الأمر الخامس فی وضع المجازات
قال فی «الکفایة» : صحّة استعمال اللّفظ فیما یُناسب ما وُضع له، هل هو بالوضع أو بالطبع؟ وجهان، بل قولان : أظهرهما أنّه بالطبع؛ لشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فیه ولو مع منع الواضع عنه... إلی آخره.
أقول : اختلفوا فی باب المجازات علی أقوال :
أحدها : ما هو المشهور بینهم من أنّ اللّفظ فیها مُستعمل فی غیر ما هو الموضوع له لعلاقة کالمشابهة، کما فی الاستعارات أو غیرها، کما فی المجازات المرسلة، ویُسمّی مجازاً لغویّاً، ومجازاً فی الکلمة، فالأسد ـ بناءً علی هذا القول ـ فی «رأیتُ أسداً یرمی» مستعمل فی الرجل الشجاع لعلاقة المشابهة.
الثانی : ما ذهب إلیه السکّاکی من أنّ اللّفظ فی الاستعارات والمجازات مُستعمل فیما وضع له ادّعاءً بادّعاء أنّ «زیداً» ـ مثلاً ـ من أفراد الموضوع له للأسد، فللأسد فردان : حقیقی، وهو المفترس الذی یسکن البادیة، وادّعائی، وهو الرجل الشجاع الذی یسکن الأمصار، فالتصرّف إنّما هو فی أمر عقلی، وهو ادّعاء ما لیس من أفراد الموضوع له حقیقةً أنّه من أفراده، وإلاّ فاللّفظ مُستعمل فیما وُضع له.
[[page 62]]الثالث : ما ذهب إلیه بعض الأجلّة ـ الشیخ محمد رضا الاصفهانی قدس سره ـ وهو أنّ اللّفظ فی المجازات یرادُ به المعنی الموضوع له بالإرادة الاستعمالیّة، ویراد بحسب الجدّ المعنی المناسب للموضوع له، فالأسد فی قولنا : «زیدٌ أسد» مُستعمل فی معناه الحقیقی ـ أی الحیوان المفترس الذی یسکنُ البادیة ـ بالإرادة الاستعمالیة، ولکنّ المراد الجدّی المستکشف بالقرینة هو الرجل الشجاع؛ بدعوی أنّه هو المعنی الحقیقی للأسد.
والفرق بینه وبین قول السکّاکی : هو أنّ اللّفظ ـ بناءً علی هذا القول ـ مُستعمل فی الحیوان المفترس؛ أی الأسد الحقیقی، وعلی قول السکّاکی مُستعمل فی الفرد الادّعائی، فالادّعاء المذکور ـ بناءً علی هذا القول ـ إنّما هو بعد الاستعمال فی المعنی الحقیقی، وعلی قول السکّاکی قبله، وهذا القول الثالث أدقّ وألطف من قول السکّاکی.
فنقول : أمّا القول الأوّل المشهور فهو بمکان من السخافة، وذلک فإنّه لو قُدِّر المضاف فی قوله تعالی : «وَسْئَلِ الْقَرْیَةَ» ـ أی کلمة «أهل»، کما هو المشهور ـ خرج الکلام عن اللّطف والبلاغة والظرافة، وکذلک لو استعمل «الشمس» فی قول الشاعر : «شمس تُظلِّلنی من الشمس» فی شخص بالإرادة الاستعمالیّة، خرج الکلام عن اللطافة، ولا عجب فیه فکأنّه قال : «إنسان یُظللنی من الشمسِ» فإنّ الموجب للتعجّب هو تظلیل الشمس من الشمس، وکذلک قولُ الفرزدق فی وصف الإمام:
هذا الذی تعرفُ البطحاءُ وَطْأتَهُ
والبیتُ یعرفُهُ والحِلُّ والحَرمُ
فإنّه لو قُدِّر فیه الأهل ـ أی أهل البطحاء، وأهل الحرم والحلّ، وأهل البیت ـ خرج الکلام عن اللطافة والحسن والظرافة، بل المراد ـ بالإرادة الاستعمالیّة ـ هو نفس
[[page 63]]البطحاء والبیت والحلّ والحرم، فکأنّه ادّعی أنّه علیه السلام فی مقامه بمکان من الظهور والوضوح والمعروفیّة؛ بحیث تعرفه الجمادات، وهو توصیف بلیغ للإمام علیه السلام ولا یخفی حسنه وبلاغته وظرافته. ومن المعلوم أنّ حسن الاستعارات إنّما هو من جهة المعنی لا اللّفظ، فلا إشکال فی فساد مذهب المشهور فی باب المجازات والاستعارات.
وأمّا قول السکّاکی : فإن أراد أنّ اللّفظ فی الاستعارة والمجاز المُرسَل مُستعمل فی الفرد الادّعائی، وبعد ادّعاء أنّه من أفراد الحیوان المفترس، کما هو مقتضی ظاهر کلامه.
ففیه : أوّلاً : أنّه إنّما یستقیم فی أسماء الأجناس، لا فی الأعلام الشخصیّة، فإنّه إنما یصحّ إذا کان المعنی الحقیقی للّفظ من الطبائع التی لها أفراد، یمکن دعوی فردیّة ما لیس فرداً له حقیقةً من أفراده، ولا یُتصوّر ذلک فی الأعلام الشخصیّة.
وثانیاً : أنّ مرجع ما ذکره إلی القول المشهور؛ لأنّ حاصل ما ذکره : أنّه استعمل اللّفظ فی الفرد الادّعائی ـ أی الرجل الشجاع ـ بادّعاء أنّه من أفراد الأسد، ومن المعلوم أنّ مجرّد الادّعاء لا یُخرجه عن استعمال اللّفظ فی الرجل الشجاع، ولا أثر للادّعاء المذکور أصلاً.
وثالثاً : أنّ الموضوع للفظ «الأسد» هو المعنی الکلّی؛ أی الطبیعی لا الفرد، فاستعماله فی الفرد استعمال فی غیر ما هو الموضوع له، کما هو الشأن فی جمیع أسماء الأجناس.
فالقول الموافق للتحقیق هو القول الثالث، وحاصله : أنّ المراد بالأسد ـ مثلاً ـ فی المثال ـ بالإرادة الاستعمالیّة ـ هو المعنی الحقیقی؛ أی طبیعة الحیوان المفترس، لکن عُلِم بالقرینة أنّ مراد المتکلّم جدّاً هو الرجل الشجاع.
[[page 64]]