المسألة الثالثة : فی کفایة الامتثال الإجمالی مع إمکان التفصیلی
هل یکفی الامتثال الإجمالی؛ بالإتیان بأطراف المعلوم بالإجمال، مع التمکّن من الامتثال التفصیلی، أو لا؟
وقبل الشروع فی البحث لابدّ أوّلاً من بیان محطّ البحث ومحلّ النزاع، فنقول: محطّ البحث إنّما هو فی القطع الطریقی المحض الذی هو کالقطع التفصیلی الطریقی المحض من غیر فرق بینهما فی ذلک إلاّ بالإجمال والتفصیل، وحینئذٍ یقع البحث فی أنّه: هل یکفی الامتثال الإجمالی ـ مع التمکّن من الامتثال التفصیلی ـ بالإتیان بجمیع الأطراف، ولا یقدح الإجمال فی متعلّق التکلیف، أو أنّ التردید والإجمال فیه قادح فی تحقّق الامتثال حینه؟
ومنه یظهر الإشکال فی ما حکاه المحقّق العراقی قدس سره عن بعضهم حیث ذکر هنا من الأدلّة لعدم الکفایة اشتراطَ نیّة الوجه أو التمییز أو احتماله، بل ذکر: أنّ هذا عمدة الإشکالات وأهمّها؛ لعدم تحقّق قصد الوجه معه، وعدم جریان البراءة العقلیّة لأجل احتمال اعتبار قصد الوجه، فلا یحکم العقل بعدم اعتباره، ولا یمکن التمسُّک بالإطلاق ـ أیضاً ـ فیه. انتهیٰ ملخّص کلامه قدس سره.
وذلک لما عرفت من أنَّ البحث فی باب القطع ممحّض فی قدح الإجمال
[[page 70]]ـ فی متعلّق التکلیف ـ فی تحقُّق الامتثال وعدمه، فإنّه المناسب لباب القطع، ولا البحث فی اعتبار نیّة الوجه وعدمه، فإنّه بحث فقهیّ لا ارتباط له بالمقام ـ أی باب القطع ـ وکذلک جریان البراءة وعدمه، فإنّه مربوط بباب البراءة والاشتغال، وکذلک البحث فی الإطلاق وعدمه فإنّه مربوط بباب المطلق والمقیّد، وکذلک القطع الموضوعی، فالبحث هنا ممحّض فی أنّه هل یکفی الامتثال الإجمالی أو لا، مع قطع النظر عن اعتبار قصد الوجه والتمییز؟
فنقول : لا إشکال فی کفایته فی التوصُّلیّات، وإنّما الکلام فی العبادات، فاستُدلّ علیٰ عدم کفایته فیها بوجهین :
الأوّل : أنّه لعب وعبث بأمر المولیٰ، فإنّه لو علم إرادته لشیء إجمالاً، لکنّه لا یعلم به تفصیلاً، فأتیٰ العبد بجمیع ما یحتمل إرادته من الاُمور المتضادّة والمتخالفة، فلاریب فی أنّه یُعدّ مستهزئاً بالمولیٰ لا ممتثلاً.
وفیه : أنّ ذلک مغالطة فی المثال، فإنّه لو علم بأنّ المولیٰ عطشان، وأنّه أراد الإتیان بالماء، ولکنه لا یعلم أنـّه أراده من هذا الإناء أو ذاک، فأتاه العبد بالإناءین، فلاریب فی تحسین ذلک عرفاً، وعدّه ممتثلاً لإرادة المولیٰ، لا لاعباً وعابثاً فی أمره، والمفروض أنّ الداعی له علیٰ ذلک هو الامتثال وإطاعة المولیٰ حقیقة، لا الاستهزاء والسخریة بالمولیٰ، بل یمکن أن یقال ـ کما فی «الکفایة» ـ : إنّه لو کان قاصداً للامتثال فی أصل العمل، ولاعباً فی کیفیّته، کما لو فعل الصلاة فی مکان غیر متعارف؛ لیضحک الناس، لکن داعیه إلیٰ أصل الإتیان هو امتثال أمره، فلا إشکال فیه علیٰ ما اخترناه من عدم قدح الضمائم المحرّمة فی النیّة، فضلاً عن المباحة والراجحة.
[[page 71]]الثانی من الوجهین : ما ذکره بعض الأعاظم ـ المحقّق النائینی ـ وحاصله :
أنّ للامتثال والإطاعة عند العقل أربع مراتب :
الاُولیٰ : الامتثال التفصیلی؛ سواء کان بالعلم الوجدانی أم بالطرق والأمارات، فإنّ الامتثال بالظنون الخاصّة فی حکم الامتثال الوجدانی.
الثانیة : الامتثال العلمی الإجمالی فی الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالی.
الثالثة : الامتثال الظنّی؛ سواء فی ذلک الظنّ الذی لم یقم دلیل علیٰ اعتباره، أم کان هو دلیل الانسداد.
الرابعة : الامتثال الاحتمالی، کما فی الشبهات البدویّة والمقرونة بالعلم الإجمالی عند تعذّر الامتثال العلمی الإجمالی أو الظنّی، ولا إشکال فی أنّه لاتصل النوبة إلیٰ الامتثال الاحتمالی إلاّ بعد تعذُّر الامتثال الظنّی، ولا تصل النوبة إلیٰ الامتثال الظنّی إلاّ بعد تعذُّر الامتثال العلمی الإجمالی.
وإنّما الإشکال فی المرتبتین الأوّلتین: فقیل: إنّهما فی عرض واحد، وقیل بتقدیم مرتبة الامتثال التفصیلی مع الإمکان علیٰ الامتثال الإجمالی، وهو الأقویٰ فیما إذا استلزم تکرار العمل، فإنّ حقیقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولیٰ؛ بحیث یکون الداعی له نحو العمل هو تعلّق الأمر به وانطباق المأمور به علیه، وهذا المعنیٰ لا یتحقّق فی الامتثال الإجمالی، فإنّ الداعی له نحو العمل بکلّ واحد من فردی التردید، لیس إلاّ احتمال تعلّق الأمر به، فإنّه لا یعلم انطباق المأمور به علیه بالخصوص، نعم بعد الإتیان بکلا فردی التردید یعلم بتحقّق ما ینطبق علیه المأمور به، لکن الانبعاث لیس عن بعث المولیٰ، فلیس هو إطاعة حقیقیّة؛ لما عرفت من أنّه یُعتبر فی حقیقتها أن یکون الانبعاث عن البعث.
فإن قلت : فی صورة الامتثال الاحتمالی ـ أیضاً ـ الباعث نحو العمل هو الأمر المحتمل، فلابدّ أن یُعدّ إطاعة.
[[page 72]]قلت : لایمکن ذلک؛ لأنّه لو کان للداعی جزءان : أحدهما الأمر، وثانیهما احتماله، فلابدّ من إحراز کلا الجزءین؛ حتیٰ یتحقّق الانبعاث، ومع إحراز الجزء الأوّل ـ وهو الأمر ـ لا یبقیٰ الجزء الثانی بل ینتفی؛ لتحقّق القطع بالآخر.
وإن قلت : إذا قطع بالأمر، فانبعث منه، فانکشف خطاؤه وعدم إصابة قطعه للواقع، فلیس هذا الانبعاث عن البعث الواقعی؛ لأنّ المفروض عدمه مع تحقّق الانبعاث فی الفرض، فلیس الباعثُ والداعی للانبعاث فی صورة القطع ـ أیضاً ـ الأمرَ الواقعی، نظیر ما لو قطع بوجود الأسد الذی یُخاف منه، فإنّ الخوف مسبّب عن العلم بالأسد، لا نفس الأسد؛ فإنّ کثیراً ما یوجد الأسد مع عدم العلم به، ولا یحصل الخوف، وکثیراً ما یحصل الخوف مع العلم بالأسد مع خطاء علمه.
قلت : لیس کذلک، فإنّ القاطع حیث یریٰ الواقع، وینکشف لدیه، یکون الباعث له هو نفس الواقع، أمّا فی صورة مصادفة القطع للواقع فواضح، وأمّا فی صورة عدم المصادفة فالباعث له ـ أیضاً ـ توهُّم الواقع وتخیُّله، وقضیّة الخوف ـ أیضاً ـ کذلک، فإنّ الذی یُخاف منه هو الأسد أو توهّمه، لا العلم به. انتهیٰ.
أقول : أمّا ما ذکره : من عدم الإشکال فی عدم کفایة الامتثال الاحتمالی، ففیه: أنّه قدس سره توهّم أنّ المراد بالامتثال الاحتمالی : هو أن یأتی بأحد أطراف العلم الإجمالی حسبُ، ویکتفی به مطلقاً، لکن لیس المراد منه ذلک، بل المراد من الامتثال الاحتمالی: هو ما إذا أتیٰ به باحتمال أنّه المأمور به، فانکشف بعد الفراغ أنّه هو المأمور به، فمُدّعی کفایته یقول بعدم لزوم الإتیان بسائر الأطراف، لا أنّه یدّعی کفایته مطلقاً؛ سواء انکشف الخلاف أم لا.
والحقّ هو کفایته ؛ ألا تریٰ أنّه لو ظنّ أو احتمل التکلیف لشبهة بدویّة، فأتیٰ
[[page 73]]به لاحتمال التکلیف أو ظنّه، فبدا له أنّه المأمور به واقعاً، فإنّه لاریب فی کفایته وعدم وجوب إعادته.
وأمّا ما أفاده فی بیان عدم کفایة الامتثال الإجمالی، فنقول : هنا مطالب :
الأوّل : الکلام فی الکبریٰ الکلّیّة التی ذکرها، وهی أنّ حقیقة الإطاعة هو الانبعاث عن البعث الحقیقی.
الثانی : أنّه هل یعتبر فی تحقّق الامتثال قصد الإطاعة أو لا؟
الثالث : فی کیفیّة تحقّق الامتثال الإجمالی.
أمّا الأوّل : ففیه أنّا قد نریٰ بالعیان أنّه قد ینبعث المکلّف إلیٰ الامتثال؛ باحتمال التکلیف فی الشبهة البدویّة، فیصادف الاحتمال الواقع، فإنّه لاریب فی صدق الامتثال علیه، وأنّه أطاع المولیٰ، ولا یجب علیه الإتیان به ثانیاً بعد الانکشاف، بل یمکن أن یقال: بأنّه أولیٰ بأن یعدّ مطیعاً وممتثلاً ممّن امتثل مع العلم بالتکلیف.
أضف إلیٰ ذلک : أنّ الداعیَ لبعض المکلّفین للإتیان بالمکلّف به وعبادته تعالیٰ، هو استحقاقه تعالیٰ للإطاعة، ولبعضٍ آخر الخوفُ من النار، ولبعضٍ ثالث الرجاءُ والطمع فی المثوبة ونِعم الله تعالیٰ فی الجنان، فالداعی لهم لیس هو الأمر الواقعی، فلیس مجرّد الأمر والبعث باعثاً للعبد نحو الفعل.
ثمّ علیٰ فرض تسلیم ذلک، وأنّ الإطاعة لا تتحقّق إلاّ مع العلم بالبعث، لکن الداعی والباعث علیٰ الإتیان بأطراف العلم الإجمالی والامتثال الإجمالی، هو التکلیف المعلوم الواقعی إجمالاً، فإنّه یأتی بکلّ واحد من الأطراف بداعی امتثال ذلک التکلیف المعلوم واقعاً.
مضافاً إلیٰ أنّا لا نُسلّم لزوم قصد الطاعة فی تحقّق الامتثال، وکذلک قصد
[[page 74]]الأمر، بل تقدّم فی مسألة التزاحم أنّه لا یحتاج فی تحقّق الامتثال إلیٰ وجود الأمر وتعلّقه بالطبیعة، بل یکفی الحسن الذاتی لو لم نقل بالترتّب فی قبال شیخنا البهائی قدس سره فلایصحّ ما ذکره فی المقام.
هذا تمام الکلام فیما یتعلّق بالقطع .
[[page 75]]
[[page 76]]