إشکال عقلی لبعض الأعاظم وجوابه
ذکر بعض الأعاظم فی المقام إشکالاً عقلیّاً، بعد أن قسّم العقود بلحاظ اعتبار الموالاة وعدمه فیها إلی ثلاثة أقسام :
قسم یعتبر فیها جزماً، وهی العقود المشتملة علی المعاوضة کالبیع، وفی حکمها النکاح.
وقسم لا یعتبر فیها جزماً، وهی العقود الإذنیّة، کالوکالة والعاریة والأمانة ونحوها.
وقسم محلّ إشکال، وهی العقود الخارجة عن هذین القسمین، کالهبة مثلاً.
وذکر ذلک الإشکال فی القسم الأوّل منها، وقال ما محصّله:
حیث إنّ هذه العقود خلع ولبس وإیجاد العُلقة بین الشخص والملک.
[[page 210]]وبعبارة اُخری : حیث إنّ المعاوضة لاتتمّ إلاّ بتبادل الإضافات، فلابدّ من المقارنة بین الإیجاب والقبول، وإلاّ لزم تحقّق الإضافة بدون المضاف إلیه، فإنّ المفروض خلع لموجب الإضافة عن نفسه وعدم حصول اللبس بالنسبة إلی القابل، فیلزم وجود الإضافة بدون المضاف إلیه.
وفیه أوّلاً : لو تمّ هذا الإشکال فلا وجه للتردید فی مثل الهبة من العقود؛ باعتبار أنّ العقلاء لایرون اعتبار التوالی فیها، فإنّ الإشکال العقلی لو تمّ لعمّ، فما ذکره فی هذا القسم من العقود لا محصّل له.
وثانیاً : ما المراد بالعقود الإذنیّة فی کلامه؟ فلو کان المراد منه الإذن نفسه، فلیس هو من العقود حتّی یحتاج إلی الإیجاب والقبول، فضلاً عن اعتبار التوالی بینهما، بل هو إیقاع محض، ولو کان المراد منها بعض العقود کالوکالة والعاریة، فإطلاق الإذن علی ذلک لایخلو عن مسامحة، فإنّ الإذن من أحکامه، لا فی قوامه، کما لایخفیٰ، علی أنّ الإشکال المذکور فی القسم الأوّل یجری فی ذلک أیضاً، ولاسیّما العقلائیّ منه، فلاحظ.
وثالثاً : الخلع واللبس ـ وبعبارة اُخری : تبادل الإضافتین ـ غیر معقول فی نفسه، فإنّ الإضافة الشخصیّة ـ التی تمام حقیقتها وهویّتها قائمة بشخص خاصّ وملک خاصّ ـ لایعقل قیامها بغیرذلک، فکیف یمکن تصوّر خلعها ولبس الآخرلها؟!
وبعبارة اُخری : بمجرّد الخلع لاتبقی إضافة حتّی یلبسها الآخر.
ورابعاً : لو سلّمنا ذلک وأغمضنا عمّا فیه، فالمالک بعد الخلع یکون أجنبیّاً عن الملک، فکیف یلبس الآخر له؟!
وبعبارة اُخری : اللبس مقارناً للخلع لایمکن، فإنّهما مترتّبان، وبعد الخلع لایبقی الملک مضافاً إلی المالک؛ حتّی یلبسه الآخر.
[[page 211]]وخامساً : لو أغمضنا عن جمیع ذلک، والتزمنا بالإشکال ـ وهو لزوم تحقّق الإضافة بدون الطرف ـ فمنشأ ذلک لیس عدم التوالی بین الإیجاب والقبول، بل منشؤه نفس الإیجاب وإن کان مقارناً للقبول، فإنّ الخلع واللبس فعل الموجب، فبتمامیّة الإیجاب قبل القبول ولو آناً مّا یلزم ذلک.
وبعبارة اُخری : لو کان المراد من الخلع واللبس، الواقع منهما الحاصل بعد القبول، فلافرق بین حصول التوالی وعدمه، فإنّ الخلع واللبس لایحصلان قبل القبول حتّی یلزم المحذور، وبعده لا محذور، ولو کان المراد منه الخلع واللبس الإیقاعیّ فهو حاصل بنفس الإیجاب، فیلزم المحذور وإن حصل التوالی.
والسرّ فی جمیع هذه الإشکالات : أنّه قاس المقام بباب العقلیّات، وأنّ المعاوضة من قبیل الخلع واللبس، والحال أنّه ـ مع ما ذکرنا فی الأصل فی العقلیّات ـ القیاس لیس فی محلّه، فإنّ الباب عقلائیّ لا عقلیّ، والعقلاء یرون البیع ـ مثلاً ـ المبادلة بین المالین، أو تملیک المال بالعوض، والمالک بسلطنته علی ملکه مسلّط علی هذا التملیک، وهذا سالم عن الإشکالات السابقة، ویعتبر العقلاء تحقّق المعاملة بتمامیّة الإیجاب والقبول مع التوالی وعدمه.
وبعبارة اُخری : البیع ـ بنظرهم ـ یحتاج إلی إعمال المالک سلطنته بتملیک ماله للآخر بالعوض، وإعمالِ الآخر سلطنته بقبول ذلک علی القول باعتباره، ولایری فی البین محذوراً عقلیّاً من عدم حصول التوالی بینهما، علی أنّا فی فسحة من هذا الإشکال، فإنّ القبول غیر معتبر عندنا، والمعاوضة وإن کانت من الخلع واللبس، إلاّ أنّ إیقاع ذلک لیس إلاّ فعل الموجب، فبنفس الخلع یحصل اللبس بلا حاجة إلی القبول. نعم، یشترط ـ فی حصول ذلک واقعاً ـ رضا المشتری، وهذا أمر آخر غیر مرتبط بحقیقة المعاملة وماهو مرکز الإشکال، وهو الخلع واللبس الإیقاعیّان لا الواقعیّان، وإلاّ فلایلزم إشکال بوجه، کما مرّ.
[[page 212]]وهنا إشکال آخر : وهو أنّه مع عدم التوالی فلایخلو : إمّا أن یتعلّق القبول بنفس ما تعلّق به الإیجاب، وهو النقل من حین الإیجاب، فیلزم تقدّم النقل علی القبول، وهذا خلاف المفروض، فإنّ القبول رکن علی الفرض، ولازمه عدم حصول الأثر قبله، ومع عدم تعلّقه بذلک وتعلّقه بالنقل من حینه، یلزم عدم التطابق بین الإیجاب والقبول.
وجوابه : یظهر من مباحث الإجازة فی بیع الفضولیّ، وأنّه ناقل أو کاشف، فبناء علی تسلیم أنّ الزمان مأخوذ فی الإیجاب، وتعلّق القبول بنفس ما تعلّق به الإیجاب، یلزم الکشف، لا خروج القبول عن الرکنیّة، مضافاً إلی أنّ الزمان لیس قیداً لما تعلّق به الإیجاب، بل هو ظرف له کالمکان، والمتعلّق لیس إلاّ النقل، والقبول متعلّق بذلک.
وإمّا أنّ النقل یحصل من زمان الإیجاب، أو فی زمان القبول، فهذا أمر آخر غیر مرتبط بمتعلّقهما، وحیث إنّ المعاملة لایترتّب علیها الأثر إلاّ بالقبول بناء علی الرکنیّة، أو بالرضا بناء علی ما ذکرنا، فالقاعدة تقتضی حصول الأثر بعد ذلک، ولایلزم منه تعلّق القبول بغیر ما تعلّق به الإیجاب.
[[page 213]]