المسألة الاُولیٰ
حول کلمة «إنزال»
قال فی «الـقاموس»: الـنزول: الـحلول. وفی «الأقرب»: نزل من عُلُوٍّ الـیٰ سُفْل، نزولاً: انحدر. أنزل الـشیء إنزالاً ومنزلاً: جعلـه نازلاً کنزلـه، یقال: أنزل اللّٰه الـغیث، وأنزل الـکتاب والـضیف: أحلّـه وأقام نُزُلـه، واللّٰهُ الـکلامَ: أوحیٰ بـه. انتهیٰ.
وفی «تاج الـعروس» : وهو فی الأصل انحطاط من عُلُوّ. انتهیٰ.
وقال الـراغب: الـنزول فی الأصل هو انحطاط من عُلُوّ، یقال: نزل عن دابّتـه ونزل فی مکان کذا: حطّ رحلـه فیـه. انتهیٰ.
[[page 3]]وفی کثیر من الـکتب الـتفسیریّـة: أنّ الإنزال هو الإیصال والإبلاغ، ولایعتبر کونـه من أعلیٰ؛ لشهادة قولـه تعالـیٰ: «فَإذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ»؛ لأنّـه بمعنیٰ وصل وحلّ.
أقول: قد تقرّر منّا مراراً أنّ الـتصرّف فی الـلغـة ـ لأجل الـفرار من الـمجاز والاستعارة والـکنایـة ـ قبـیح وناشئ عن الـضعف، وغیر موافق للتحقیق؛ لأنّ الـلغات الـموضوعـة والـمستعملـة فی الـقُریٰ والـبوادی، لیست لها إلاّ الـمعانی الـمناسبـة لاُفُق الـمتعلّمین والـواضعین.
وما اشتهر بین جماعـة من أهل الـمکاشفـة والـحکمـة: بأنّ الألفاظ موضوعـة للمعانی الـعامّـة ، خالٍ عن الـتحصیل فی حدود الـمقام وفی موقف الـوضع والاستعمال، فالـنزول لیس ـ بحسب الـلغـة ـ إلاّ الـهبوط الـمادّی والـحلول الـجسمانی، وفیـه اُشرب معنیٰ الـعلُوّ؛ أی الـحلول من الأعلیٰ الـیٰ الأسفل، والآیـة الـمستدلّ بها تدلّ علیٰ ذلک؛ لأنّ الـنزول بالـساحـة ربّما یکون فی مورد اعتبر الـعُلُوّ ، کما لایخفیٰ.
ودعویٰ: أنّ الـلغـة إمّا ساکتـة عن اعتبار الـعُلُوّ، أو متعرّضـة لمطلق الـعُلُوّ من غیر کونـه علوّاً حسّیّـاً، غیر ممنوعـة؛ لأنّ الـمیزان هو الـمتفاهم الـعرفی من الـلغـة، مع الـرجوع الـیٰ عهد الـوضع والاستعمال، الـعاری عن جمیع الاُمور الـمعنویّـة والـخصوصیّـات الاُخر، والاستعمالات الـقُرآنیـة وغیرها الـحادثـة، کلّها مبنیّـات علیٰ نوع توسّعات وکنایات واستعارات ذوقیّـة صحیحـة ولطیفـة جدّاً، فلاینبغی الـخلط بین الـلغـة والـوضع وبین
[[page 4]]الـعقلیّـات والـروحانیّـات.
وممّا یشهد علیٰ اعتبار الـعُلُوّ الـحسّی أنّـه استعیر للعُلُوّ الـروحانی «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِینُ عَلَیٰ قَلْبِکَ».
ثمّ إنّ ما ورد فی «الأقرب» : من أنّ الإنزال بمعنیٰ الـوحی والإیحاء، فهو کلام شعریّ لا حقیقـة لُغویّـة؛ لأنّـه انتقل الـیٰ هذا الـمعنیٰ من الاستعمالات الـشرعیّـة فی الـکتاب والـسُّنّـة؛ غافلاً عن ممنوعیّـة الـخلط بین الـشرع والـعرف.
وما فی کتب التفسیر: من أنّ الإنزال هو الإبلاغ والإیصال، کلام ساقط؛ لأنّ الـنزول یتعدّیٰ بالـباء والإبلاغ والإیصال یتعدّیان بـ «الـیٰ» ، وقد تقرّر فی محلّـه لزوم اتّحاد جهـة الـتعدیـة إذا کانت الألفاظ مترادفـة، فلاتخلط.
إن قلت : قد ورد الإنزال بمعنیٰ الإیصال فی قولـه تعالـیٰ: «وَأَنْزَلْنَا الْحَدِیدَ فِیهِ بَأْسٌ شَدِیدٌ»، وفی قولـه تعالـیٰ: «وَأَنْزَلَ لَکُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِیَةَ أَزْوَاجٍ».
قلت: أوّلاً: ربّما کان ذلک استعارة أیضاً؛ لأنّ کلّ شیء عند اللّٰه تعالـیٰ خزائنـه، فیکون جمیع الـمادّیّات نازلـة من الـغیب الـعالـی بالـذات.
وثانیاً: ربّما کان فی الآیـة الاُولیٰ إشعار الـیٰ ما قیل فی الـتاریخ: بأنّ
[[page 5]]الـحدید جاء من الـجنّـة الـتی کان أبونا آدم فیها وهبط منها، وتلک الـجنّـة کانت فی الـمرتفعات.
وأمّا الآیـة الـثانیـة فیحتمل کونها بمعنیٰ أنّـه تعالـیٰ أنزل من الآباء والاُمّهات، ومن الأنعام الأزواج الـثمانیـة، فأبقیٰ نسولها، ویحتمل فیها ما احتملناه فی الاُولیٰ أیضاً.
[[page 6]]