خصائص المنهج الفکری عند

کد : 160232 | تاریخ : 15/07/1396

‏ ‏

خصائص المنهج الفکری عند آیة الله الشهید السید مصطفی الخمینی

‏ ‏

‏الشیخ محمد جعفر شمس الدین‏

‏ ‏

‏الحمد لله  وصلّی الله علی المبعوث رحمة للعالمین محمد وآله الطاهرین‏‎ ‎‏وصحبه المنتجبین .‏

‏سادتی العلماء ، أیها الإخوة الأفاضل‏

‏السلام علیکم ورحمة الله وبرکاته‏

‏أود ـ بدایةـ أن أعترف بأنی عندما دعیت للمشارکة فی هذا المؤتمر‏‎ ‎‏التکریمی لآیة الله السید مصطفی الخمینی قدس سره تهیبت إجابة هذه الدعوة الکریمة ،‏‎ ‎‏ذلک أنی لم أکن علی أدنی معرفة بما یملک الرجل من رصید علمی وفکری مثبت‏‎ ‎‏ومطبوع طیلة الفترة التی تلت استشهاده .‏

‏وقد کانت هذه الدعوة الکریمة إلی هذا المؤتمر المبارک من قبل مؤسسة‏‎ ‎‏تنظیم ونشر تراث الإمام الخمینی قدس سره فاتحة خیر علی من هذه الجهة حیث‏‎ ‎‏عرّفتنی علی ما جهلت من أمر هذا المکرّم طیلة تلک السنین ، عندما زوّدتنی‏‎ ‎‏مشکورة ببعضٍ ولو یسیر من إنتاجه العلمی کان کافیاً لرسم صورة فی الذهن‏‎ ‎‏عنه واضحة المعالم ، مشرقة الألوان ، بددت کثیراً من تهیّبی فی تلبیة الدعوة‏‎ ‎‏وإن بقی فی النفس شیء من عتب .‏

‏عتب علی الصبر طیلة عشرین عاماً لتحصل هذه الخطوة الرائدة فی هذا‏‎ ‎‏الصراط مع احتیاج الأمة إلی التعرّف علی أمثال هذا المکرّم من خلال ما خلفه‏‎ ‎‏من آثار فکریة ، علماً بأن الجمهوریة الإسلامیة دعت طیلة السنوات الماضیة‏‎ ‎‏إلی عقد عشرات المؤتمرات العلمیة والفکریة لبعث تراث الأمة وإحیاء ذکری‏‎ ‎‏العظماء من علمائها . ولعل العتب هنا یرفعه ما ذکر فی مطلع کتاب الدعوة‏‎ ‎‏الموجَّه من قِبل سفارة الجمهوریة الإسلامیة الإیرانیة ببیروت حیث جاء فیه :‏‎ ‎‏إن دراسة الفکر العلمی والعمل السیاسی والخصائص الأخلاقیة للشهید آیة الله ‏‎ ‎


‎[[page 241]]‎‏السید مصطفی الخمینی قدس سره هی حسنة تأجّلت مع تأجیل معرفتنا بالعدید من‏‎ ‎‏الأبعاد العلمیة التی تمیزت بها شخصیة الشهید رغم مرور عشرین عاماً علی‏‎ ‎‏استشهاده .‏

‏ومهما یکن ، فإن هذه الالتفاتة بحد ذاتها وإن جاءت متأخرة ، تعتبر مساهمة‏‎ ‎‏حقیقیة فی مسیرة تعریف الأمة بعظمائها وعلمائها من خلال نشر تراثهم‏‎ ‎‏الفکری والعلمی وشدّها إلی ذلک التراث وتوعیتها علی ما یتضمنه من رؤی‏‎ ‎‏وتطلعات یرتبط فیها الماضی بالحاضر تأسیساً لما سوف یکون علیه‏‎ ‎‏المستقبل .‏

‏ ‏

الخصائص الفکریة للعالم المفکر

‏مما لاشک فیه ـ من وجهة نظری ـ أن الخصائص الفکریة التی یتمتع بها‏‎ ‎‏العالم فی أی حقل من حقول العلم هی التی تؤطر البحث وتمنحه الحیویة‏‎ ‎‏والعمق والصدقیة فی التعاطی مع شتی المسائل المعروضة ، ذلک أن تلک‏‎ ‎‏الخصائص لدی الباحث سوف تنسحب علی بحثه لتطبعه بطابعها وتسمهُ‏‎ ‎‏بمیسمها . فلیس العالم مجرد وعاء للمعلومات المکدسة التی لا یربط بین‏‎ ‎‏مفرداتها رابط ولا یجمعها إطار ، إذ هی والحال هذه لا تعدو أن تکون کمّاً مهملاً‏‎ ‎‏لا تنتج قضیة علمیة ولا تخلق بحثاً موضوعیاً أو تحاکم رأیاً ، وإنما العالم بحق‏‎ ‎‏هو ذلک الإنسان الذی یملک إضافة إلی المعلومات ملکةً یستطیع من خلال‏‎ ‎‏إعمالها تصنیف تلک المعلومات فی مجموعات متجانسة متناسقة تکوّن کل‏‎ ‎‏مجموعة منها رصیداً علمیاً مؤطراً بإطار واضح المعالم بین الحدود والأبعاد ،‏‎ ‎‏یرجع إلی استنطاقه کلما دعت الحاجة وبأقل قدر ممکن من بذل الجهد‏‎ ‎‏واستفراغ الوسع ؛ ذلک أنه بات یعلم فی أیة سلة یجد ضالته ویعثر علی‏‎ ‎‏منشوده ، فیستل سلاحه العلمی لیقارع به الخصم لیبلور علی ضوئه الفکرة‏‎ ‎‏مطرح البحث . وهذه الخصیصة هی ما نطلق علیه عنوان الوضوح المنهجی فی‏‎ ‎‏البحث العلمی ، الوضوح من حیث المظانّ ومن حیث المضامین ، وهنا یأتی دور‏‎ ‎‏سمة جدیدة من سمات البحث المنهجی هی سمة التنوع ، فَرُبَّ مسألة أصولیة‏‎ ‎‏لها جنبة فلسفیة أو تاریخیة أو عرفیة أو لغویة أو کلامیة، وربما کانت تلک‏‎ ‎


‎[[page 242]]‎‏المسألة قد اجتمعت فیها کل هذه الجوانب ، فکان لابد للباحث ـ لیستقیم البحث‏‎ ‎‏وتتسع فائدته ـ من أن یلامسها حسب ما تقتضیه حاجة البحث ، وهذا یستدعی‏‎ ‎‏أن یکون الباحث ملمّاً بکلّ أو بجلّ هذه الحقول المعرفیة لیؤدی دوره العلمی‏‎ ‎‏ویدلی بدلوه فی المطارحات الفکریة حول تلک المسائل .‏

‏ولکن خصیصتَی الوضوح والتنوّع هاتین لابد وأن ینضمّ إلیهما خصیصة‏‎ ‎‏أخری لا تقل عنهما أهمیة وخطورة. فأیة مسألة مطروحة لابد وأن تکون قد‏‎ ‎‏دارت حولها نقاشات مستفیضة ونظِّر لها بنظریات مختلفة وسطِّرت فیها أقوال‏‎ ‎‏متعارضة، کل ذلک لا فی عصر واحد بل فی عصور متعاقبة متباعدة أو‏‎ ‎‏متقاربة، ومن أشخاص مختلفی المشارب العلمیة والمدارس الفکریة . ولذا کان‏‎ ‎‏لابد للباحث ـ بعد وضوح المسألة مطرح البحث لدیه ـ من أن یکون محیطاً بکل‏‎ ‎‏الأقوال فیها مع أحوال قائلیها ومنطلقاتهم التی أدّت بهم إلی تبنّی تلک الأقوال،‏‎ ‎‏وظروفهم الزمانیة والمکانیة التی قد یکون لها دخالة کبیرة فی قناعاتهم‏‎ ‎‏ومواقفهم . وهذه الخصیصة هی ما نطلق علیه عنوان الاستقصاء المنهجی فی‏‎ ‎‏البحث العلمی .‏

‏ولکن خصیصة الاستقصاء المنهجی هذه علی فائدتها لا نجدها مجدیة‏‎ ‎‏کفایة لإضفاء صفة العالم علی صاحبها إلاّ إذا اقترنت بخصیصة أخری ؛ ذلک‏‎ ‎‏أنها وحدها لا تجعل من الإنسان إلاّ سارداً للمعلومات والأقوال ومؤرخاً لها ،‏‎ ‎‏فهو بذلک شبیه بآلة التسجیل التی تسمعک ما خزِّن فیها من أصوات ؛ ولذا کان‏‎ ‎‏لابد للباحث من أن یعمل فکره هنا فی اتجاهین : الاتجاه الأول : هو أن یتحری‏‎ ‎‏النزاهة فی عرض الأقوال والآراء والنظریات الموضوعة حول المسألة مطرح‏‎ ‎‏البحث. وهذه الخصیصة هی ما نطلق علیه عنوان : الموضوعیة فی البحث‏‎ ‎‏العلمی ، لأن الباحث عند تجرده منها لا یملک الأمانة العلمیة حیث یقوِّل الآخرین‏‎ ‎‏ما لا یقولونه ویلزمهم بما لم یلزموا به أنفسهم . والاتجاه الثانی : هو أن یعمل‏‎ ‎‏فکره ومخزوناته العلمیة ویبذل وسعه فی محاکمة تلک الأقوال والنظریات بعد‏‎ ‎‏إخضاعها للنقد العلمی الإیجابی فیرفضها کلها بدلیل وحجة ، أو یتحیز إلی‏‎ ‎‏بعضها ولکن بدلیل وحجة ، أو یبتکر لنفسه موقفاً مستجداً متکئاً علی الحجة‏‎ ‎‏والدلیل . وهذه الخصیصة هی ما نطلق علیه عنوان : الأصالة فی البحث العلمی .‏


‎[[page 243]]‎‏والخصیصة الأخیرة التی ینبغی أن یتوافر علیها الباحث هی الشخصیة‏‎ ‎‏النقدیة الجریئة التی تخوّله أن یقتحم الحصون الفکریة للآخرین بسلاح الفکر‏‎ ‎‏الذی یمتلکه لیبنیها أو لیدکّها لا فرق ، أو لیهدم ما یراه متصدعاً منها ولیعلی‏‎ ‎‏منها ما یراه أهلاً للبقاء والاستمرار بزرقها ببراهین وحجج جدیدة لم یتمکن‏‎ ‎‏أصحابها من الوصول إلیها لغفلة أو لعدم قدرة .‏

‏هذه هی باختصار أهم الخصائص التی تجعل ممن تتوافر فیه عالماً مفکراً‏‎ ‎‏وباحثاً مجیداً ، وتعطی لبحثه الجوهریة والقیمة العلمیة العالیة : الوضوحُ‏‎ ‎‏والتنوعُ والاستقصاءُ والموضوعیةُ والأصالةُ والشخصیةُ النقدیة .‏

‏ونحن عندما نعود إلی عالمنا الکبیر الذی نجتمع فی هذا المؤتمر لنکرّمه‏‎ ‎‏محاولین إلقاء بعض الأضواء علی بعض ما خلفه من تراث علمی؛ فماذا نجد ؟‏

‏لقد ذکرت فی بدایة حدیثی بأننی استلمت من مجموع مؤلفات السید الشهید‏‎ ‎‏ثلاثة کتب : کتاب الصوم ، ویقع فی مئتین واثنتین وثلاثین صفحة ، والمجلد‏‎ ‎‏الأول من تحریراته الأصولیة ، ویقع فی خمسمئة وإحدی وستین صفحة ،‏‎ ‎‏ویشتمل علی مقصدین من مباحث الألفاظ ، ینتهی الثانی منهما بمبحث مقدّمة‏‎ ‎‏الواجب ، وتفسیر القرآن الکریم ، ویقع الجزء الأول منه فی أربعمئة وثلاث‏‎ ‎‏وثلاثین صفحة ، وینتهی بتفسیر قوله تعالی من سورة الحمد : اهدنا الصراط‏‎ ‎‏المستقیم .‏

‏وقناعتی التی توصلت إلیها بعد مراجعتی لهذه الکتب الثلاثة فی فروع ثلاثة‏‎ ‎‏من العلوم الإسلامیة ، هی أن المحتفی به الیوم کان فعلاً العالم والباحث‏‎ ‎‏المجید ، حیث کانت کل تلک الخصائص التی ذکرناها تحکم مجتمعة ومتفرقة‏‎ ‎‏جل ما حوته کتبه الثلاثة من بحوث ومسائل .‏

‏واسمحوا لی هنا أن أقوم بجولة سریعة علی مواضع من کتبه الثلاثة‏‎ ‎‏المذکورة آنفاً لنتأکد من هذه الحقیقة .‏

‏نبدأ مع کتاب تفسیر القرآن الکریم ، حیث نجده ـ رضوان الله علیه ـ منذ‏‎ ‎‏البدایة یدلی بدلوه فی وضع تعریف لهذا العلم ، بعد أن یذکر1 نصاً لأبی حیّان‏‎ ‎‏یزعم فیه أنه لم یقف لأحد من علماء التفسیر علی رسم له ، ثم یذکر تعریفاً له ،‏‎ ‎‏حیث یبادر السید الشهید إلی الخدشة فیه بقوله :‏


‎[[page 244]]‎‏« وما جعله ـ یعنی أبا حیان ـ رسماً یرجع إلی انحلال علم التفسیر إلی العلوم‏‎ ‎‏المختلفة وعدم کونه علماً مستقلاً قِبال سایر العلوم المدونة ».2‏

‏ثم یضع رحمه الله تعریفاً له یراه أصحّ وأدقّ فیقول : « وأما تعریفه فهو العلم‏‎ ‎‏بالمرادات والمقاصد الکامنة فیه بالإحاطة بها بقدر الطاقة البشریة »3.‏

‏وإنّما قید الاحاطة بقدر الطاقة لأنه یری بأن الإحاطة المطلقة غیر ممکنة‏‎ ‎‏« وذلک لأن کلام الکبریاء أجلّ من أن یکون شریعة لکل وارد . وقلیل من الناس‏‎ ‎‏وصلوا إلی أسراره ، وهم مع ذلک ینادَون من مکان بعید ، إن موضوع هذا العلم‏‎ ‎‏وهو القرآن لیس له حد تقف علیه الأفهام ، ولیس کغیره من کلام الأنام وإنّما هو‏‎ ‎‏مقال الملک العلاّم ، ذو عبارات للعلماء ، وإشارات وحقائق للأولیاء ، ولطائف‏‎ ‎‏للأنبیاء ، بل هو بحر لجی فی قعره درر ، وفی ظاهره خبر ، والناس فی التقاط‏‎ ‎‏درره ، والوصول إلی خبره علی مراتب متفاوته . . .الخ »4.‏

‏ومن هنا ، یری قدس سره بأن اختلاف التفاسیر کان ناشئاً من تفاوت أصحابها فی‏‎ ‎‏التوجهات والدرجات ، حیث غلب علی کل واحد منها توجه لصاحبه، فجاء وقد‏‎ ‎‏طغی علیه إما الجانب البلاغی والأدبی ، أو الجانب اللغوی ، أو الجانب الکلامی‏‎ ‎‏مما توهم أنه من باب الحکمة والبرهان ، أو الجانب القصصی والسیرة ، أو‏‎ ‎‏الجانب الحدیثی والنقل الخبری . وکل هذا سهل إزاء بعض التفاسیر التی ـ کما‏‎ ‎‏یقول رضوان الله علیه ـ تغلب علیها التأویلات البعیدة والبیانات الغریبة‏‎ ‎‏العجیبة . ومرد ذلک6 من وجهة نظره ، إلی أن أصحابها « لم یأخذوا فی‏‎ ‎‏تفاسیرهم من مشکاة النبوة والولایة ، والتفسیر الجامع لمجامع العلوم‏‎ ‎‏والأحکام والکافل للحقائق والدقائق ، والشامل للإشارات والعبارات ، والحاوی‏‎ ‎‏لأسس مطالب الحکمة والعرفان ، لم یتیسر لأحد من العلماء والحکماء ، ولا‏‎ ‎‏یمکن ذلک إلاّ لمن خصّ بهبة من الله تعالی وراثة من الأنبیاء وأخذ العلم من‏‎ ‎‏مشکاة الأولیاء واقتبس قوة قدسیة ونوراً من الله » .‏

‏من هذه النقطة بالذات ، ندرک السر الکامن وراء تشمیره عن ساعد الجد لیلج‏‎ ‎‏هذا المحیط الذی لا حدود، له، مستهدیاً فی ذلک بکلمات أهل بیت النبوة ، الذین‏‎ ‎‏خوطبوا بهذا القرآن وهم الراسخون فی العلم . ومن هنا ، جاء تفسیره الذی لم‏‎ ‎‏یکتمل ـ للأسف ـ بحثاً متعدد الجوانب یجد کل باحث فیه حقل اختصاصه ،‏‎ ‎


‎[[page 245]]‎‏ویعثر کل منقب بین زوایاه علی ما یهمه من مسائل فی مجال اهتماماته‏‎ ‎‏العلمیة . فالفیلسوف والمتکلم والأصولی والفقیه والمؤرخ والأدیب والعرفانی‏‎ ‎‏کلٌّ له فیه مأرب ومنهل من خلال ما تضمنه من بحوث فلسفیة وکلامیة‏‎ ‎‏وأصولیة وفقهیة وأدبیة وعرفانیة ، ولذا فقد اتسم بسمة مهمة من سمات‏‎ ‎‏البحث المنهجی هی سمة التنوع التی کنا قد ذکرناها آنفاً ، والتی تمنح أی مؤلف‏‎ ‎‏صدقیة قد تفتقر إلیها مؤلفات کثیرة سبقته فی هذا المضمار .‏

‏وعلی سبیل المثال ، نورد هنا ما أثبته رحمه الله من فهرست عام عندما‏‎ ‎‏تناول الحدیث عن الناحیة الأولی فی بسم الله ، حیث أثبت العناوین التالیة7:‏

‏الرسم والخط ـ اللغة والصرف ـ القراءة ـ الحکمة والفلسفة ـ المعانی‏‎ ‎‏والبلاغة ـ الفقه ـ علم الحروف والأعداد ـ علم الأسماء والعرفان ـ النحو‏‎ ‎‏والإعراب .‏

‏وکذا ما ذکره فی الناحیة الثانیة8 فی الرحمن الرحیم ، حیث أضاف إلی‏‎ ‎‏العناوین السابقة العناوین الجدیدة : التجوید ـ الأخلاق ـ علم العروض ـ علم‏‎ ‎‏الأوفاق ـ التفسیر والتأویل علی المسالک المختلفة .‏

‏ثم زاد عند حدیثه فی الموقف الأول9 من الناحیة الثالثة حول الحمد لله  رب‏‎ ‎‏العالمین العناوین الجدیدة التالیة : علم الکلام وتاریخه ـ القراءة وفضلها ـ‏‎ ‎‏الموعظة الحسنة ؛ کما زاد عند حدیثه فی الموقف الثانی عنواناً جدیداً هو علم‏‎ ‎‏الأصول10.‏

‏واللافت هنا أمران :‏

الأول :‏ أن الراحل المکرّم عندما یتناول فی أی موضع جنبة کلامیة أو‏‎ ‎‏أصولیة أو فلسفیة أو غیرها فی تفسیره، فلیس معنی ذلک أنه یفیض ویطنب‏‎ ‎‏لینقض علیه بما نقض هو به علی السابقین من أن تفاسیرهم طغی علیها هذا‏‎ ‎‏الجانب أو ذاک ، وإنّما نراه یتناول من الموضوع ما یلامس الآیة التی هو بصدد‏‎ ‎‏تفسیرها من جهة ، ومن جهة أخری نراه یقتصر علی الإیجاز الغیر المخل‏‎ ‎‏بمطلوبه . وکمثال علی ذلک نأخذ ما ذکره عند الحدیث عن قوله تعالی : الحمد‏‎ ‎‏لله  ، وخلاف العلماء فی وجوب الشکر والحمد أو لا ، وهل الوجوب عقلی أو نقلی،‏‎ ‎‏مع إیراد استدلال الطرفین. قال رضوان الله علیه11: « وهذا من غرائب‏‎ ‎


‎[[page 246]]‎‏الاستدلالات ، وذلک لأن العقل إن کان یدرک ذلک فلا یحتاج إلی الاستدلال بالآیة ،‏‎ ‎‏وإن کان لا یدرک هذا الاستحقاق فهو من الدلیل الشرعی لا العقلی ، فکأن‏‎ ‎‏المستدل استدل بالدلیل اللفظی علی أن الدلیل فی المسألة عقلی ، وهذا الأمر لا‏‎ ‎‏یخلو من أضحوکة » .‏

‏کما نراه یقول بصدد تفنید استدلال آخر علی المسألة نفسها12: « وغیر خفی‏‎ ‎‏أن هذا التقریب من نوع الاستدلال الفقهی . . . وما فتحنا باباً لبحث الفقه‏‎ ‎‏ومسائله » .‏

الثانی : ‏أنه قدس سره ، لم یقتصر علی مجرد إیراد النظریات والأقوال فی مظانها من‏‎ ‎‏کتابه وسردها ، وإنّما کان یوردها بأمانة ودقة مشیراً إلی مصادرها فی کتب‏‎ ‎‏قائلیها ، لیناقش منها ما لا یتفق مع قناعاته ورؤاه ، ثم لیدلی بعدها باجتهاده‏‎ ‎‏الذی یستند فیه لا إلی استحسان أو هوی وإنّما یربطه إلی أصول وقواعد‏‎ ‎‏تضرب فی أعماق الفکر الإسلامی لترتبط بمعدن الإسلام المحمدی الرائق‏‎ ‎‏المأخوذ من کلمات أهل بیت العصمة علیهم السلام وبذلک اتسم تفسیره إلی جانب سمة‏‎ ‎‏التنوع بثلاث سمات أخری هی : سمة الأصالة ، وسمة الاستقصاء المنهجی ،‏‎ ‎‏وسمة الموضوعیة التی لا نعنی بها عدم التحیز وإنما النزاهة فی العرض‏‎ ‎‏والاختیار المبرهن علیه .‏

‏وعلی سبیل المثال لا الحصر ، نأخذ ما ذکره رحمه الله فی أول تفسیره لسورة‏‎ ‎‏الفاتحة ، بعد أن قسم هذا الفصل إلی مباحث13 متراتبة تدل علی صفاء ذهن‏‎ ‎‏یستشف منه مدی هضمه لخارطة بحثه ووضوح الفکرة لدیه ، وضوحاً منهجیاً‏‎ ‎‏لا غموض فیه . ومن هنا جاءت متناسقة بتسلسل تراتبی متین ، نجده یورد‏‎ ‎‏الأقوال المتعددة حول کل مبحث من هذه المباحث مع أدلتها، ثم یبدی رأیه‏‎ ‎‏المختار، ثم یستدل علیه مباشرة أو من خلال تفنیده لأدلة الأقوال الأخری. وهو‏‎ ‎‏سواء فی استدلاله المباشر أو تفنیده لأدلة باقی الأقوال، ما کان یغیب عنه‏‎ ‎‏الاستناد إلی الروایات الواردة عن أهل بیت العصمة علیهم السلام کما الواردة فی کتب‏‎ ‎‏أهل السنة؛ التزاماً منه بضرورة الوضوح المنهجی وروح الاستقصاء‏‎ ‎‏والموضوعیة المشدودة کلها إلی الأصالة کعاصم من الانزلاق وراء الهوی‏‎ ‎‏المضلّ . کیف وهو الذی یقول فی کتاب الصوم14: « اللهم اعصمنا عن الرأی‏‎ ‎


‎[[page 247]]‎‏والاستحسان والقیاس وإلغاء الخصوصیة والفهم العرفی . . . الخ » .‏

‏وفی السیاق نفسه یندرج ما سطّره (نوّر الله ضریحه) فی المسألة الثالثة‏15‎ ‎‏من المبحث الأول والذی یدور حول مکیة سورة الفاتحة أو مدنیتها ، وأنها أول‏‎ ‎‏ما نزل من القرآن أو غیرها ، وبخاصّة ما بحثه تحت عنوان : ( بحث‏‎ ‎‏وتحصیل )16، ونحن نورد ـ کشاهد هنا ـ مقطعاً صغیراً منه ذکره بصدد‏‎ ‎‏الانتصار لرأیه قال : « والذی یظهر من تتبع الآثار ومراجعة الأخبار أن الصلاة‏‎ ‎‏کانت مفروضة بمکة ، بل کان الرسول صلی الله علیه و آله یصلی قبل البعثة کما فی سیرته ،‏‎ ‎‏وقد ورد فی أحادیثنا وأحادیث العامة ما یدل علی أن لا صلاة إلاّ بفاتحة الکتاب ،‏‎ ‎‏وقضیة إطلاق هذه الأخبار وتلک التعابیر، أنه صلی الله علیه و آله ما کان یصلی بغیرها ، لظهور‏‎ ‎‏الروایات فی تقوّم طبیعة الصلاة بها مطلقاً ، فصلاته قبل البعثة کانت معها؛ فهی‏‎ ‎‏أول ما نزل، والله الموفق ، فلیتأمل » .‏

‏هذا کله کان جولة سریعة فی الجزء الأول من تفسیره رضوان الله علیه . وإذا‏‎ ‎‏ما انتقلنا لنتصفح کتاب الصوم له قدس سره تطالعنا خصائص الوضوح المنهجی‏‎ ‎‏والاستقصاء والموضوعیة والأصالة فی موارد کثیرة من بحثه خصوصاً ما‏‎ ‎‏ذکره فی الجهة الثالثة تحت عنوان : الصوم عند الأمم السابقة، وکذا فی الفصل‏‎ ‎‏الثالث من الموقف الاول تحت عنوان التعیین فی النذر وأخویه وکون المنذور‏‎ ‎‏صوماً معیناً أو صوماً علی الإطلاق . وکذا فی الفصل السادس تحت عنوان :‏‎ ‎‏اشتغال النیة بالأنواع المتعددة . . .الخ. وإذا رجعنا إلی تحریراته فی الأصول،‏‎ ‎‏فإننا سوف نخرج بنفس النتیجة التی خرجنا بها فی مراجعتنا للتفسیر. فالمنهج‏‎ ‎‏هو هو ، من حیث اشتماله علی أکثر الخصائص المذکورة آنفاً. فالوضوح‏‎ ‎‏والاستقصاء والأصالة والموضوعیة تظهر بجلاء من أول الکتاب إلی آخره .‏‎ ‎‏فأنت عندما تبدأ مع الناحیة الأولی من البحث الأول17 المتمحور حول مسألة‏‎ ‎‏موضوع العلم، یجبهک هذا المنهج بکل خصائصه . فهو ـ رضوان الله علیه ـ‏‎ ‎‏یعرض بدایةً لتاریخ المسألة ویقرر ما اشتهر بین کل علماء التحقیق من أنه لابد‏‎ ‎‏لکل علم من موضوع ، ثم ذکر بعد ذلک رأی والده الإمام قدس سره بإنکاره علیهم ما‏‎ ‎‏تبانوا علیه وصاروا إلیه ، ثم راح یسرد حجج السید الإمام بکل دقة وأمانة ، ثم‏‎ ‎‏بعد ذلک شرع فی بیان مختاره فی المسألة بقوله18: « أقول : ما أفاده ـ دام ظله ـ لا‏‎ ‎


‎[[page 248]]‎‏یورث إلا عدم الحاجة إلی بیان الموضوع وعدم تمامیة ما أفاده القوم لموضوع‏‎ ‎‏العلم ، فعلیه لا برهان علی عدم الموضوع، وإن صرح فی آخر کلامه بذلک،‏‎ ‎‏ولکنه غیر مبرهن علیه فیما قرره المقرر . والذی هو التحقیق ان مسائل کل‏‎ ‎‏علم . . .الخ » . وقد دخل هنا فی محاکمة الآراء المطروحة حول هذه المسألة‏‎ ‎‏مبتدئاً برأی والده الإمام قدس سره بأسلوب یعطیک انطباعاً قویاً بوضوح المسألة فی‏‎ ‎‏ذهن الباحث وضوحاً یجعله قادراً علی ترتیب أجزائها ترتیباً متناسقاً ، کما‏‎ ‎‏یعطیک انطباعاً بما یتمتع به الباحث من موضوعیة وأصالة واستقصاء منهجی‏‎ ‎‏لا یغفل معه قولاً ولا حجة لقول ، مما یمنحه القدرة علی الوعی الکامل لطریقة‏‎ ‎‏التعامل مع الآخر تفنیداً وتأییداً .‏

‏وکذلک تخرج بالنتیجة نفسها عندما تنتقل إلی تصفّح الجهة الأولی19 من‏‎ ‎‏المبحث الثانی من تحریرات فی الأصول ویدور حول الوضع ، ویستمر الحال‏‎ ‎‏هکذا من القناعة لدی القارئ بمنهجیة السید الشهید المشتملة علی کل العناصر‏‎ ‎‏الرائدة للبحث المنهجی السامق حتی الفصل الأخیر من الجزء الأول من هذا‏‎ ‎‏الکتاب وهو الفصل السادس فی مقدمة الواجب ، بل حتی الأمر الأخیر من هذا‏‎ ‎‏الفصل وهو الأمر الثالث عشر حیث یُدخل الباحث الکبیر هنا ـ کبحوث سبقته ـ‏‎ ‎‏خصیصة التنوع فی البحث فیتحدث فی الجنبة الفقهیة للمسألة اضافة إلی‏‎ ‎‏الجنبة الأصولیة فیقول20: « فالبحث فی المسألتین الأصولیة والفقهیة » أی‏‎ ‎‏الفرعیة . أقول : وفی هذا البحث من النظرات الثاقبة والحس العلمی المرهف‏‎ ‎‏والنقض والإبرام ما یجعل لدی المطلع قناعة تامة بما کان یتمتع به عالمنا الکبیر‏‎ ‎‏من عمق ودقةِ وعی وسموّ معرفی ، ومن أراد أن یشعر بما شعرت به عندما‏‎ ‎‏قرأت ما کتبه هنا فما علیه إلاّ أن یبادر إلی تصفحه .‏

‏بقی أن نشیر إلی خصیصة أخیرة من أهم خصائص البحث المنهجی وهی ـ‏‎ ‎‏فی الوقت نفسه ـ من خصائص وممیزات الباحث المنهجی أیضاً ، ألا وهی‏‎ ‎‏خصیصة الروح النقدیة والجرأة العلمیة ، هذه الخصیصة التی لابد لأی باحث‏‎ ‎‏مجید من أن یتصف بها حتی یأتی بحثه شاملاً ووافیاً وشافیاً. بهذه السمة‏‎ ‎‏یستطیع الباحث أن یثری العلم ویعلی من مدامیکه ویخلصه من کثیر من‏‎ ‎‏الشوائب ویفتح عیون أجیال قادمة من الباحثین علی آفاق ورؤی جدیدة ،‏‎ ‎


‎[[page 249]]‎‏ویشرع أمامهم أبواباً ومنطلقات ، ما کان لها أن تتهیأ لو اکتفی الباحث بالانفعال‏‎ ‎‏والتلقی دون الفعل والإبداع والابتکار .‏

‏وإذا عدنا إلی مفکرنا الکبیر لنحاول استکشاف هذه الخصیصة فی‏‎ ‎‏شخصیته العلمیة من خلال ما بین أیدینا من کتبه ، لفوجئنا بأنها لا تحملنا‏‎ ‎‏مؤونة الاستکشاف ومشقته؛ إذ نجدها تکشف عن نفسها بشکل سافر صارخ‏‎ ‎‏فی کل بحث من البحوث وفی کل مسألة من المسائل ، فی کل باب وفی کل فصل‏‎ ‎‏من أبواب وفصول هذه الکتب .‏

‏فلو أخذنا کتاب تفسیر القرآن الکریم للمسنا ذلک جلیاً ، وکمثال علی ذلک ـ‏‎ ‎‏لکی لا نطیل فی الاستشهاد ـ نراه قدس سره یذکر قول21 من یری عدم جزئیة البسملة‏‎ ‎‏لکل سورة فی القرآن ، ودلیله عدم معهودیة عدها من الآیات فی القرآن‏‎ ‎‏الموجود بین أیدی المسلمین کافة ، بل یشرعون فی تعداد الآیات من‏‎ ‎‏بعدها . . .الخ ، وبعد أن یورد ما احتج به هؤلاء لرأیهم نجده رحمه الله یقول :‏‎ ‎‏« وفیه : أنه تأیید ولا دلالة فیه بعدما مرّ من الأدلة علی أنها. منها ومما یشهد علی‏‎ ‎‏ما اخترناه أن فی القرآن أغلاطاً إملائیة ربما تبلغ أکثر من مئة. وما ذلک إلاّ‏‎ ‎‏لبنائهم علی التحفظ علی ما صنعه الأولون وهم جاهلون ولا عبرة‏‎ ‎‏بصناعتهم » .‏

‏ومثال آخر علی ذلک أنه قدس سره عندما یتحدث22 عن کلمة الرحمن ویتساءل ـ بعد‏‎ ‎‏البناء علی کونها عربیة ـ هل هی من المشتقات أو الجوامد ، ثم یذکر ثلاثة وجوه‏‎ ‎‏کأدلة للقائلین بأنها لیست من المشتقات ، وبعد ذلک نجده یبادر إلی رد کل هذه‏‎ ‎‏الوجوه الثلاثة بقوله : أقول : یتوجه إلی الأول . . .الخ . إلی أن یقول23:‏‎ ‎‏« فالمتحصل مما قدمناه إلی هنا أن الرحمن تارة یطلق ویکون علماً مسلوباً عنه‏‎ ‎‏الوصفیة کقوله تعالی24: «قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن » . وأخری یطلق ویراد‏‎ ‎‏منه المعنی الوصفی کقوله تعالی25: « وإلهکم إله واحد لا إله إلاّ هو الرحمن‏‎ ‎‏الرحیم . . . » إلی آخر ما أورده قدس سره.‏

‏ثم نراه یختم کلامه برد صاحبی القاموس والمفردات فیما ادعیاه فی هذا‏‎ ‎‏المقام بقوله : وما فی القاموس : الرحمة : المغفرة . أو فی الراغب : إن الرحمة فی‏‎ ‎‏الحقّ هی الإحسان المجرد دون الرقة ، فرار عن الإشکال العقلی ، ومداخلة فیما‏‎ ‎


‎[[page 250]]‎‏لا ینبغی أن یتدخل فیه اللغوی ، وتفسیر بجزء المعنی .‏

‏وعلی هذه الوتیرة ، یمضی عالمنا الکبیر مندفعاً بروح نقدیة عالیة وجرأة‏‎ ‎‏علمیة سامیة یتتبع الأقوال المختلفة والآراء المتباینة، فیصحح ما أسیء فهمه‏‎ ‎‏منها ، ویرد ما یراه غلطاً وخلطاً ، غیر متهیب أن یکون صاحب القول أو مرتئی‏‎ ‎‏الرأی من جهابذة علماء التفسیر وأعلام المفسرین ، کما فعل مع صدر‏‎ ‎‏المتألهین26، والآلوسی27، والقرطبی28، والفخر الرازی29، والشیخ الطوسی30،‏‎ ‎‏وغیرهم .‏

‏وکمثال علی ذلک نورد ذیل کلامه رداً علی ما ادعاه صاحب تفسیر المنار‏‎ ‎‏بأن مقالة من قال : إن أسرار القرآن فی الفاتحة وأسرار الفاتحة فی البسملة‏‎ ‎‏وأسرار البسملة فی الباء وأسرار الباء فی نقطتها ـ بأن هذه المقالة عند صاحب‏‎ ‎‏المنار ـ من مخترعات الغلاة الذین ذهب بهم الغلو إلی سلب القرآن خاصّته وهی‏‎ ‎‏البیان ، حیث قال رضوان الله علیه : والعذر منه ، جهله بالمعارف الإلهیة‏‎ ‎‏والرموز المخفیة عن الخواص فضلاً عنه وهو من العوام لدی أولی البصائر‏‎ ‎‏والأبصار31.‏

‏وإذا انتقلنا إلی تحریراته الأصولیة رضوان الله علیه فإن خصیصة الروح‏‎ ‎‏النقدیة والجرأة العلمیة تشتد وضوحاً وتجلیاً . ولعل سبب هذا الوضوح وذلک‏‎ ‎‏التجلی هو ما تقتضیه طبیعة البحوث الأصولیة المتنوعة الجوانب ، حیث‏‎ ‎‏یتداخل فیها البحث الأصولی مع البحوث الفلسفیة والکلامیة والفرعیة واللغویة‏‎ ‎‏والأدبیة. وتمر علینا أثناء تصفحنا للمجلد الأول من هذه التحریرات عشرات‏‎ ‎‏المواضیع التی یورد فیها أقوالاً لمشاهیر علماء الأصول وجهابذتهم ثم‏‎ ‎‏یناقشهم حججهم مفنداً لها أو معدلاً فیها لتستقیم مع ما یراه أصوب وأوفق ، أو‏‎ ‎‏لیطرح فی قبال آرائهم رأیه ویدلی بدلوه حول المسألة المبحوث عنها . ولذا‏‎ ‎‏تتکرر أمام العین أسماء لامعة فی سماء البحث الأصولی کصاحب الفصول‏‎ ‎‏والشیخ الأنصاری والمحقق الخراسانی والمحقق العراقی والمحقق‏‎ ‎‏الإصفهانی والمحقق النائینی والمحقق الحائری والعلامة الآراکی والإمام‏‎ ‎‏الخمینی وغیرهم کثیر .‏

‏وتتکرر أمام أعیننا بعد إیراد الأقوال لهؤلاء العلماء مع حججها، عباراته‏‎ ‎


‎[[page 251]]‎‏ـرحمه الله ـ فی بدایة کل نقاش تلک الأقوال بألسنة مختلفة مثل : قلت : هذا غیر‏‎ ‎‏موافق للتحقیق عندنا . أو : أقول : ما أفاده دام ظله لا یورث . أو : وهذا باطل . أو :‏‎ ‎‏وهذا أیضاً فاسد . أو : ولعمری إنه مما لا ینبغی إطالة الکلام حوله لکونه من‏‎ ‎‏اللغو المنهی عنه بداهة أن . . .الخ .‏

‏وأود أن أشیر هنا إلی ناحیة هی فی اعتقادی مثال واضح علی ما کان یتمتع‏‎ ‎‏به عظیمنا الراحل من روح نقدیة مقرونة بجرأة علمیة لافتة ، ذلک أن الإنسان‏‎ ‎‏العالم قد یستسیغ أن یعترض علی رأی لأستاذ سبقه زمنیاً أشواطاً فی میدان‏‎ ‎‏العلم ، وقد یصل به الاعتراض علی ذلک الرأی حدّ مناقشته لبیان مواطن‏‎ ‎‏الضعف والخلل فی استدلاله علیه ، أما أن یعترض إنسان عالم علی عالم آخر‏‎ ‎‏فی عشرات المسائل وفی حقول علمیة متعددة مع کون المعترض علیه سبب‏‎ ‎‏وجود المعترض فی هذه الدنیا وعلته ، وهو فی الوقت نفسه أستاذ أساتیذه ،‏‎ ‎‏مشهود له بالعمق ورجاحة العقل وسداد الرأی ، أضف إلی ذلک کله الزعامة‏‎ ‎‏الدینیة والدنیویة التی انعقد له لواؤها بلا منازع ، أن یعترض هکذا إنسان ولو‏‎ ‎‏کان عالماً مجیداً علی هکذا أستاذ ، وفی حیاته وعلی مسمع ومرأی منه، کل هذا‏‎ ‎‏یستلزم أن یکون هذا المعترض متمتعاً بشخصیة متمیزة فریدة تملک من‏‎ ‎‏الروح النقدیة والجرأة العلمیة رصیداً ضخماً . عنیت بالمعترض السید‏‎ ‎‏مصطفی رحمه اللهوبالمعترض علیه إمام الأمة والده قدس سره . وأذکر هنا کمثال مسألة‏‎ ‎‏واحدة من تحریرات فی الأصول ، یقول عالمنا32 المکرّم نوّر الله ضریحه :‏‎ ‎‏« اختار السید الوالد المحقق تبعاً لجماعة من الأعلام ـ رحمهم الله ـ أن العام غنی‏‎ ‎‏عن مقدمات الحکمة ، وغایة ما أفاده هو أن لفظة کل وسائر أدوات العموم تفید‏‎ ‎‏الکثرة ، والإضافة إلی الطبیعة تفید الکثرة من تلک الطبیعة ، والطبیعة تفید‏‎ ‎‏نفسها لا الأمر الخارج عن حدود الموضوع له ، فإذا کان الأمر کذلک فلا یستفاد‏‎ ‎‏الاستیعاب إلاّ من الوضع ومقتضی الدلالة اللفظیة .‏

‏أقول : إن التقریب المزبور یحتاج إلی التکمیل ، وذلک لعدم اقتضاء إضافة‏‎ ‎‏مفهوم الکل إلی الطبیعة فردَها ومصداقَها؛ لأن المضاف إلیه هو الطبیعة الفارغة‏‎ ‎‏عن أیة دلالة علی الفرد فرضاً ، والکل المضاف إلی هذه الطبیعة لا یفید إلاّ کثرتها‏‎ ‎‏ویلزم عندئذٍ کون الکلام غلطاً لما لا کثرة فیها ، فتفسیر قولنا : کل بیع إلی کل‏‎ ‎


‎[[page 252]]‎‏مصداق منه تفسیر بما هو الخارج عن حدود الدلالة الوضعیة ، فتلزم إما‏‎ ‎‏اللغویة ، أو للفرار عنها أن یکون المراد الکثرة الخارجیة فلا تکون لفظة کل دالة‏‎ ‎‏علی الفرد .‏

وثانیاً : ‏دلالة أداة العموم علی الاستیعاب غیر واضحة ، فإنها ربما تکون دالة‏‎ ‎‏علی الکثرة . وأما استیعاب جمیع أفراد المدخول، فهو أمر خارج محتاج إلی‏‎ ‎‏الدلیل . ونحن إذا راجعنا المحاورات العرفیة والعقلائیة نجد أن المتکلم کثیراً ما‏‎ ‎‏یستعمل أداة العموم مع أنه لا یکون فی مقام إفادة الاستیعاب بل هو فی مقام‏‎ ‎‏أضیق منه . . . » .‏

‏کما أذکر مسألة من مسائل الفقه ذکرها السید مصطفی قدس سره فی کتاب الصوم،‏‎ ‎‏تشیر بجلاء إلی نفس النقطة المحوریة التی نحن بصدد تجلیتها .‏

‏ففی مسألة ما لو کان علیه قضاء رمضان السنة التی هو فیها ، وقضاء‏‎ ‎‏رمضان السنة الماضیة فهل یجب تعیین أنه ( أی القضاء ) عن أی منهما ؟ أو‏‎ ‎‏تکفی نیة الصوم قضاء ، حیث ذکر أن مختار والده ـ رضوان الله علیهما ـ کان‏‎ ‎‏التفصیل بین صورتی سعة الوقت لإتیانهما قبل دخول شهر رمضان ،‏‎ ‎‏وعدمها ، فلا یجب التعیین فی الصورة الأولی ، بخلاف الصورة الثانیة . وبعد‏‎ ‎‏أن ردّ أکثر الأقوال فی المسألة لأکثر من فقیه، قال33: « وأما ما فی کلام الوالد مد‏‎ ‎‏ظله من أنه مع ضیق الوقت لابد من ذلک ( أی التعیین ) فهو أیضاً بلا وجه ، لأنه‏‎ ‎‏إذا قصد قضاء رمضان یقع عن رمضان المطلق ، وأما وقوعه عن رمضان الذی‏‎ ‎‏یکون موضوع الأثر فلا یحتاج إلی القصد، فبالجملة ، لا یلزم من هذه التفصیلات‏‎ ‎‏لزوم تعیین النیة ، بل یلزم ذلک إذا أُرید ترتب الأثر علیه ، وذلک نظیر ما إذا کان‏‎ ‎‏الإنسان مدیناً بدین یقابله الرهن ودین بلا رهانة ، ثم أعطی من دینه مقداراً أقل‏‎ ‎‏من مجموع الدینین ، فإنه یقع عن دینه بلا رهن ، وفی لزوم فک الرهن یحتاج إلی‏‎ ‎‏القصد الخاص . . . الخ .‏

‏حتی فی کتاب التفسیر ، عثرت علی مورد یصبّ فی الإطار نفسه . فبعد أن‏‎ ‎‏ذکر قدس سرهدعوی من یدعی أن الواضع للمعانی هو الله تعالی أو الأنبیاء والرسل أو‏‎ ‎‏الملائکة المقدسة ، وردّ تلک الدعوی، قال 34: « وکان الوالد المحقق فی بعض‏‎ ‎‏کتبه العقلیة والأخلاقیة مصراً فی تثبیت تلک المقالة وفاقاً لأرباب العرفان‏‎ ‎


‎[[page 253]]‎‏والسلوک وأصحاب الأیقان والشهود ، ولا أظن التزامه بذلک فی محله وهو‏‎ ‎‏العلوم الاعتباریة کالفقه والأصول ، فالحق أحق أن یتبع من عقول الرجال » .‏

‏بقی أن أشیر إشارة إلی محطة أخیرة فی هذا المجال ، أعتقد أنّ لها مدلولاً‏‎ ‎‏عمیقاً فی الإفصاح عما کان یختزنه أُستاذنا الشهید من حس علمی مرهف‏‎ ‎‏وعمیق تنطوی علیه روح مبدعة خلاّقة تملک إمکانات عالیة من الوضوح‏‎ ‎‏والأصالة والجرأة فی حلبة الصراع الفکری . حیث إنه رضوان الله علیه فی أغلب‏‎ ‎‏المسائل التی بحثها فی تحریراته الأصولیة وغیرها کان ـ بعد أن یقرر آراء‏‎ ‎‏الآخرین فیها ثم یناقشهم حججهم وأثناء تقریره لمختاره أو بعد تقریره ـ‏‎ ‎‏ینشئ إشکالاً محتملاً علی تقریره ثم یدفعه ، مستعملاً أسلوب إن قلت قلتُ . أو‏‎ ‎‏ولو قیل قلنا . أو أقول. وهذا الأسلوب وإن لم یکن هو المبتکر له بل کان موجوداً‏‎ ‎‏فی کتب قدامی علمائنا رضوان الله علیهم، إلاّ أنه فاقهم فی استعماله کماً وکیفاً ،‏‎ ‎‏إضافة إلی أنه أعاد له الحرارة والحیویة من جدید، بعد أن کاد یغیب عن الساحة‏‎ ‎‏العلمیة فی العصور الأخیرة . وهذا إن دل علی شیء، فإنّما یدل علی مدی فهمه‏‎ ‎‏بأذواق العلماء ، ممن سبقه أو عاصره ومدی وضوح أفکارهم وأنماطهم العلمیة‏‎ ‎‏بحیث یمکنه ذلک الفهم وهذا الوضوح من استشفاف ما سوف تکون علیه ردة‏‎ ‎‏فعلهم إزاء ما یطرحه فی قبال طروحاتهم من نقوض أو نظریات ، فیوردها هو‏‎ ‎‏ثم یردّ علیها .‏

‏کما نجده قدس سره حریصاً أشد الحرص علی توضیح مراداته وأفکاره ونظراته‏‎ ‎‏من خلال إثباته لعناوین فرعیة أثناء بحوثه أو بعدها تجدها منبثة بشکل لافت‏‎ ‎‏للنظر فی ثنایا کتبه ، ومن هذه العناوین الفرعیة : إفادة وفذلکة ، وهم ودفع ، عقد‏‎ ‎‏وحل ، إعضال وانحلال ، تتمیم ، ومیض ، إفاضة وإبانة ، تنبیه ، ذنابة ، تذنیب ،‏‎ ‎‏إیقاظ ، فرع ، تفریع . . .الخ .‏

وبعد؛‏ هذه هی خصائص المنهج الفکری لعظیمنا المحتفی به بعد استشهاده‏‎ ‎‏بعشرین عاماً ، المنهج الفکری الذی أتم رسم خطوطه ونسج خیوطه ربما قبل‏‎ ‎‏استشهاده بعشرة أعوام علی الأقل . ومعنی ذلک أن بلوغه مرحلة الاجتهاد‏‎ ‎‏بنبوغ غیر عادی کان متزامناً مع سنی بلوغه الأولی ، فَقَدّروا معی ما کان سوف‏‎ ‎‏یکون علیه هذا النابغة الفذ لو شاء الله أن یمدّ فی أجله عشر سنین أخری ، ولکنه‏‎ ‎


‎[[page 254]]‎‏قضاء الله الذی لا مردّ له یجعلنا نقف عند حقیقة تذکّرنا بألاّ نسأل عن العظماء ـ‏‎ ‎‏وهم صانعو أحداث التاریخ ـ کم عاشوا ، لأن الحیاة بالنسبة إلیهم لا تقاس‏‎ ‎‏ب(کم) السنین بل بکیفها .‏

‏وفی الختام ، أوّد أن أوجه الشکر إلی مؤسسة تنظیم ونشر تراث الإمام‏‎ ‎‏الخمینی قدس سره علی دعوتها لعقد هذا المؤتمر ، ولکنی أود فی الوقت نفسه أن أتقدم‏‎ ‎‏منها بتمنٍ أکید مع رجاء أن یأخذ القیّمون علیها هذا التمنی بجدیة وحرص .‏

أولاً : ‏إن ما وقع تحت یدی من آثار الشهید آیة الله السید مصطفی المطبوعة‏‎ ‎‏کان ملیئاً بالأخطاء ، ولا أعنی الأخطاء المطبعیة فقط بل اللغویة والنحویة‏‎ ‎‏والإملائیة ، کما أننی لاحظت بعض المواقع فی تحریرات الأصول وغیرها التی‏‎ ‎‏ربما یکون قد حصل سقط فیها أو خلط یجعل ما تضمنته من مطالب غامضاً‏‎ ‎‏غیر مفهوم المراد . ولعل ذلک حصل نتیجة غفلة بعض النساخ للأصل عنها أو‏‎ ‎‏تهاونهم فی ضبطها کما ینبغی .‏

ثانیاً : ‏أرجو إعادة النظر فی تبویب المواضیع وترتیب العناوین وضبطها‏‎ ‎‏من جدید ، إذ ربما یکون من المستحسن تقدیم بعضها وتأخیر بعض آخر .‏

ثالثاً : ‏إرفاق هذه الآثار بنبذة وافیة عن حیاة السید الشهید ونشاطه‏‎ ‎‏السیاسی والعلمی والاجتماعی تکون مقدّمة معبّرة بین یدی أی باحث لآثاره .‏

رابعاً : ‏العنایة بإخراج موسوعة آثاره حسب تسلسلها الزمنی إن أمکن بحلة‏‎ ‎‏انیقة وإطار جمیل یلیق بمکانة صاحبها العلمیة والاجتماعیة مع إلحاقها‏‎ ‎‏بفهارس علمیة مشتملة علی موضوعات جمیع تلک الآثار .‏

وآخر دعوانا أن الحمد لله  رب العالمین

‏والسلام علیکم ورحمة الله وبرکاته .‏

‏ ‏

‏ ‏

‏ ‏


‎[[page 255]]‎الهوامش

‏1 و 2 و 3 ـ تفسیر القرآن الکریم ، الجزء الأول ص 11 .‏

‏4 ـ تفسیر القرآن الکریم ، الجزء الأول ، ص 12 .‏

‏5 و 6 ـ المصدر نفسه ، ص 13 .‏

‏7 ـ المصدر نفسه، ص 57 .‏

‏8 ـ المصدر نفسه، ص 145 .‏

‏9 ـ المصدر نفسه، ص 209 .‏

‏10 ـ المصدر نفسه، ص 269 .‏

‏11 ـ المصدر نفسه، ص 247 .‏

‏12 ـ المصدر نفسه.‏

‏13 ـ المصدر نفسه، ص 17 وما بعدها .‏

‏14 ـ کتاب الصوم ، ص 219 .‏

‏15 ـ المصدر نفسه، ص 18 و 19 .‏

‏16 ـ المصدر نفسه، ص 21 .‏

‏17 ـ تحریرات فی الأصول ، الجزء الأول ، ص 21 .‏

‏18 ـ المصدر نفسه، ص 23 .‏

‏19 ـ المصدر نفسه، ص 45 وما بعدها .‏

‏20 ـ المصدر نفسه، ص 545 وما بعدها .‏

‏21 ـ تفسیر القرآن الکریم ، الجزء الأول ، ص 45 .‏

‏22 ـ المصدر نفسه، ص 149 ـ 150 .‏

‏23 ـ المصدر نفسه، ص 151 .‏

‏24 ـ الإسراء : 110 .‏

‏25 ـ البقرة : 163 .‏

‏26 ـ راجع تفسیر القرآن الکریم ، الجزء الأول ، ص 297 .‏

‏27 ـ المصدر نفسه، ص 340 و 274 .‏

‏28 ـ المصدر نفسه، ص 353 .‏

‏29 ـ المصدر نفسه، ص 170 ـ 171 ـ 236 ـ 256 ـ 359 .‏


‎[[page 256]]‎‏30 ـ المصدر نفسه، ص 40 ـ 41 .‏

‏31 ـ المصدر نفسه، ص 123 ـ 124 .‏

‏32 ـ تحریرات فی الأصول ، الجزء الثانی ، ص 475 ـ 476 .‏

‏33 ـ کتاب الصوم ، ص 107 ـ 108 .‏

‏34 ـ تفسیر القرآن الکریم ، الجزء الأول ، ص 158 ـ 159 .‏

‏ ‏


‎[[page 257]]‎

‎ ‎

‎[[page 258]]‎

انتهای پیام /*