حول وجهی التخیـیر والجواب عنهما
وقد قیل فی قبال هذا التقریب لبیان التخیـیر وجهان :
الأوّل : أنّ العامّ وإن لم یشملهما ولم یندرجا تحته ، ولکنّه لیس ذلک لقصور فی الملاک والمصلحة ، بل لما ذکر . وعلی هذا ، فیحکم العقل بأنّ للعموم ـ وإن لم یشملهما ، ولکنّ الملاک لمّا کان موجوداً فیهما قطعاً ولیس فی تعلّق الخطاب الشرعی بأحدهما مخیّراً ـ محذور عقلی فلا محالة یجب تعلّق هذا الخطاب .
وبالجملة : فالعقل یستکشف الخطاب التخیـیری الشرعی من جهة إحراز الملاک ، ونظیر ذلک صورة وقوع التزاحم بین إنقاذ الغریقین .
فإن قلت : لا طریق لنا لإحراز الملاک سوی عموم الخطاب فإذا فرض سقوطه ، فمن أین یکشف الملاک حتّی یستکشف به الخطاب التخیـیری ، إذ من الممکن انحصار الملاک ثبوتاً فی غیر صورة المزاحمة .
[[page 183]]قلت : الکاشف عن الملاک هو إطلاق المادّة لا الهیئة .
هذا ، ولکن یرد علی هذا الوجه :
أوّلاً : وجود الفرق بین باب التزاحم وبین ما نحن فیه ، فإنّ المانع عن شمول العموم فی باب التزاحم کإنقاذ الغریقین لیس إلاّ عدم قدرة المکلّف علی الجمع والقدرة من شرائط التنجّز علی ما حقّقناه فی محلّه ، فالتکلیف فعلی بمعنی أنّه لا قصور فیه من قبل المولی وقد وفی بجمیع ما هو من قبله وإنّما یکون العبد عاجزاً عن امتثال کلیهما ، فلا محالة یجب علیه الامتثال مهما أمکن ، وهذا بخلاف ما نحن فیه ، فإنّ المانع عن شمول قوله : «لا تنقض» هو لزوم الترخیص فی المعصیة فالمانع أمر یرتبط بنفس المولی وهو مانع عن جعله لحرمة النقض فی الطرفین ، فلیس الجعل من قبله تماماً حتّی یستکشف الملاک .
فإن قلت : کیف لا یقطع بملاک الاستصحاب مع أنّ ملاکه التسهیل وهو موجود فی حال التزاحم أیضاً .
قلت : لا نسلّم أنّ ملاکه التسهیل ، بل ملاکه تحفّظ الواقعیات کما هو الظاهر من الأدلّة .
اللهمّ إلاّ أن یقال : إنّ باب الاستصحاب نظیر باب التزاحم فیما إذا صار منشأ التزاحم وجود واجب أهمّ من الواجبین بحیث لو لا هذا لکان العبد قادراً علی الجمع بین هذین فصرف القدرة فی الأهمّ أوجب التزاحم بینهما ، حیث لا یمکنه
[[page 184]]مع إتیانه إلاّ الإتیان بواحد منهما ، وحینئذٍ فإذا اعترفت فی باب التزاحم بإمکان استکشاف الملاک فلِم لا تعترف به فی المقام . والوجه فی کون المقام من قبیل التزاحم أنّ جعل الاستصحاب لیس فی کلّ مورد بنحو القضیّة الشخصیة ، بل المجعول هو قاعدة واحدة کلّیة وهو قوله : «لا تنقض الیقین بالشکّ» وتمام الموضوع للحرمة هو حیثیة نقض الیقین بالشکّ ولا ربط لخصوصیاته بالشارع ، کما فی مثال إنقاذ الغریق .
غایة الأمر : أنّ وجوب العمل بمفاد العلم الإجمالی صار مانعاً عن الأخذ بکلا الاستصحابین وموضوع الحرمة ؛ أعنی نقض الیقین بالشکّ یخالف ما هو المعلوم إجمالاً بحسب العنوان ، فما نحن فیه مثل ما إذا تزاحم الواجبان من جهة أنّ المکلّف وجب علیه صرف القدرة فی واجب ثالث أهمّ بحیث لا یمکنه مع إتیانه إلاّ الإتیان بأحدهما .
وثانیاً : سلّمنا کشف الملاک بسبب إطلاق المادّة ولو فی المقام ولکنّ الملاک إنّما یؤثّر فی الخطاب فیما إذا لم یکن مزاحماً ، فإذا علم مزاحمته أو احتمل مزاحمته فلا سبیل لکشف الخطاب ، ففی مثال الغریقین یستکشف الملاک فی کلّ منهما بلا مزاحم ، وأمّا فیما نحن فیه فیحتمل کون الحکم المعلوم إجمالاً فی قوّة الملاک بمرتبة من الشدّة یجب رعایته ولو فی حال الشکِّ. ومقتضی ذلک إیجاب الاحتیاط ، وحینئذٍ فیکون ملاک الاستصحاب مزاحماً بهذا الملاک ، ویمکن ثبوتاً کونه أقوی فلم یستکشف ملاک غیر مزاحم للاستصحاب حتّی یستکشف به خطاب تخیـیری .
الوجه الثانی : إنّ قوله : «لا تنقض» بعمومه یشمل کلاًّ من الأصلین وبإطلاقه
[[page 185]]یدلّ علی جریان کلّ منهما ، سواء جری الآخر أم لا ، وما یستلزم الترخیص فی المعصیة ونحوه من المحاذیر هو الأخذ بالإطلاق لا العموم فیجب الأخذ بالعموم ورفع الید عن الإطلاق لأنّ المحذور جاء من قبله . وهذا البیان یجری فی مثال الغریقین أیضاً فلا احتیاج إلی کشف خطاب آخر ، بل یقیّد إطلاق الخطاب الأوّل بالنسبة إلی کلّ منهما مع الأخذ بعمومه بالنسبة إلی کلیهما ، انتهی .
واستشکل علیه المحقّق النائینی قدس سره بإشکال مفصّل ذکره فی أوائل مبحث العلم الإجمالی وهو مخدوش ، کما یظهر بأدنی تأمّل فلا نذکره لطوله .
وأورد علیه فی بعض الکلمات إشکال آخر ، وحاصله فی مثال الغریقین : أنّه إذا کان وجوب الإنقاذ فی کلّ منهما مشروطاً بعدم إنقاذ الآخر لزم منه وجوبهما معاً وفعلیتهما عند عدم إنقاذهما لتحقّق الشرط فی کلیهما ، وفیما نحن فیه یلزم الترخیص فی کلا الطرفین عند عدم الإتیان بهما فیلزم الترخیص فی المعصیة .
وقد أجاب فی «الدرر» عن الإشکال بما لا یخلو عن الإشکال ، فراجع .
والتحقیق أن یقال : إنّ الإشکال نشأ من الخلط بین شرائط الفعلیة وشرائط التنجّز والقدرة من شرائط التنجّز کما حقّقناه فی محلّه ، فقوله : «انقذ الغریق»
[[page 186]]تکلیف فعلی یشمل بنحو القضیّة الحقیقیة لجمیع الغرقی .
غایة الأمر : أنّ المکلّف لو کان عاجزاً أمکنه الاعتذار عن ترک الواجب مع فعلیته ؛ وحینئذٍ فإذا فرض هنا غریقان وکان للمکلّف القدرة علی إنقاذ أحدهما کان صرف القدرة فی کلّ منهما معجزاً ومعذراً بالنسبة إلی الآخر ، وأمّا إذا لم یصرفها فی واحد منهما ونام مثلاً فلا معجز له بالنسبة إلی شیء من الواجبین الفعلیـین ، فإنّه بالنسبة إلی کلّ منهما متمکّن والجمع بینهما وإن کان غیر متمکّن منه ولکنّه لیس بمأمور به وإنّما المأمور به کلّ منهما مستقلاًّ وهو مقدور وعلی هذا فلا مانع من تنجّز التکلیفین معاً بعد فعلیتهما وحصول القدرة بالنسبة إلی کلّ منهما ، نعم لو صرف القدرة فی أحدهما خرج الآخر عن التنجیز .
ثمّ لو فرض سقوط التکلیف عن الفعلیة أیضاً بالعجز ، کما هو مبنی القوم فلا یلزم إشکال أیضاً ، إذ کلّ من الفعلین مقدور فی حدّ نفسه فتکلیفه فعلی لوجود شرطه ، وما یوجب سقوط أحدهما عن الفعلیة إنّما هو صرف القدرة فی الآخر .
وبالجملة : فما ذکر من الإشکال لیس بمحذور أصلاً .
وبما ذکرنا : یظهر وجه التخلّص عن الإشکال فی المقام أیضاً ، فإنّ المانع عن إجراء الاستصحابین معاً هو لزوم المخالفة العملیة وهو إنّما یلزم فیما إذا عمل علی وفق الحالة السابقة ، وأمّا إذا فرض ترک العمل علی طبقها فی الطرفین فلا محذور .
اللهمّ إلاّ أن یقال : إنّ المحذور فی المقام لیس فی جانب المکلّف ، بل فی جانب المولی ، حیث یلزم من ترخیصه فی الطرفین الترخیص فی المعصیة ، ولکن یرد علیه : أنّ الترخیص فی الطرفین فی رتبة عدم أخذ المکلّف بما
[[page 187]]یقتضیه الترخیص لیس ترخیصاً فی المعصیة ، کما لا یخفی .
نعم ، یرد علی ذلک لغویّة الترخیص حینئذٍ ، فافهم وتأمّل .
هذا کلّه فیما یتعلّق بالمبحث الثانی .
[[page 188]]