الاستدلال بالکتاب
أمّا الآیات فهی علیٰ طوائف :
الأوّل : ما دلّ علی النهی عن التقوّل بغیر العلم.
وتقریب الاستدلال : أنّ الحکمَ بالبراءة وجواز ارتکاب الشبهة المذکورة قولٌ بغیر علم، وهو منهیٌّ عنه.
ویظهر من الشیخ الأعظم قدس سره الاعتراف بذلک؛ حیث قال قدس سره : فإنّ الحکم بترخیص الشارع لمحتمل الحرمة قول بغیر علم وافتراء؛ حیث إنّه لم یأذن فیه، ولا یرد ذلک علیٰ أهل الاحتیاط؛ لأنّهم لا یحکمون بالحرمة، وإنّما یترکون لاحتمال الحرمة، وهذا بخلاف الارتکاب، فإنّه لا یکون إلاّ بعد الحکم بالرخصة والعمل بالإباحة.
لکن فیه ما لایخفیٰ، فإنّ محطّ البحث بین الاُصولی والأخباری لیس مجرّد
[[page 284]]ترک الأخباری للمشتبه فی مقام العمل وارتکاب الاُصولی لها، بل محطّ البحث هو جواز الإفتاء والحکم بجواز ارتکاب الشبهة وتجویز الشارع له وعدمه، والأوّل دعویٰ الاُصولی، والثانی دعویٰ الأخباری، وکلٌّ منهما إفتاء ونسبة إلی الشرع.
فلو أجاب الأخباری : بأنّ القول بوجوب الاحتیاط وعدم جواز الارتکاب لیس قولاً بغیر علم؛ لقیام الحجّة من العقل والشرع علیه، نقول: القول بالبراءة ـ أیضاً ـ لیس بغیر علم؛ لاعتماد الاُصولی علیٰ مثل حدیث الرفع الصحیح سنداً التامّ دلالةً، وحکمِ العقل بقبح العقاب بلا بیان، غایة الأمر أنّ أدلّة الاُصولی والأخباری تتعارضان، وهو کلام آخر.
وبالجملة : ما ذکره الشیخ قدس سره فی المقام غیر مستقیم.
مضافاً إلیٰ أنّه لا یصحّ للأخباری أو مَن قِبَله الاستدلال لمذهبه بظواهر الکتاب؛ لعدم حجّیّته عنده، فکیف یُتمسّک بها؟!
الثانی : الآیات الآمرة باتّقاء الله ، مثل: «اتَّقُوا الله حَقَّ تُقاتِهِ»، «وَجَاهِدُوا فی الله ِ حَقَّ جِهادِهِ».
وأجاب شیخنا الحائری قدس سره عنها : بأنّها تشمل المندوبات وترک المکروهات، مع أنّه لاریب فی عدم وجوبهما، فیدور الأمر بین تقیید المادّة بغیرهما وبین التصرّف فی هیئة الطلب؛ بحملها علیٰ إرادة مطلق الرجحان؛ حتّیٰ لا تنافی ترکَ المندوب وفعل المکروه، ولا إشکال فی عدم أولویّة الأوّل إن لم نقل بأولویّة الثانی من جهة کثرة استعمالها فی غیر الوجوب حتّیٰ قیل: إنّها صارت من المجازات
[[page 285]]الراجحة المساوی احتمالها لاحتمال الحقیقة. انتهیٰ.
أقول : ما ذکره قدس سره لا یخلو عن الإشکال :
أمّا أوّلاً : فلأنّ الاتّقاء ـ فی العرف واللُّغة ـ لا یشمل فعل المندوبات وترک المکروهات؛ بمعنیٰ أنـّه لا دَخْل لفعل المندوبات وترک المحرّمات فی تحقّق التقویٰ، بل الاتّقاء یتحقّق بفعل الواجبات وترک المحرّمات، فلو أتیٰ المکلّف بجمیع الواجبات وترک جمیع المحرّمات، واجتنب المشکوکات؛ بالإتیان بما شُکّ فی وجوبه وترکِ المشکوک حرمته، یصدق علیه: أنّه اتّقیٰ حقّ التقاة وإن ترک جمیع المندوبات، وارتکب جمیع المکروهات، ولا یصدق الاتّقاء مع عدم الاجتناب عن المشکوکات وإن فعل جمیع المندوبات، وترک جمیع المکروهات.
وبالجملة : لا دخل لفعل المندوبات وترک المکروهات فی صدق الاتّقاء حقّ التُّقاة.
وثانیاً : أنّ استعمال هیئة الطلب فی المندوبات وإن کان کثیراً ومن المجازات الراجحة، لکن استعمالها فی الوجوب ـ أیضاً ـ کثیر لو لم یکن أکثر، ولیس ذلک مثل استعمال المطلق فی إطلاقه؛ لنُدرته جدّاً، لتقیید أکثر المطلقات.
فالأولیٰ أن یقال فی وجه ترجیح حمل الهیئة علیٰ الاستحباب : هو أنّ الآیات الشریفة المذکورة تشمل جمیع الشبهات الوجوبیّة والتحریمیّة والحکمیّة والموضوعیّة، وسیاقها آبٍ عن التخصیص، بل تخصیصها ـ بإخراج الشبهات الوجوبیّة مطلقاً والتحریمیّة الموضوعیة ـ مستهجَن مستبشَع، فالأمر دائر بین ارتکاب ذلک التخصیص الأکثر المستهجن بتقییدها بالشبهة التحریمیّة التکلیفیّة فقط، وخروج سائر الشبهات عنها، وبین حمل الهیئة فیها علی الاستحباب، ولاریب فی أنّ المتعیّن هو الثانی.
[[page 286]]مضافاً إلیٰ أنّ الآیات الشریفة تشمل مقطوعَی الحرمة والوجوب، ومن المعلوم أنّ الأمر بالاتّقاء بالنسبة إلیهما إرشادیّ مثل الأمر فی «أطِیعُوا الله َ وَأطِیعُوا الرَّسُولَ»، وحینئذٍ فهذه الأوامر لیست مولویّة.
الثالث : ومن الآیات التی تمسّک بها الأخباریّون : قوله تعالیٰ: «وَلاَ تُلْقُوا بأیدِیکُمْ إلیٰ التَّهْلُکَةِ»، ولکن الظاهر أنّ المراد من التهلکة الفساد؛ بطغیان الفقراء لفقرهم الناشئ عن ترک الأغنیاء أداءَ حقوقهم وعدم إنفاقهم علیهم وإعانتهم؛ بقرینة ما قبلها فإنّ صدر الآیة قوله تعالیٰ: «وَأَنْفِقُوا فی سَبِیلِ الله ِ وَلاَ تُلْقُوا بِأیْدِیکُمْ إِلیٰ التَّهْلُکَة وَأَحْسِنُوا إنَّ الله َ یُحِبُّ المُحْسِنینَ»، فإنّه من المحتمل بقرینة صدر الآیة أنّ المراد بالتهلکة ما ینشأ من عدم إنفاق الأغنیاء؛ لعدم دفع الزکوات والصدقات إلیهم، الموجب لِنشو الفساد منهم، کما فی زماننا هذا، وإلاّ فلو اُرید من التهلکة العقاب الاُخروی فلابدّ من إثباتها فی مورد الشبهة؛ حتیٰ تشمله الآیة، وإثباتها بالآیة دور واضح.
الرابع : قوله تعالیٰ: «فَإِنْ تَنَازَعْتُم فی شَیءٍ فَرُدُّوهُ إلیٰ الله وَالرَّسُولِ».
وفیه : أنّ الآیة غیر مربوطة بالمقام، بل مربوطة بباب المحاکمة والتنازع.
نعم لو اُرید من قوله «تَنَازَعْتُمْ» نحو تردّدتم أو شککتم أمکن الاستدلال بها فی المقام، ولکنّه ممنوع.
فتلخّص : أنّ الآیات لا تدلّ علیٰ مطلوب الأخباریّین، مضافاً إلیٰ ما تقدّم من عدم حجّیّة الظواهر عندهم، فکیف یتمسّکون بها فی المقام وغیره؟!
[[page 287]]