْتَبِقُوا الْخَیْراتِ» بتقریب: أنّ الفعل المأمور به من أسباب المغفرة ومن الخیرات، فیجب المسارعة إلیه؛ لأنّ الأمر للوجوب.
وفیه: أنّ الاستباق بمادّته إنّما یصدق إذا کان هناک فعل لو لم یتبادر إلیه هو فعله غیره، وصار الأوّل محروماً عن المثوبة المترتِّبة علی فعله، کما فی قوله تعالی: «وَاسْتَبَقَا الْبابَ»، وهو إنّما یتحقّق فی مثل الواجب الکفائی، فإنّه لو سبقه إلیه غیره صار هو محروماً عن ثوابه، وحینئذٍ فلا یشمل مثل الصلاة والصوم وغیرهما من الواجبات العینیّة، وأمّا قوله تعالی: «وَسارِعُوا إِلَی مَغْفِرَةٍ» فهو أیضاً کذلک من جهة الهیئة؛ حیث إنّها من باب المفاعلة لا بمادّته فلیس إلاّ إرشادیّاً کما لا یخفی.
وأجاب عنه المحقّق العراقی قدس سره: بأنّ الاستدلال بهما لوجوب الفور لا یتمّ؛ لأنّه یلزم من وجوب السرعة والسبق إلی الخیرات وأسباب المغفرة عدم وجوبه.
توضیح ذلک: أنّ الاستباق إلی فعل الخیرات یقتضی بمفهومه وجود خیرات
[[page 281]]عدیدة یتحقّق بفعل بعضٍ منها، وینتفی فی البعض الآخر، ولا ریب أنّ البعض الذی لم یقع فیه الاستباق أیضاً من الخیرات، وعلی فرض وجوب الاستباق إلی الخیرات یلزم أن لا یکون البعض الذی لم یتحقّق فیه الاستباق من الخیرات؛ لمزاحمته مع الذی تحقّق فیه الاستباق، وإذا انتفی أن یکون هذا من الخیرات لزم عدم وجوب الاستباق فی البعض الذی یتحقّق فیه الاستباق، وإذا انتفی الوجوب انتفت المزاحمة بین أفراد الواجب الموجبة لخروج بعضها عن حیِّز الوجوب، فیتعلّق بها الوجوب جمیعاً، وبه یعود موضوع المسارعة.
وبالجملة: یلزم من وجوب الاستباق والمسارعة عدم وجوبهما.
وفیه أوّلاً: أنّ ما ذکره إنّما یصحّ لو کان الاستباق والمسارعة بالنسبة إلی أفراد الواجب، لکنّه لیس کذلک، فإنّ معناهما هو الأمر بالمسارعة وسبق الغیر إلی فعل الخیرات وأسباب المغفرة بالنسبة إلی أشخاص المکلّفین؛ بحیث لو لم یبادر هو وبادر غیره إلی فعله صار هو محرُوماً عن الثواب المترتِّب علیه وآثاره، وذلک کما عرفت إنّما یتحقّق فی الواجبات الکفائیة، لا فی أفراد الواجب کالصلاة والصوم ونحوهما.
وثانیاً: أنّ ما ذکره ـ من استلزام الوجوب لعدمه ـ لا یستلزم خروج الخیرات عن کونها خیرات.
وثالثاً: لو سلّمنا ما ذکره، لکنّه إنّما یصحّ فیما لو کان المطلوب واحداً، وأمّا إذا تعدّد ـ کما إذا فرض للصلاة فردان أحدهما أفضل ـ فلا.
ورابعاً: قد عرفت أنّ التحقیق: أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع لا الأفراد، وما ذکره إنّما یتمّ علی الثانی لا الأوّل، فالحقّ فی الجواب هو ما ذکرناه، مضافاً إلی أنّ مقتضی سیاق الآیتین أنّهما للإرشاد والبعث إلی ما لا یستتبع مخالفته العقاب، مع أنّه لو دلّتا علی الوجوب لزم تخصیص الأکثر؛ لخروج المستحبّات کلّها وکثیر من
[[page 282]]الواجبات، وهو مستهجن.
ثمّ إنّه علی القول بالفور هل المستفاد من الأمر لزوم الإتیان بالمأمور به فوراً ففوراً؛ بمعنی أنّه لو خالف الفور فی الزمان الأوّل وجب فی الزمان الثانی وهکذا، أو أنّ مفاده وجوب الفور فی الزمان الأوّل، فلو خالف لم یجب الإتیان فی الزمان الثانی؟
قد یقال بالأوّل، لکنّه فاسد؛ لأنّ الفوریّة؛ إمّا مستفادة من نفس الأمر، أو من دلیل خارج عنه، وشیء منهما لا یدلّ علی ذلک:
أمّا علی الأوّل: فلأنّ دلیل القائلین بالفور هو أنّ العلل الشرعیّة کالعلل التکوینیّة، فعلی فرض تسلیمه فمعنی عدم انفکاک المعلول عن علّته، هو لزوم فعل المأمور به فوراً، فإن لم یفعله کذلک، وتخلّف المعلول عن علّته، فوجوب فعله فی الزمان الثانی لا وجه له؛ لأنّ الأمر لا یدلّ علیه لا بمادّته ولا بهیئته.
وعلی الثانی: فقد عرفت أنّه لو سلّم دلالة الآیتین علی الفور، فلا دلالة لهما علی وجوب الفعل فیثانی الحال لو ترک الفور؛ لا بمادّتهما ولا بهیئتهما، فأین الدلالة علی ذلک؟!
[[page 283]]