الفرق بین التخصیص والتخصّص والحکومة والورود
فنقول : أمّا «التخصّص» ، فهو عبارة عن خروج شیء عن موضوع الحکم بذاته ، سواء کان هذا الشیء مورداً للحکم الشرعی أم لا ، فزید الجاهل خارج
[[page 147]]عن العلماء فی قوله : «أکرم العلماء» تخصّصاً سواء کان زید محکوماً بعدم الإکرام أم لا .
وأمّا «الورود» ، فهو عبارة عن خروج مورد عن موضوع الحکم بلحاظ محکومیة هذا المورد بحکم آخر ، بحیث لو لا محکومیته بهذا الحکم لم یکن خارجاً عنه ، فلو فرض کون المراد من قوله : «لا تنقض» حرمة نقض الحجّة باللاحجّة یکون الأمارة القائمة فی مورد واردة علیه لکون النقض بها نقضاً بالحجّة . ولکن هذا المورد مشمول لدلیل الاستصحاب لو لا دلیل حجّیة هذه الأمارة . هذا علی مذاق القوم ، وإلاّ فسیأتی أنّ «الورود» قسم من أقسام «الحکومة» ولیس قسیماً لها .
بقی الکلام : فی بیان الفرق بین «الحکومة» وبین غیرها من أنحاء الجمع العرفی من «التخصیص» و«التقیـید» . وتحقیق ذلک یحتاج إلی بسط الکلام .
فنقول : إذا قال المولی : «أکرم العلماء» مثلاً فما یتعرّضه هذه القضیّة هو ثبوت وجوب الإکرام بالنسبة إلی جمیع العلماء بما هم علماء ، من جهة ظهور الموضوع فی العموم والإطلاق .
وبعبارة اُخری : ما یتعرّضه هذه القضیّة هو تحقّق النسبة الثبوتیة بین وجوب الإکرام وبین جمیع أفراد العالم ، وهنا جهات متشتّتة مربوطة بهذه القضیّة لا تتعرّض هی لبیانها ، بل هی من ملزوماتها أو لوازمها بنظر العقل أو العقلاء ، فإنّ من سمع هذه القضیّة یحکم بحسب الاُصول العقلائیة بکون المتکلّم بها شاعراً بمفادها مریداً لها بالإرادة الاستعمالیة ، وکون الجدّ أیضاً مطابقاً للاستعمال ، وأنّ المولی جعل الحکم المستفاد منها ، وکذلک یحکم بوجوب
[[page 148]]الإعادة ، إذا أتی بالمأمور به لا علی وجهه ، ولکن لیس هذه الاُمور ممّا یتعرّضها فس هذه القضیّة ، وکذلک لا تتعرّض هی لموضوعها ولا لمحمولها ، وإنّما تتعرّض للنسبة بینهما فقط ، فإنّ قوله : «أکرم العلماء» لا تتعرّض لما هو المراد بالعلماء أو ما هو المراد بالإکرام أو ما هو المراد بالوجوب أو أنّ مفاد هذه القضیّة ملتفت إلیه للمولی أو مراد له استعمالاً وجدّاً أو أنّه جعل الوجوب أو أنّه یجب الإعادة علی فرض عدم إتیانه لوجهه ، وإنّما یستفاد هذه الاُمور من العرف أو الاُصول العقلائیة أو العقل .
فإن قلت : کیف لا یتعرّض هذه القضیّة لجعل الوجوب ؟
قلت : هی جعل بالحمل الشائع ولیس المحکوم فیها ثبوت الجعل بالمعنی الاسمی المفهومی .
إذا عرفت هذا ، فنقول : لو ورد قضیّة اُخری مربوطة بجهة من جهات هذه القضیّة فإن تعرّضت القضیّة الثانیة لما تتعرّض له الاُولی بنفی ما أثبتـته أو إثبات ما نفته أو تقیـید ما أطلقته ، بحیث تصادمت القضیّـتان فی مقام الظهور کان التصادم بینهما عبارة عن التعارض وإن تعرّضت الثانیة لجهة من جهات القضیّة الاُولی التی لا تتعرّض لها هی بنفسها کان التصادم بنحو الحکومة ، ففی المثال السابق لو صدر عن المولی فی المرّة الثانیة «لا تکرم العلماء» أو «لا تکرم النحویین» أو «أکرم أو لا تکرم العلماء النحویین» کانت القضیّة الثانیة معارضة للاُولی ، لنفیها ما أثبتـته کلاًّ أو بعضاً أو لتقیـیدها ما أطلقته . وبالتالی هی مزاحمة لنسبة الاُولی بعد اشتراکهما فی جمیع المراحل من الاُصول العقلائیة والملزومات الثابتة قبل مقام انعقاد الظهور اللفظی ، وحیث إنّ التصادم بینهما فی
[[page 149]]مقام الإثبات وفی مقام الظهور اللفظی بما هو لفظ فیجمع بینهما بالأظهریة والظاهریة لو کان أحدهما أظهر کما فی العامّ والخاصّ والمطلق والمقیّد وإلاّ فیتساقطان ، کما فی المتباینین .
وأمّا إذا صدر منه قضیّة اُخری متعرّضة لجهة من جهات الاُولی لا تتعرّض لها هی بنفسها فتقدّم الثانیة من باب الحکومة من دون لحاظ الأظهریة والظاهریة لعدم کون التصادم فی مرحلة الإثبات والظهور ، فإنّ الظهور اللفظی بما هو لفظ موضوع إنّما ینعقد بالنسبة إلی ما یتعرّض له القضیّة .
والمفروض أنّ ما تتعرّض له الثانیة فی المقام لا تتعرّض له الاُولی فلا تصادم بینهما من حیث الظهور اللفظی . مثال ذلک : ما إذا قال المولی بعد قوله : «أکرم العلماء» ، «ما أردت أکرام العلماء» أو «إکرام النحویین» مثلاً أو قال : «صدر هذا الحکم عنّی من غیر التفات أو تقیّةً» ، أو قال : «ما جعلت وجوب الإکرام للنحویّین أو للفسّاق» أو قال : «النحوی لیس بعالم» أو «الرجل المتّقی عالم» أو «السلام إکرام» أو «العمل الکذائی لیس بإکرام» ، أو قال : «لا تعاد العمل إلاّ من خمس» مثلاً فهذه القضایا کلّها تقدّم من باب الحکومة ، ولا یتأمّل العرف فی تقدیمها وإن کان ظهورها فی غایة الخفاء ، وظهور القضیّة الاُولی فی غایة الجلاء فإنّ القضیّة الاُولی لم تتعرّض بظهورها اللفظی لکون المولی مریداً لمضمونها أو ملتفتاً إلیها أو لبیان أنّ المراد بالعلماء أو الإکرام ماذا أو لغیره ممّا ذکر ، وإنّما استفید الالتفات والإرادة والجدّ من الأصل العقلائی ومن ظهور التکلّم بما هو فعل من الأفعال الصادرة عن الفاعل المختار لا من ظهور اللفظ بما هو لفظ موضوع ، وکذلک کون «النحوی عالماً» أو «الرجل المتّقی غیر عالم» أو «عدم کون السلام إکراماً» وغیر ذلک لم یستفد من ظهور اللفظ ، وإنّما الذی
[[page 150]]استفید من اللفظ ثبوت الوجوب للعلماء کما هو مفاد القضیّة بما هی قضیّة ، وکون الموضوع جمیع أفراد العلماء بما هم علماء لا بعضهم ولا العلماء العدول فإنّ ذلک مقتضی أصالة العموم وأصالة الإطلاق الراجعتین إلی ظهور اللفظ بما هو لفظ موضوع ، فافهم وتأمّل جیّداً .
[[page 151]]