المطلب الثالث المنطوق والمفهوم وفیه فصول

أمّا المقام الأوّل

کد : 149258 | تاریخ : 09/02/1394

أمّا المقام الأوّل :

فقال العلاّمة ‏قدس سره‏‏ علیٰ ما حُکی عنه: إنّ کلّ واحد من الشرطین فی الأوّل: إمّا‏‎ ‎‏علّة تامّة مستقلّة فی التأثیر ، أو لهما تأثیرٌ واحدٌ، أو لأحدهما المعیّن، أو الغیر المعیّن،‏‎ ‎‏والأقسام کلّها باطلة، إلاّ الأوّل‏‎[1]‎‏.‏

فقال الشیخ ‏قدس سره‏‏ :‏‏ إنّ مرجع ما ذکره إلیٰ دعاویٰ ثلاثة :‏

أحدها :‏ أنّ کلّ واحد من الشرطین مؤثّر.‏

وثانیها :‏ أنّ أثر الثانی غیر أثر الأوّل .‏

ثالثها :‏ أنّ المُقتَضیٰ لکلّ واحد منهما غیر المقتَضی للآخر.‏

‏ثمّ أطال الکلام فی کلّ واحد من هذه الدعاویٰ :‏

أمّا الاُولیٰ : فاستدلّ لعدم التداخل بمقتضیٰ القواعد اللّفظیّة بوجوه‎[2]‎‏ تبعه فی‏‎ ‎‏کلّ واحد منها بعض الأعاظم :‏

الأوّل : ما تبعه فیه فی «الکفایة» :‏ وهو أنّه لا إشکال فی أنّ الشرط علّة‏
‎[[page 293]]‎‏مستقلّة للجزاء، وقضیّة ذلک تعدُّد الجزاء بتعدُّد الشرط، ومُقتضیٰ إطلاق الجزاء وإن‏‎ ‎‏کان اتّحاده، وأنّه نفس الطبیعة فی کلّ واحد منهما، لکن ظهور الشرطیّة حاکم علیٰ‏‎ ‎‏إطلاق الجزاء؛ لأنّه بیان، والإطلاق إنّما هو فیما لیس فیه بیان، فمقتضیٰ تعدُّد الشرط‏‎ ‎‏هو تعدُّد الجزاء، ویرفع الید عن إطلاق الجزاء، وأنّ الجزاء لکلّ واحد من الشرطین‏‎ ‎‏غیر الآخر‏‎[3]‎‏.‏

الثانی : ما اختاره المیرزا النائینی ‏قدس سره‏‏ حیث قال ما حاصله :‏‏ إنّ الأصل یقتضی‏‎ ‎‏عدم تداخل الأسباب والمسبّبات؛ لأنّ الأمر متعلّق بالجزاء، ومقتضاه هو إیجاد‏‎ ‎‏الطبیعة، والعقل حاکم بأنّ إیجاد الطبیعة یتحقّق بإیجاد فرد واحد منها، فکفایة الإتیان‏‎ ‎‏بالجزاء مرّة واحدة إنّما هو بحکم العقل؛ حیث إنّه اُخِذ بنحو صِرف الوجود، لا أنّه‏‎ ‎‏مقتضیٰ إطلاق الجزاء، لکن لو دلّ دلیل علیٰ أن المطلوب متعدِّد لا یعارضه حکم‏‎ ‎‏العقل؛ لأنّ کلّ مطلوب یتحقّق امتثاله بفرد واحد، وهو لا یُنافی حکم العقل بتحقّق‏‎ ‎‏الطبیعة بإیجاد فرد منها، وأمّا أنّ المطلوب متعدّد أو لا، فلا حکم للعقل فیه، فلو دلّ‏‎ ‎‏ظاهر الشرطین علیٰ تعدُّد المطلوب لم یُعارضه شیء أصلاً‏‎[4]‎‏.‏

وقال المحقّق الأصفهانی‏ صاحب الحاشیة ‏‏قدس سره‏‏ ما یقرب من ذلک؛ حیث قال:‏‎ ‎‏لایخفیٰ أنّ متعلَّق الجزاء نفس الماهیّة المهملة، والوحدة والتکرار خارجان، فهی‏‎ ‎‏بالنسبة إلیٰ الوحدة والتعدُّد لا اقتضاء، بخلاف أداة الشرط، فإنّها ظاهرة فی السببیّة‏‎ ‎‏المطلقة، ولا تعارض بین الاقتضاء واللا اقتضاء، ولکن الماهیّة وإن کانت فی حدّ‏‎ ‎‏نفسها کذلک، إلاّ أنّه لابدّ للمتکلّم الحکیم أن یُلاحظها علیٰ نهج الوحدة أو التعدُّد؛‏‎ ‎‏أی أحدهما معیّناً؛ إذ لا یعقل تعلُّق حکم العقل بالمهمل، فهناک ظهوران متعارضان،‏‎ ‎‏خصوصاً إذا کان ظهور الأداة فی السببیّة المطلقة لا بالوضع.‏


‎[[page 294]]‎فالوجه للقول بعدم التداخل :‏ أنّه إذا عُرضت القضیّتان علی العرف والعقلاء،‏‎ ‎‏یرون أنّ مقام الإثبات ومقام الثبوت مقترنان، ویحکمون بمقتضیٰ تعدُّد السبب بتعدُّد‏‎ ‎‏متعلَّق الجزاء، من غیر التفاتٍ إلی أنّ مقتضیٰ إطلاق المتعلّق خلافه، وهذا المقدار من‏‎ ‎‏الظهور العرفیّ کافٍ‏‎[5]‎‏.‏

الثالث :‏ ما أشار إلیه الشیخ الأعظم ‏‏قدس سره‏‏ ‏وتبعه فیه المحقّق الهمدانی ‏قدس سره‏‏فی‏‎ ‎‏«المصباح» فی باب الوضوء؛ حیث قال: مقتضیٰ القواعد اللفظیّة هو سببیّة کلّ شرط‏‎ ‎‏للجزاء مستقلاًّ، ومقتضاه تعدُّد اشتغال ذمّة المکلّف بتعدُّد سببه؛ لأنّ مقتضیٰ إطلاق‏‎ ‎‏سببیّة کلّ شرط تنجُّزُ الجزاء عند حصوله، ومقتضیٰ تنجُّز الجزاء عند کلّ سبب،‏‎ ‎‏حصولُ اشتغال ذمّة المکلّف بفعل الجزاء بعدد الخطابات المتوجّهة إلیه، فکأنّ المولیٰ‏‎ ‎‏قال فیمثل «إن جاءک زید فأعطِهِ درهماً، وإن أکرمک فأعطِهِ درهماً»: «أعطِهِ درهمین»‏‎ ‎‏لأنّ إعطاء درهم واحد لا یعقل أن یکون امتثالاً لأمرین، إلاّ إذا کان الثانی تأکیداً‏‎ ‎‏للأوّل؛ ولم یوجب اشتغال الذمّة، وهو باطل بعد فرض تأثیر السبب الثانی فی الفعل.‏

‏ثمّ أشار إلی أنّ العلل الشرعیّة کالعلل التکوینیّة، فکما أنّ لکلّ علّة تکوینیّة‏‎ ‎‏معلول خاصّ، فکذلک العلل التشریعیّة‏‎[6]‎‏.‏

‏واستدلّ فی «الدرر»‏‎[7]‎‏ بذلک؛ أی أنّ العلل الشرعیّة کالعلل التکوینیّة.‏

‏وهذه خلاصة الاستدلالات التی ذکرها الشیخ ‏‏قدس سره‏‏ .‏

أقول:‏ لابدّ من ملاحظة أنّ ظهورالجملة الشرطیّة فیحدوث الجزاء عند حصول‏‎ ‎‏الشرط ـ ودلالتها علیٰ ذلک، کما فی «الکفایة» ، أو ظهورها فی أنّ الشرط علّة مُستقلّة‏‎ ‎‏للجزاء، کما عبّر به الشیخ ‏‏قدس سره‏‏ هل هو بالوضع، أو بالإطلاق ومقدّمات الحکمة؟‏


‎[[page 295]]‎‏والاستدلالات المذکورة مبنیّة علیٰ الأوّل؛ أی أنّ الظهور المذکور بوضع الأداة‏‎ ‎‏لذلک، وحینئذٍ فظهور الجملة الشرطیّة حاکم علیٰ ظهور إطلاق الجزاء.‏

‏لکن لیس کذلک، بل کما أنّه یُتمسَّک لوحدة الجزاء بالإطلاق ومقدّمات الحکمة‏‎ ‎‏ـ لا بحکم العقل بقبح العقاب بلا بیان ونحوه ـ کذلک ظهور الجملة الشرطیّة ودلالتها‏‎ ‎‏علیٰ حدوث الجزاء عند حدوث الشرط، إنّما هو بالإطلاق، وأنّ مقتضیٰ الإطلاق فیها‏‎ ‎‏أنّ الشرط علّة مستقلّة للجزاء ـ سواء تقدّم علیه شرط آخر له، أم قارنه، أم تأخّر‏‎ ‎‏عنه ـ لا بالوضع، کما هو واضح.‏

وحینئذٍ فلو قال :‏ «إذا بلت فتوضّأ» فلا تنافی بین إطلاقی الصدر والذیل، وکذا‏‎ ‎‏لو قال: «إذا نمت فتوضّأ» لا تنافی بین إطلاقی صدرها وذیلها، لکن بین الإطلاقات‏‎ ‎‏الأربع فی القضیّتین منافاة، والمعلوم إجمالاً هو رفع الید عن أحد الإطلاقین: إمّا إطلاق‏‎ ‎‏الشرط، أو إطلاق الجزاء، ولیس إطلاق الشرط حاکماً علیٰ إطلاق الجزاء؛ لما عرفت‏‎ ‎‏من أنّ حکومة ظهور الشرط علیٰ الظهور المستفاد من إطلاق الجزاء متوقّفة علیٰ أن‏‎ ‎‏یکون استفادة ظهور الشرط من الوضع، وأنّ أدوات الشرط موضوعة للدلالة علیٰ‏‎ ‎‏الحدوث عند الحدوث، وقد عرفت منعه، وجمیع الوجوه المذکورة مبنیّة علیٰ ذلک.‏

‏وأمّا قیاس العلل الشرعیّة علی العلل التکوینیّة، وأنّه کما یقتضی کلّ واحد من‏‎ ‎‏العلل التکوینیّة معلولاً مستقلاًّ واحداً، فکذلک العلل التشریعیّة.‏

‏فقد عرفت فساده غیر مرّة، وأنّه مع الفارق؛ لأنّ المعلول فی العلل التکوینیّة‏‎ ‎‏تابع لعلّته ولیس قبل المعلول تقدیر له، فالمعلول تمام حیثیّة العلّة، بخلاف العلّة‏‎ ‎‏التشریعیّة، فإنّه یتقدّر المعلول بقدرٍ معلوم أوّلاً، ثمّ یتعلّق به الإرادة، فالعلّة فیها تابعة‏‎ ‎‏للمعلول، فالآمر یُقدِّر المعلول أوّلاً : بأنّه نفس الطبیعة أو الطبیعة المقیَّدة بقید، ثمّ‏‎ ‎‏تتعلّق به إرادته.‏

ثمّ إنّه اعترف بعضهم :‏ بأنّ ظهور الجملة الشرطیة فی الحدوث عند الحدوث،‏
‎[[page 296]]‎‏إنّما هو بالإطلاق ـ أیضاً ـ کما فی الجزاء، کما ذکرناه، لکنّه مع ذلک قدّم إطلاق الشرط‏‎ ‎‏علی إطلاق الجزاء؛ من جهة حکم العقل: بأنّ العلّتین لا یمکن أن تُؤثِّرا فی واحد،‏‎ ‎‏فإطلاق الشرط ـ بضمیمة هذا الحکم العقلیّ ـ مقدَّم علی إطلاق الجزاء، ومقتضیٰ ذلک‏‎ ‎‏هو عدم التداخل، وأنّ الجزاء فی کلّ واحدة من القضیّتین جزاء خاص‏‎[8]‎‏.‏

وفیه : أوّلاً :‏ أنّ الجمع الذی حکموا بأنّه أولیٰ من الترجیح والطرح، هو الجمع‏‎ ‎‏العرفیّ العقلائیّ، وقضیّة عدم تأثیر الاثنین فی واحد حکم عقلیّ مبنیّ علیٰ برهان‏‎ ‎‏دقیق، کما بُیّن فی محلّه‏‎[9]‎‏، ولا یصحّ ابتناء الجمع العرفیّ العقلائیّ علیٰ هذه المسألة‏‎ ‎‏الدقیقة العقلیّة.‏

وثانیاً :‏ لو أغمضنا عن ذلک لکن یمکن أن یُعکس الأمر؛ بأن یقال: إنّ إطلاق‏‎ ‎‏الجزاء ـ بضمیمة هذا الحکم العقلیّ ـ یرجَّح علیٰ إطلاق الشرط ویُقدَّم علیه،‏‎ ‎‏ومُقتضیٰ ذلک هو التداخل.‏

والحاصل :‏ أنّه لابدّ من التخلّص عن مخالفة هذا الحکم العقلیّ، ولا یمکن مع‏‎ ‎‏بقاء إطلاق کلّ واحد من الشرط والجزاء علیٰ حاله، فلابدّ من رفع الید عن أحد‏‎ ‎‏الإطلاقین ـ إطلاق الشرط، أو إطلاق الجزاء ـ ولا ترجیح لرفع الید عن الثانی، بل‏‎ ‎‏هما متساویان.‏

فالحقّ فی تقریر عدم التداخل‏ هو ما اختاره صاحب الکفایة فی الحاشیة: وهو‏‎ ‎‏أنّ المتبادر فی التفاهم العرفیّ فیما إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء: أنّ کلّ واحد من‏‎ ‎‏الشرطین علّة تامّة للجزاء، وأنّ لکلّ واحد منهما جزاءً خاصّاً من دون التفات إلیٰ أنّ‏‎ ‎‏ذلک منافٍ لإطلاق الجزاء‏‎[10]‎‏: إمّا لأجل قیاسهم العلل التشریعیّة علیٰ العلل‏‎ ‎
‎[[page 297]]‎‏التکوینیّة؛ حیث إنّه یترتّب علیٰ کلّ واحد من العلل التکوینیّة معلول خاصّ، کالنار‏‎ ‎‏والشمس للحرارة، فإنّ لکل واحدة منهما حرارة خاصّة، وقد عرفت سابقاً أنّ هذا‏‎ ‎‏القیاس فاسد لکنّه لا یضرّ فی کونه منشأً للمتفاهم العرفیّ.‏

‏وإمّا لأنّهم یرون أنّ بین العلّة ونفس المعلول ارتباطاً ومناسبة، وأنّ فی موت‏‎ ‎‏الهرّة ـ مثلاً ـ فی البئر ونزح عشر دِلاء مناسبة، وکذلک بین موت الفأرة ونزح عشرة،‏‎ ‎‏فیحکمون بنزح عشرین فی موتهما معاً فیه، فکذلک یرون أنّ بین کلّ واحد من النوم‏‎ ‎‏والبول مناسبة مع الوضوء، فیتعدّد وجوب النزح المقدَّر عند تعدُّد الشرط عندهم.‏

‏وعلیٰ أیّ تقدیر فالتفاهم العرفیّ فی ذلک کافٍ فی تقدیم ظهور الشرطیّة ـ فی‏‎ ‎‏تأثیر کلّ واحد منهما أثراً مستقلاًّ ـ علیٰ ظهور إطلاق الجزاء، أو لأظهریّتها منه.‏

لکن أورد علیه بعضهم :‏ بأنّه لاریب فی أنّ الأسباب الشرعیّة علل للأحکام‏‎ ‎‏المتعلّقة بأفعال المکلّفین، لا لنفس الأفعال؛ ضرورة لزوم الانفکاک علیٰ تقدیر علّیّتها‏‎ ‎‏لها، لا لأحکامها، فتعدّدها لا یوجب تعدّد الفعل، وإنّما یوجب تعدُّد معلولها، وهو‏‎ ‎‏الوجوب، وتعدّده لا یدلّ علیٰ وجوب إیجاد الفعل مکرّراً‏‎[11]‎‏.‏

توضیح ذلک :‏ أنّ هیئة الأمر ـ فی قوله : «توضّأ عند صدور البول» ـ موضوعة‏‎ ‎‏للبعث، الظاهر فی أنّه معلول لإرادة حتمیّة، ما لم ینضمّ إلیه قرینة دالّة علیٰ أنّه عن‏‎ ‎‏إرادة غیر حتمیّة، والوجوب مُستفاد من البعث المعلول عن إرادة حتمیّة، فلو قال بعد‏‎ ‎‏ذلک: «إذا نمت فتوضّأ» فهو ـ أیضاً ـ بعث معلول عن إرادة حتمیّة، لکن هذه الإرادة‏‎ ‎‏التی هی علّة لهذا البعث عین الإرادة التی هی علّة للبعث الأوّل، ومع ذلک هذا البعث‏‎ ‎‏غیر البعث الأوّل، والوجوب المستفاد منه غیر الوجوب المستفاد من البعث الأوّل،‏‎ ‎‏لکنّه لا یوجب تعدُّد الوجوب، بل هو تأکید للأوّل، ولیس معنیٰ التأکید أنّه مجاز،‏‎ ‎‏ولا أنّ الهیئة مستعملة فی التأکید، بل الهیئة مستعملة فی البعث إلیٰ الوضوء مثل‏
‎[[page 298]]‎‏الأوّل، ومنشؤهما إرادة حتمیّة، کما هو کذلک فی الأوامر العرفیّة، فإنّه قد یأمر‏‎ ‎‏المولیٰ عبده بشیء، ویُؤکّد أمره بأمر آخر وثالث؛ لمکان أهمّیّة الغرض فی نظره، مع‏‎ ‎‏أنّ إرادته واحدة، والثانی مع أنّه بعث آخر تأکید للأوّل، ولیس معناه أنّه عین‏‎ ‎‏الأوّل. وحینئذٍ فالأمر دائر بین رفع الید عن ظهور إطلاق الشرط المقتضی لتعدّد‏‎ ‎‏الجزاء وبین رفع الید عن إطلاق الجزاء المقتضی لوحدة الجزاء ورفع الید عن ظهور‏‎ ‎‏السیاق فی أنّ الثانی تأسیس المقتضی لتعدد الجزاء، وحیث إنّ ظهور السیاق أهون‏‎ ‎‏من الأوّلین، فالأولی رفع الید عنه بحمل الثانی علی التأکید لا التأسیس. هذا غایة ما‏‎ ‎‏ذکروه من الإشکال.‏

واُجیب عنه بوجوه :

‏الوجه الأوّل :‏‏ ما ذکره الشیخ الأعظم ‏‏قدس سره‏‏ : وهو أنّ ظاهر القضیّة الشرطیّة فی‏‎ ‎‏القضیّتین هو أنّ کلاًّ منهما علّة مُستقلّة لاشتغال ذمّة المکلّف، فالشرط الثانی ـ أیضاً ـ‏‎ ‎‏موجب لاشتغالٍ آخر غیر الاشتغال الحاصل من الأوّل؛ لوجود المقتضی وعدم المانع.‏

‏أمّا وجود المُقتضی فهو ظاهر؛ لأنّ المفروض أنّ کلّ واحد من الشرطین علّة‏‎ ‎‏مُستقلّة لوجوب الوضوء فی المثال.‏

‏وأمّا عدم المانع فلأنَّ المفروض أنَّ الجزاء قابل للتکثُّر، ومقتضیٰ تعدُّد‏‎ ‎‏الاشتغال هو تعدُّد المشتغَل به ـ بالفتح ـ وجوداً وقد فُرض أنّ الشرط علّة للوجوب،‏‎ ‎‏وإنّما یصحّ أن یُجعل الثانی تأکیداً للأوّل لو کان بینهما تقدّم وتأخّر، والشرطان بحسب‏‎ ‎‏الوجود الخارجی کذلک، فیوجد أحدهما بعد الآخر، لکن المناط هو التقدّم والتأخّر‏‎ ‎‏فی مقام الجعل والتشریع، ولیسا کذلک، فإنّ کلّ واحد من النوم والبول فی مقام الجعل‏‎ ‎‏والتشریع فی عَرْض واحد وفی رتبة واحدة، فلا یمکن أن یُجعل أحدهما تأکیداً للآخر.‏

ثمّ ذکر فی آخر کلامه :‏ أنّه لو فرض أنّ أحد الشرطین علّة لجهة، والآخر علّة‏‎ ‎‏لجهة اُخریٰ، متصادقین علیٰ موضوع واحد، أمکن أن یُجعل أحدهما تأکیداً للآخر،‏
‎[[page 299]]‎‏بخلاف ما لو کان الشرطان علّتین لعنوان واحد، وهو وجوب الوضوء، وما نحن فیه‏‎ ‎‏من قبیل الثانی، لا الأوّل‏‎[12]‎‏. انتهیٰ.‏

أقول :‏ أمّا ما ذکره : من أنّ الشرط الثانی علّة لاشتغال آخر فی الذمّة غیر‏‎ ‎‏الأوّل، فقد عرفت سابقاً ما فیه، فإنّه لا یوجب إلاّ اشتغال ذمّته بوجوب الوضوء،‏‎ ‎‏وقد کانت الذمّة مشغولة به، فیقع الثانی تأکیداً للأوّل.‏

‏وأمّا ما أفاده : من أنّه لو فرض أنّ أحد الشرطین علّة لجهة غیر الجهة التی‏‎ ‎‏هی معلولة للآخر، وتصادقا علیٰ موضوع واحد، أمکن أن یُجعل أحدهما تأکیداً‏‎ ‎‏للآخر، ولکن ما نحن فیه لیس کذلک.‏

‏فهو ـ أیضاً ـ کما تریٰ، فإنّه علیٰ فرض کونّ الجزاء لأحد الشرطین غیر ما‏‎ ‎‏للآخر، لم یمکن جعل أحدهما تأکیداً للآخر، فإنّه لو أفطر شخص فی صوم شهر‏‎ ‎‏رمضان بشرب الخمر، لارتکب محرّمین، وخالف تکلیفین، لا أنّه ارتکب حراماً‏‎ ‎‏مؤکّداً لتصادق العنوانین.‏

‏وأمّا ما ذکره : من أنّ الحمل علیٰ التأکید إنّما یصحّ لو تقدّم أحد الشرطین علیٰ‏‎ ‎‏الآخر فی مقام الجعل والتشریع، ففیه : أنّه لیس معنیٰ التأکید : أنّ الثانی مستعمل فی‏‎ ‎‏مفهوم التأکید، بل معنیٰ التأکید هو تکرار مطلب واحد ولو بغیر اللفظ، فلو قال لعبده:‏‎ ‎‏«اُخرج» وأشار بیده إلیٰ الخروج، فهو تأکید لبعثه إلیٰ الخروج؛ للفرق بینه وبین ما لو‏‎ ‎‏اقتصر علیٰ قوله: «اُخرج» بدون الإشارة إلیه بالید، فلو فرض إمکان بعثه إلیٰ شیء‏‎ ‎‏واحد باللفظ مرّتین، فالثانی تأکید للأوّل.‏

فما ذکره :‏ من اعتبار عدم تقارن المؤکِّد والمؤکَّد، واعتبار تقدُّم أحدهما علی‏‎ ‎‏الآخر فی الحمل علی التأکید، أیضاً غیر مُستقیم.‏

الوجه الثانی :‏ ما ذکره الشیخ الأعظم ‏‏قدس سره‏‏ أیضاً : من أنّه یمکن أن یقال بالتزام‏
‎[[page 300]]‎‏أنّها أسباب لنفس الأفعال لا لأحکامها.‏

والاشکال بلزوم الانفکاک یمکن أن یدفع :‏ بالقول بأنّ الجنابة ـ مثلاً ـ سبب‏‎ ‎‏جعلیّ للغُسل، لا عقلیّ ولا عادیّ، ومعنیٰ السبب الجعلیّ هو أنّ لها نحو اقتضاء للغسل‏‎ ‎‏فی نظر الجاعل، علیٰ وجهٍ لو انقدح ذلک فی نفوسنا نجزم بالسببیّة، ویکشف عن ذلک‏‎ ‎‏قول المولیٰ لعبده : «إذا جاء زید من السفر فأضفه»، فإنّ للضیافة نحو ارتباط بالمجیء‏‎ ‎‏من السفر، فالقول بأنّها لیست أسباباً لنفس الأفعال لا وجه له... إلیٰ أن قال:‏

لکن الإنصاف :‏ أنّه ـ أیضاً ـ لایفید، فإنّ معنیٰ جعلیّة السبب لیس إلاّ مطلوبیّة‏‎ ‎‏المسبَّب عند وجود السبب، والارتباط المدّعیٰ بین الشرط والجزاء ـ من حیث إنّ‏‎ ‎‏الجزاء من الأفعال الاختیاریّة ـ معناه : أنّ الشرط منشأ لانتزاع أمر یصحّ جعله غایةً‏‎ ‎‏للفعل المذکور‏‎[13]‎‏.‏

‏وأجاب المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ أیضاً بهذا الجواب الذی ذکره‏‎[14]‎‏ أوّلاً؛ غفلةً عن‏‎ ‎‏رجوعه عنه بما ذکره.‏

الوجه الثالث :‏ الذی ذکره ـ أیضاً ـ بعد الغضّ عن الوجه الثانی، وحاصله: أنّ‏‎ ‎‏مقتضیٰ تأثیر کلّ واحد من الشرطین مستقلاًّ هو الوجوب المستقلّ، بعد فرض أنّها‏‎ ‎‏أسباب للأحکام المتعلِّقة بالأفعال، لا لنفس الأفعال، وإلاّ فتأکّد الوجوب فی ظرف‏‎ ‎‏تکرار الشرط، یستلزم عدم استقلال الشرط فی التأثیر؛ لبداهة استناد الوجوب‏‎ ‎‏المتأکّد إلیهما، لا إلیٰ کلّ واحد منهما، وحینئذٍ فمن المعلوم اقتضاء الوجوبین المستقلّین‏‎ ‎‏وجودین کذلک، ولازم ذلک ـ أیضاً ـ عدم التداخل‏‎[15]‎‏. انتهیٰ.‏

‏والأولیٰ فی وجه القول بعدم التداخل ما ذکرها : من أنّه المتبادر إلی الأذهان‏
‎[[page 301]]‎‏العرفیّة، وهو کافٍ فی إثباته.‏

‏هذا کلّه فی المقام الأوّل أی ما إذا تعدّد جنس الشرط.‏

‎ ‎

‎[[page 302]]‎

  • )) اُنظر مختلف الشیعة 2 : 428 ـ 429 .
  • )) اُنظر مطارح الأنظار : 177 سطر 22 .
  • )) کفایة الاُصول : 240 ـ 242 .
  • )) فوائد الاُصول 2 : 493 .
  • )) نهایة الدرایة 1 : 326 .
  • )) مطارح الأنظار : 180 سطر 17، مصباح الفقیه (کتاب الطهارة) : 126 سطر 5.
  • )) اُنظر درر الفوائد 1 : 174 هامش رقم 1 .
  • )) مصباح الفقیه 1 : 126 سطر 19 .
  • )) الأسفار 2 : 209 ـ 212 .
  • )) اُنظر کفایة الاُصول : 242 هامش 3 .
  • )) اُنظر عوائد الأیّام : 101 سطر 24، وانظر أیضاً مطارح الأنظار : 179 سطر 32.
  • )) اُنظر مطارح الأنظار : 179 ـ 180 السطر الأخیر.
  • )) مطارح الأنظار : 180 سطر 20 .
  • )) مقالات الاُصول 1 : 142 سطر 2 .
  • )) نفس المصدر سطر 10 .

انتهای پیام /*