هل الأخذ بأحد المتعارضین من باب الطریقیة أم لا ؟
ثمّ إنّ الأخذ بأحدهما هل هو من باب الطریقیة أو وظیفة عملیة صرفة لتحفّظ الواقع ؟
ربّما یقال : إنّه کما یکون المجعول فی الأمارات الطریقیة والوسطیة فی الإثبات عند عدم التعارض ، کذلک یکون المجعول فی المقام هو الطریقیة إلی الواقع والوسطیة فی الإثبات وتتمیم الکشف بالنسبة إلی أحدهما وهو ما یختاره المکلّف .
أقول : یرد علی ذلک : أوّلاً : ما ذکرناه سابقاً من عدم قابلیة الطریقیة والحجّیة ونحو ذلک ممّا ذکروها للمجعولیة فإنّ الطریقیة الناقصة للأمارات ذاتیة کالطریقیة التامّة للقطع ، وتتمیمها لا تناله ید الجعل التعبّدی ، إذ لیس معنی تتمیمها إلاّ جعلها کالقطع ، وکذلک الحجّیة بمعنی القاطعیة للعذر لیست بنفسها قابلة للجعل ، إذ مع وجود الحجّة هی ذاتیة لها ومع عدم وجودها لا یعقل
[[page 374]]الاحتجاج فما للمولی هو جعل ما یحتجّ به بالجعل البسیط بأن یقول مثلاً : «اعمل بخبر الواحد» فیصیر حجّة قهراً .
وبالجملة : فجعل الطریقیة والوسطیة ونحو ذلک ممّا لم یقم علیه برهان مستقیم ، وإنّما الذی یصدر من الشارع علی فرض ثبوتها فی الأمارات هو لزوم العمل علی طبقها ، وحیث إنّها طریق ذاتاً وأمر الشارع بسلوکها لیصل العبد إلی الواقع صارت هی أمارات شرعیة فی قبال الاُصول ، فأماریتها ذاتیة وشرعیتها باعتبار إیجاب الشارع سلوکها بما هی طرق . وبهذا تفترق عن الاُصول ، فإنّها إمّا أن لا تکون واجدة للأماریة والکشف الناقص ذاتاً ، وإمّا أن لا یکون وجوب العمل بها بلحاظ طریقتها کما فی الاستصحاب .
هذا کلّه علی فرض تحقّق الجعل فی الأمارات ، وإلاّ فقد عرفت منّا مراراً أنّ المتحقّق من الشارع فیها لیس إلاّ عدم الردع عن طریقة العقلاء .
وثانیاً : أنّه وإن سلّم ثبوت جعل فی الأمارات فإنّما هو فیما یقبل للأماریة والطریقیة .
وبعبارة اُخری : فیما یوجد فیه طریقیة ناقصة ذاتاً ، والخبر المعارض بخبر آخر لا طریقیة له ذاتاً ولا کشف له ، ولذا یتحیّر العقلاء فی هذه الصورة ولا یعملون بواحد منهما .
وثالثاً : أنّه لو سلم إمکان جعل الطریقیة حتّی للخبر المعارض بخبر آخر فصرف الإمکان لا یکفی ، بل نحتاج إلی دلیل فی مقام الإثبات یدلّ علی جعلها ، مع أنّ لسان الأخبار الآمرة بالأخذ بأحدهما لیس إلاّ لسان الأصل ، إذ لا فرق
[[page 375]]بین لسان قوله علیه السلام : «الناس فی سعة ما لا یعلمون» وبین قوله علیه السلام فی روایة ابن الجهم : «فإذا لم تعلم فموسّع علیک بأیّهما أخذت» فالظاهر أنّ التخیـیر هنا أصل عملی جعل بلحاظ التحفّظ علی الواقع مهما أمکن .
وإن شئت قلت : إنّه أصل عملی طریقی کالاحتیاط المجعول فی الاُمور المهمّة من الفروج والدماء ونحوهما ولا یعامل مع الخبر المختار معاملة الأمارة .
فإن قلت : مقتضی ذلک عدم جواز الأخذ بمثبتاتها .
قلت : الظاهر من أمر الشارع بـ «الأخذ بأحدهما» أخذه والمعاملة معه معاملة صورة عدم التعارض .
وإن شئت قلت : إنّ کلّ خبر باعتبار مؤدّاه ولوازمه وملزوماته ینحلّ إلی أخبار وبناء العقلاء کما جری علی العمل بالخبر باعتبار نفس مؤدّاه قد جری علی العمل به باعتبار اللوازم والملزومات ، وفی صورة التعارض کما یتعارض الخبران باعتبار مؤدّاهما کذلک یتعارضان باعتبار اللوازم والملزومات فکأنّ هنا أخباراً من طرف وأخباراً اُخر من طرف آخر ، وتعارض کلّ من هذه الطائفة مع کلّ واحدة من تلک الطائفة وقوله : «بأیّهما أخذت» یشمل کلّ متعارضین حتّی ما کان فی اللوازم والملزومات ، فتدبّر .
وقد تلخّص بما ذکرنا : أنّ التخیـیر فی المسألة الاُصولیة لا الفقهیة ؛ بمعنی أنّ
[[page 376]]المکلّف یتخیّر فی الأخذ بأحد الخبرین ، وجعله حجّة بینه وبین الله والعمل بمضمونه لا أنّه یتخیّر ابتداءً بین الظهر والجمعة مثلاً ، ولکن جعل التخیـیر لیس عبارة عن جعل المختار منهما أمارة ، بل هو حکم عملی طریقی کإیجاب الاحتیاط .
[[page 377]]