الأمر الثانی
فی وجه الالتفات من الغائب إلیٰ الحاضر
ومن الثناء بالجمل الغائبة إلیٰ الجمل الحاضرة
لا شبهـة فی أنّ الالتفات من الـمحسّنات الـمعنویّـة، وفیـه تطربـة نشاط تحصل لـلمستمع من الافتنان، وقد تعارف فی الأشعار والأنثار، ففی قولـه تعالیٰ: «وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً» ثمّ قال: «إِنَّ هَٰذَا کَانَ لَکُمْ
[[page 19]]جَزَاءً»، وقولـه تعالیٰ: «حَتَّیٰ إِذَا کُنْتُمْ فِی الْفُلْکِ وَجَرَیْنَ بِهِمْ».
ولکن فی الـمقام یستحسن الالتفات من الـغیبـة ـ بإظهار محاسن الـمحبوب والـمقصود علیٰ نعت الـکلّی وذکر الاسم ـ إلـیٰ الـحضور؛ بأنّ تلک الأثنیـة الـکثیرة لـیست لـمن کان هو الـغائب واقعاً وغیر حاضر ولا سامع، ففی هذا الالتفات بیان الـکمال الآخر لـلمحبوب والـمطلوب الـحقیقی، وهو شهوده وحضوره الـکلّی علیٰ کلّ شیء.
هذا، مع أنّ الـمفاهیم الـکلّیّـة الاسمیّـة لا تخرج من الـکلّیّـة بالتطبیق علیٰ مصادیقها، ولذلک لا یکون لـها الأثر الـجزئی والـخاصّ، بخلاف الـمفاهیم الـحرفیّـة، فإذا قیل: نعبد اللّٰه ونستعینـه، فإنّـه مفهوم کلّیّ لا یقع عبادة حقیقةً، بخلاف ما إذا قال: إیّاکَ نعبُد، ونعبدکَ اللهمّ، فإنّ ذلک حقیقـة الـعبادة.
وبالجملة: الـحضور والـخطاب وإن کان لا یستحسن أحیاناً لـما فیـه من سوء الأدب، ولکنّـه فی مقام الـتذلّل والـتخشّع والـعبودیّـة یستحسن؛ لتوغّلها فیها بذلک، کما هو الـظاهر.
وبعبارة اُخریٰ: إظهار الـعبودیّـة بالخطاب عبادة عملیّـة، وإظهارها بالغیبـة عبادة قولیّـة، والأوّل أرجح بالضرورة.
وإن شئت قلت: بعد وصول الـسالک إلـیٰ قولـه: «إیَّاکَ نَعْبُدُ» من غیر تعرّض لـما هو الـمعبود، یرید أن یُشعر بأنّ الـمعبود هو الـذی وصفناه، ویظهر
[[page 20]]أنّـه فی مقام إفادة أنّـه تعالیٰ علیٰ کلّ شیء شهید وحاضر، وعلیٰ کلّ أمر محیط، فتقع هذه الـعبادة وهذا الـخطاب لـه قهراً وطبعاً.
[[page 21]]