التمسّک بالاستصحاب لإثبات وجوب باقی الأجزاء
وربّما یتمسّک لإثبات وجوب الباقی الفاقد للجزء أو الشرط المتعذّرین بالاستصحاب، وقرّر بوجوه لا یخلو جمیعها عن الإشکال :
الأوّل : استصحاب أصل الوجوب الجامع بین النفسی والغیری بعد تعذّر الجزء أو الشرط، فإنّ الوجوب کان متیقّناً قبل عروض العجز عن الجزء، وبعد طروّه وإن علم بارتفاع هذا الفرد من الوجوب الغیریّ المتعلّق بالباقی، لکن یشکّ فی حدوث وجوب نفسیّ آخر للباقی مقارناً لارتفاع الأوّل، فیستصحب أصل الوجوب الجامع مع قطع النظر عن کونه نفسیّاً أو غیریّاً، فیجب الإتیان بالباقی.
الثانی : استصحاب بقاء الوجوب الضمنی المتعلّق بالباقی؛ للعلم به قبل
[[page 542]]عروض التعذّر فی ضمن وجوب الکلّ، وهو وإن ارتفع قطعاً بارتفاع الوجوب النفسی المتعلّق بالکلّ بعد عروض التعذّر، لکن یحتمل حدوث وجوب نفسیّ آخر متعلّق بالباقی حین ارتفاع الأوّل، والمراد استصحاب أصل الوجوب، لا الوجوب النفسی الخاصّ.
ولکن یرد علی هذین الوجهین من الاستصحاب ما تقدّم سابقاً : من أنّه یعتبر فی الاستصحابات الموضوعیّة ترتُّب أثرٍ شرعیٍّ علی المستصحب، أو کون المستصحب نفسه حکماً شرعیّاً، والجامع بین الوجوب النفسی والغیری أو الضمنی والنفسی لیس کذلک، فإنّه لیس أمراً مجعولاً شرعیّاً؛ لأنّ المجعول هو الوجوب النفسی أو الغیری، لا الکلّی الجامع بینهما، فإنّه أمر انتزاعیّ منتزع من أفراده المجعولة، ولایترتّب علیه أیضاً أثر شرعیّ، مضافاً إلی أنّ الجامع الحقیقیّ بین المعانی الحرفیّة غیر معقول ـ کما حُقّق فی محلّه ـ بل الجامع بینها معنیً عرضیّ اسمیّ منتزع من هذا وذاک.
مع أنّه علی فرض تسلیم ثبوت الوجوب الغیریّ للأجزاء، فهو لکلّ واحدٍ من أجزاء المرکّب، لا لمجموع الأجزاء؛ لتوقّف المرکّب علی کلّ واحدٍ منها، فلیس لمجموع هذه الأجزاء وجوب غیریّ حتّی یستصحب ، وأمّا استصحاب وجوب هذا وذاک فهو مقطوع الارتفاع، والمراد إثبات الوجوب النفسی للباقی.
الثالث : استصحاب شخص الوجوب النفسی المتعلّق بالصلاة ـ مثلاً ـ بدعوی أنّ الموضوع ـ أی الأجزاء العشرة ـ وإن لم یکن باقیاً عقلاً بتعذّر بعض الأجزاء، لکنّه باقٍ عرفاً، فیقال: إنّ هذه الأجزاء التسعة هی التی تعلّق بها الوجوب، فالأصل بقاؤه؛ للشکّ فیه من جهة احتمال دخالة الجزء المتعذّر فی الوجوب، کما
[[page 543]]هو الشأن فی جمیع موارد الاستصحابات، کما فی استصحاب عدالة زید.
وفیه : أنّ القضیّة المتیقّنة والموضوع فی مثل استصحاب العدالة هو الهویّة الشخصیّة الخارجیّة، وهی باقیة حقیقةً فی ظرف الشکّ، وإنّما الشکّ لأجل زوال حالةٍ احتمل دخالتها فیه، وإلاّ فالموضوع لم یتبدّل حقیقةً، بخلاف العناوین والمفاهیم الکلّیّة، فإنّ عنوان الفرس ـ مثلاً ـ بقید أنّه عربیّ یُغایر الفرس مع قید الأعجمی ـ مثلاً ـ لعدم انطباق أحدهما علی الآخر، ولذا لو باعه کذلک، فأقبضه ما لیس فیه هذا القید، فإنّه لایوجب الخیار مع صحة البیع، بخلاف ما لو باع الفرس الخارجی بشرط العربیّة، فانکشف کونه عجمیّاً، فإنّ له الخیار؛ لبقاء المبیع وصدقه، وإنّما المتخلّف شرطه وقیده، بخلاف الأوّل، ولذلک یکون جمیع قیود العناوین الکلّیّة مقوّمات.
وبالجملة : فرق بین العناوین الکلّیة وبین الهویّات الشخصیّة الخارجیّة، وما نحن فیه من قبیل الأوّل، فالصلاة بقید أنّها مع السورة تغایر الصلاة بدونها عقلاً وعرفاً، والمعلوم وجوبه هو الأوّل، والمشکوک فیه هو الثانی، فلا تتّحد القضیّة المتیقّنة مع المشکوکة.
مضافاً إلی أنّ جریان الاستصحاب فی مثل عدالة زید أو کُرّیّة الماء أو نجاسة الماء المتغیّر بعد زوال التغیّر بنفسه، إنّما هو لأجل احتمال عدم دَخْل الصفة الزائلة ـ أی التغیّر فی المثال الأخیر ـ فی البقاء ودخلها فی الحدوث فقط، ولهذا لا إشکال فی جریان الاستصحاب فیها، بخلاف ما نحن فیه؛ لأنّ الإرادة کانت متعلّقة بعشرة أجزاء ـ مثلاً ـ ومع تعذُّر بعضها لابقاء لها بشخصها، فهی مقطوعة الارتفاع، والمحتمل هو حدوث حکم آخر للباقی، فهذا الاستصحاب من قبیل استصحاب القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الکلّیّ، لا القسم الأوّل.
[[page 544]]الرابع : أنّ الأمر المتعلّق بالصلاة المرکّبة من الأجزاء المتعدّدة منبسط علی جمیع أجزائها، فإذا تعذّر بعضها یشکّ فی بقاء الوجوب المتعلّق بالباقی وعدمه وسقوطه رأساً، فیستصحب ، ولا یحتاج حینئذٍ إلی دعوی التسامح فی بقاء الوجوب، ولا فی بقاء الموضوع؛ لأنّ المقصود هو استصحاب نفس الوجوب المتعلّق بالباقی بالانبساط حقیقةً، وبقاء الموضوع أیضاً حقیقة، وإنّما احتمل ارتفاع وجوب الباقی بارتفاع وجوب الجزء المتعذّر.
وفیه : أوّلاً : أنّ القول بانبساط الوجوب علی الأجزاء لایرجع إلی معنیً محصّل صحیح؛ لأنّه إن اُرید منه : أنّ الأمر المتعلّق بالطبیعة یدعو إلی الأجزاء الکثیرة فهو صحیح، فإنّ المطلوب الملحوظ أمر وحدانیّ؛ أی الأجزاء فی لحاظ الوحدة، والملحوظ ـ أی ما تعلّق به الأمر ـ وإن کان هو الصلاة لا الأجزاء، لکن لیست حقیقة الصلاة إلاّ عبارة عن تلک الأجزاء، فالأمر المتعلّق بالصلاة یدعو إلی أجزائها، وحینئذٍ فلامعنیٰ للاستصحاب المذکور؛ لأنّه لیس هنا إلاّ أمر واحد ووجوب واحد متعلّق بأمر واحد مرکّب، ینعدم بانعدام کلّ واحد من أجزائه، ولا یعقل دعوة الأمر بالکلّ إلی الباقی من الأجزاء بعد تعذّر بعضها، ولیس هنا أوامر متعدّدة ووجوبات عدیدة بعدد الأجزاء، فإنّ الأمر لا یدعو إلاّ إلی ما تعلّق به، وهو المرکّب، ولا یعقل دعوته إلی غیر ما تعلّق به، وحینئذٍ فالتکلیف الأوّل مرتفع قطعاً بتعذّر الجزء، والمحتمل حدوث تکلیف آخر متعلّق بالباقی، فهو من قبیل القسم الثالث من أقسام استصحاب الکلّی.
ومن هنا یظهر ما فی قیاس المحقّق العراقی قدس سره ما نحن فیه بالبیاض الشدید؛ حیث إنّه یمکن استصحاب بقاء شخصه مع زوال بعض مراتبه؛ للفرق بینهما؛
[[page 545]]حیث إنّ شخص البیاض موجود فی الخارج بجمیع مراتبه مع تبدّلها، والإرادة والبعث والطلب لیست کذلک إذا تعلّقت بالمجموع، فإنّها تنتفی بانتفاء بعض المجموع قطعاً.
وإن اُرید الانبساط الحقیقی، فانبساط الإرادة علی الأجزاء تابع للإرادة المتعلّقة بالمجموع، ویدور معها وجوداً وعدماً، ومع عدمها وانتفائها تنتفی الإرادة المنبسطة علی الأجزاء؛ لعدم استقلالها، فلا یعقل انبساط الإرادة علی الأجزاء مع انتفاء هذه الإرادة.
هذا کلّه فی مقتضی الاُصول .
[[page 546]]