الفصل الثانی عشر فی مقدّمة الواجب

الأمر الأوّل : فی تنقیح محطّ البحث

کد : 149387 | تاریخ : 11/02/1394

الأمر الأوّل : فی تنقیح محطّ البحث :

‏ولابدَّ أوّلاً من ملاحظة الإرادة الفاعلیة کی یُعلم منها حال الإرادة التشریعیة‏‎ ‎‏فنقول :‏

‏لو أراد شخص شیئاً ، کلقاء صدیقه فی مکان مُعیّن، لاشتیاقه إلیه، فرأی أنّه‏‎ ‎‏یتوقف علی عمل أو أعمال، کالذهاب إلی مکانه، فأرادهُ ـ أیضاً ـ فهنا إرادتان: تعلّقت‏‎ ‎‏إحداهما بذی المقدّمة، أی لقاء الصدیق؛ وثانیهما بالمقدّمة، أی الذهاب إلی مکانه، ولا‏‎ ‎‏فرق بین هاتین الإرادتین إلاّ فی غایتیهما، فإنَّ غایة الاُولی هی لقاء الصدیق الذی هو‏‎ ‎‏المقصود بالذات، وغایة الثانیة الذهاب إلیٰ مکانه، ولیس هو المقصود بالذات، بل‏‎ ‎‏لأجل التوسّل به إلیٰ مقصوده الأصلی وهو لقاء الصدیق، فالإرادة الاُولی نفسیّة،‏
‎[[page 5]]‎‏والثانیة غیریة.‏

‏ومن هذا تعرف ویظهر ما فی قولهم: إنّه یترشّح من إرادة ذی المقدّمة إرادة‏‎ ‎‏اُخریٰ متعلّقة بالمقدّمة‏‎[1]‎‏.‏

‏هذا بالنسبة إلی الإرادة الفاعلیة التکوینیّة.‏

‏أما الإرادة التشریعیّة فالآمر حیث یری أنَّ ایجاد الفعل الفلانی من الغیر ذو‏‎ ‎‏مصلحة، فتتعلّق قوّته الشوقیة به، لکن حیث یری أنّه لا وسیلة له لایجاد الغیر إیّاه‏‎ ‎‏إلاّ بأن یبعثه نحوه ویأمره بإیجاده، ورأی أنَّ إیجاده من الغیر یتوقّف علی وجود شیء‏‎ ‎‏آخر، فینقدح فی ذهنه إرادتان: إحداهما متعلّقة ببعثه إلی ذی المقدّمة، وثانیتهما‏‎ ‎‏بالمقدّمة، کما فی الإرادة الفاعلیة.‏

فنقول :‏ یمکن تصویر محطّ البحث بصور کلّها مخدوشة، فإنّه لو قیل : إنَّ محطّ‏‎ ‎‏البحث هو فی ثبوت المُلازمة الفعلیة بین الإرادة الفعلیة المتعلّقة بالبعث إلی ذی‏‎ ‎‏المقدّمة، وبین الإرادة الفعلیة المتعلِّقة بالبعث إلی المقدّمة، فهو سخیف جدّاً، فإنَّ الآمر‏‎ ‎‏قد یغفل عن المُقدّمات، ولا یتوجّه إلیها کی یریدها فعلاً.‏

‏وکذا القول بأنَّ النزاع فی ثبوت المُلازمة الفعلیة بین الإرادة الفعلیة المتعلِّقة‏‎ ‎‏بذی المقدّمة وبین الإرادة الفعلیة المُتعلِّقة بعنوان المقدِّمة.‏

‏وکذلک لو قیل بأنَّ النزاع إنّما هو فی ثبوت المُلازمة الفعلیة بین البعث الفعلی إلی‏‎ ‎‏ذی المقدّمة وبین البعث الفعلی إلی المقدّمة، أو إلی عنوانها؛ لما ذکرنا من أنَّ المقدّمات‏‎ ‎‏وعنوانها مغفول عنها فی کثیر من الموارد، مع أنَّ الإرادة والبعث إلی شیءٍ یحتاج إلی‏‎ ‎‏خطوره والتصدیق بفائدته وصلاحه وغیر ذلک، والمفروض أنّها مغفول عنها.‏

‏ولو قیل : إنّ البحث إنّما هو فی ثبوت الملازمة الفعلیّة بین الإرادة الفعلیة لذی‏‎ ‎‏المقدّمة وبین الإرادة التقدیریة للمقدّمة بمعنی أنّه لو التفت إلیها أرادها، أو ثبوت‏
‎[[page 6]]‎‏الملازمة الفعلیّة بین البعث الفعلی إلیٰ ذی المقدّمة وبین البعث التقدیری إلی المقدّمة‏‎ ‎‏بالمعنی المذکور، فهو غیر معقول؛ فإنّ الملازمة عبارة عن التضایف، وهو یستدعی‏‎ ‎‏وجود المتضایفین فعلاً، کما فی العلّة والمعلول، ولا یمکن التضایف الفعلی بین الموجود‏‎ ‎‏والمعدوم فإنّ المتضایفین متکافئان فعلاً وقوّة، فالاُبوّة الفعلیّة إنّما تتحقّق مع وجود‏‎ ‎‏الابن، وبدونه لایمکن تحقّقها، وما نحن فیه من هذا القبیل.‏

‏فإن قلت : الیوم مقدّم علی الغد فعلاً، ولا ریب فی أنّ التقدّم ـ أیضاً ـ من‏‎ ‎‏التضایف مع أنّ الغد غیر موجود فعلاً.‏

‏قلت : التقدّم فیه ـ أیضاً ـ غیر معقول، وإطلاق العرف له فیه مسامحة ومن‏‎ ‎‏الأغلاط المشهورة. هذا کلّه لو قلنا بأنّ النزاع فی المسألة عقلیّ.‏

ویظهر من صاحب المعالم :‏ أنّ النزاع فی المسألة لفظیّ؛ حیث استدلّ لعدم‏‎ ‎‏الوجوب بانتفاء الدلالات الثلاث، وأنّ البحث إنّما هو فی دلالة لفظ الأمر وعدمها،‏‎ ‎‏وأنّه لا دلالة مطابقیّة فیه قطعاً؛ لأنّ مادّة الأمر لا دلالة لها إلاّ علی الطبیعة لابشرط،‏‎ ‎‏وهیئته ـ أیضاً ـ لا تدلّ إلاّ علی البعث، وشیء منهما لا یدلّ علیٰ وجوب المقدّمة‏‎[2]‎‏.‏

أقول :‏ وأمّا التضمّن والالتزام فهما لیستا من أقسام الدلالات اللفظیّة، فإنّ‏‎ ‎‏دلالة الالتزام هی دلالة المعنیٰ علی المعنیٰ، فإنّ قولنا: «الشمس طالعة» یدلّ علیٰ‏‎ ‎‏طلوع الشمس بالمطابقة، لکن لمّا استلزم طلوعُ الشمس لوجود النهار یُعلم بالالتزام‏‎ ‎‏أنّ النهار موجود، وکذلک التضمّن. هذا، ولکن یمکن تصویر النزاع العقلی بنحوٍ آخر‏‎ ‎‏بأن یقال: إنّ محطّ البحث إنّما هو فی ثبوت الملازمة الفعلیّة بین إرادة ذی المقدّمة وبین‏‎ ‎‏ما یراه مقدّمة، ولا یرد علیه الإشکالات المذکورة.‏

توضیح ذلک :‏ أنّ الآمر یتصوّر ذا المقدّمة أوّلاً، وأنّ فیه مصلحة وفائدة، ثمّ‏‎ ‎‏یشتاق إلیه، فتتعلّق إرادته به، وهذه المصلحة إنّما هی بنظره، وإلاّٰ فیمکن خطاؤه فی‏
‎[[page 7]]‎‏التشخیص، بل کان ذا مفسدة، ثمّ یریٰ أنّ وجوده یتوقّف علیٰ مقدّمات بنظره،‏‎ ‎‏فیریدها أیضاً، ویمکن خطاؤه فی المقدّمات، وأنّ ما هو الموقوف علیه ذو المقدّمة واقعاً‏‎ ‎‏غیر ما هو الموقوف بنظره. هذا بالنسبة إلیٰ غیر الشارع من الموالی العرفیّة، فإنّ‏‎ ‎‏البحث أعمّ.‏

‏وأمّا بالنسبة إلی الشارع تعالیٰ فإنّ الخطاء فیه غیر متصوّر، فیمکن أن یُقال‏‎ ‎‏بثبوت الملازمة بین إرادة ذی المقدّمة وبین إرادة ما یراه مقدّمة، ویمکن أن یقال‏‎ ‎‏ـ أیضاً ـ بعدم الملازمة، بل یکفی الإرادة الاُولیٰ، والقائل بثبوت الملازمة إنّما یقول‏‎ ‎‏بوجوب الإتیان بالمقدّمة إذا لم یُعلم خطاؤه فی ما یراه مقدّمة، وأمّا مع العلم بخطائه‏‎ ‎‏فلا یجب الإتیان بالمقدّمة التی یراها مقدّمة، بل یجب الإتیان بما هو مقدّمة واقعاً، لکن‏‎ ‎‏بملاک آخر، وهو وجوب تحصیل غرض المولی وإن لم یُردها لخطائه فیها، کما لو غرق‏‎ ‎‏ابن المولی وهو غافل عنه، فإنّه یجب إنقاذه تحصیلاً لغرضه وإن لم تتعلّق إرادته به؛‏‎ ‎‏بحیث لو لم یغفل عنه لَأَراده. وهذا بالنسبة إلیٰ غیر الشارع من الموالی العرفیّة، وإلاّ‏‎ ‎‏فلا یتصوّر الخطاء بالنسبة إلیٰ الشارع المقدّس، فما یراه مقدّمة وهو مقدّمة واقعاً.‏

‏ ‏

‎ ‎

‎[[page 8]]‎

  • )) انظر نهایة الأفکار 1 : 258، کفایة الاُصول : 117 ، فوائد الاُصول 1 : 385 و387.
  • )) اُنظر معالم الدّین : 61.

انتهای پیام /*