وعلیٰ مسلک أرباب التفسیر وأصحاب الفهم والتحریر
وإذ قال: یا أیّها الـناس اذکروا «إِذْ قَالَ رَبُّکَ»؛ أی ربّکم علیٰ الـبدلیـة،
[[page 276]]والـخطاب إلـیٰ الـجنس والـنوع «لِلْمَلاَئِکَةِ»، لا لمطلق الـملائکـة، بل لطائفـة خاصّـة منهم: «إنّی»؛ أی إنّ ربّکم «جَاعِلٌ فِی» هذه «الأَرْضِ» الـتیبین أیدیکم «خَلِیفَةً» وخلفاً عنّی؛ أی ربّکم، وهذا الـفعل لغرض من الأغراض الـصحیحـة اللازم وجوده فیها، «قَالُوا»ـ فأظهروا ما فی وجودهم من الـخواطر ـ : «أَتَجْعَلُ» ـ جعلاً بسیطاً ـ وتخلق خلقاً «فِیهَا مَنْ یُفْسِدُ فِیهَا»فی الأرض؛ حسب طبیعـة الأرض وطینـة الـتراب وأمثالـه من الأرضیات والـسفلیات، «وَیَسْفِکُ الدِّمَاءَ»، ویُخلّ الـنظام، ویکون ظالـماً بعضهم لبعض وبعض أصنافهم لبعض، بل لبعض الأنواع الاُخر اللاحقـة بالأرض، فیجعلون من الـجنّ فی الـسجون، فیفسدون من جهات شتّیٰ، «وَ» الـحال «نَحْنُ» الـملائکـة «نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ» حسب الـطینـة ـ کما تعرف وتدری ـ «وَنُقَدِّسُ لَکَ» حسب اللیاقـة والاستحقاق الـمعلوم عندنا لک «قَالَ» الله ربّکم: «إِنِّی» الـذی هو الـربّ الـمتصدّی لتربیـة الـعالَم، ومخرجها من الـظلمات إلـیٰ الـنور «أ عْلَمُ مَا» ـ بعضاً من الأشیاء الـتی ـ «لاَتَعْلَمُونَ» أنتم الـملائکـة نقلاً عن غیرکم من سائر الأنواع.
وقریب منه: «قَالُوا» ـ أی الـملائکـة ـ : «أَتَجْعَلُ فِیهَا مَنْ یُفْسِدُ فِیهَا»«إِذْ قَالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَةِ إِنِّی جَاعِلٌ فِی الأَرْضِ خَلِیفَةً» إنّی أجعل فِی الأرض خلیفـة کانت هی موجودة، ولکنّها نصبت خلیفـة، کما أنّ جعل الـخلافـة بعد جعل الـوجود، وخلق الإنسان فی سائر الأقوام والـملل، فلا شأن جدید لـه تعالـیٰ فی هذا الأمر، فکان من یجعلـه خلیفـة موجوداً قبل ذلک الـزمان إلاّ أنّه لم یکن فی الأرض، بل کان فی قطر آخر من الأقطار فی الـعالـم والـفضاء.
[[page 277]]«قَالُوا أَتَجْعَلُ فِیهَا مَنْ یُفْسِدُ فِیها» مباشرة وتسبیباً «وَیَسْفِکُ الدِّمَاءَ» مباشرة بنفسـه «وَنَحْنُ» الـملائکـة «نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ»حسب ما هو الـمعروف الـمشهور عنّا «وَنُقَدِّسُ لَکَ»فی الاستقبال والـحال، وقد کنّا کذلک فی الأزمنـة الـسابقـة، ولیس ذلک رشوة لصرفک عن هذا الـجعل فی الأرض «قال إِنِّی»الـعالـم بجمیع الـجهات والـنواحی والـضواحی «أَعْلَمُ مَا لاتَعْلَمُونَ» ایّاه من الاُمور الـمختفیـة والأسرار الـمکنونـة.
وقریب منه: «وإِذْ قَالَ»؛ أی وقال «رَبُّکَ»: أیّها الرسول الأعظم فلو تغفل عن أسالیب الخِلْقة، وعمّا وقع فی السابق بالنسبة إلیٰ هذه الأرض التی أنت علیها، وبالنسبة إلیٰ ما جعله الله خلیفة، وما توجّه إلیه من الاعتراض.
«لِلْمَلاَئِکَةِ» الـقاطنین فی الأرض والـساکنین علیها، الـمتوکّلین بها وبما یجری فیها «إِنِّی» لمرّة ثالـثـة وخامسـة وعاشرة «جَاعِلٌ فِی الأَرْضِ» الـتی أنتم علیها وعلیٰ نظامها متوکّلون «خَلِیفَةً» وهی تکون تشابـه تلک الـخلائف الـسابقـة قهراً؛ لکونها فی الأرض فمدّت أعناق الـملائکـة الـخاصّـة الـمسیطرة علیٰ الأرض ـ بعنوان الاعتراض والاستشکال ـ فـ «قَالُوا أَتَجْعَلُ فِیهَا» بعد تلک الـدفعات الـکثیرة، أو بعد تلک الـمرّة أیضاً «مَنْ یُفْسِدُ فِیهَا» عالماً عامداً متوجّهاً ملتفتاً مباشرة «وَیَسْفِکُ» کذلک «اَلدِّمَاءَ»الـمحترمـة بلا حقّ واستحقاق «وَنَحْنُ»الـملائکـة الـمحیطون بهذه الأرض «نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ»مسبّحین وحامدین جامعین بین الـتنزیـه والـتحمید، غیر صانعین فیها ما یصنعـه ذلک الـمجعول حسب ما هو الـمعهود عنـه فی الـدورات الـقدیمـة والأعصار الـسابقـة «وَنُقَدِّسُ لَکَ» حسب الـخِلقـة والـطینـة خالـصاً مخلصاً؛ غیر راجین منک الـجنـة، ولا خائفین عن
[[page 278]]نارک، بل الـتقدیس الـجامع بین الـتسبیح والـتحمید لغایـة خاصّـة، وهی وجودک، ولا نظر إلـیٰ شیء آخر وراءک، ولا طمع بجنّتک ولا خوف من عقابک، بل هو فقط یکون لک. «قَالَ» معبودهم ومحمودهم الـمسبّحون لـه: «إِنِّی أَعْلَمُ مَا»أی شیئاً بل أشیاء «لاَ تَعْلَمُونَ» أنتم أیّها الـمسبِّحون الـمقدِّسون إیّاها، فإنّ فی هذا الـخلق الـخلیفـة من هو مثلکم فی الـخلوص والـتسبیح والـتقدیس، مع أنّ طبعـه وطینتـه من الاُمور الـمضادّة لذلک، وهذا هو علیّ بن أبی طالـب علیه السلام، ففی بعض أخبارنا: أنّـه قال: «ومنهم یعبدک طمعاً فی الـجنّـة، وهذه هی عبادة الاُجراء، ومنهم من یعبدک خوفاً من عذابک، وهذه هی عبادة الـعبید، وأنا عبدتُک لمّا وجدتک أهلاً للعبادة» والـعبادة تجمع الـتسبیح والـتحمید والـتقدیس.
وقریب منه: «وَإِذْ قَالَ» قولاً یشبـه الـوحی، فیکون حاصلـه من باطن الـذات لا من خرق الأصوات وضرب الأجواء وقلع الـشدائد «رَبُّکَ» الـمطلق وإلـهک الـخالـق لکلّ شیء، وقال مخاطباً إیّاک شرافـة لک وتجلیلاً لقداستک لطائفـة من «الـمَلاَئِکَـةِ» الـعارفین بکثیر من الاُمور، والـغافلین عن طائفـة منها: «إِنِّی»بصفتی الـربّ الـمربّی لزوایا الـعوالـم ولحواشی الـوجود وهوامش الـخلقـة «جَاعِلٌ فِی الأَرْضِ»وهذا الـسطح الـمستوی «خَلِیفَةً»وأمّا فی الـمیاه، فربّما کانت فیها أصناف الـحیوانات وأنواعها، وفیها الـخلفاء قبل ذلک، إلاّ أنّها مائیـة لا أرضیـة، کما ربّما تکون فی الـهواء الـموجود حول الأرض أنواع من تلک الـحیوانات، وفی الأرض حیوانات وطیور، وهی تسفک الـدماء وتفسد فی الأرض أیضاً، حسب طبع الأرض والـتراب والـهواء والـنار والـماء وسائر الـعناصر الـمادّیـة، إلاّ أنّها لیست مع
[[page 279]]کونها سافکـة الـدماء ومفسدة الأرض، شبیهـة الـملائکـة فی الـرفعـة والإلهیـة حتّیٰ تزاحمهم، وتوجب اطّلاعهم علیٰ جهلهم وفسادهم الـروحی فی بواطن وجودهم، ولأجل ذلک وذاک «قَالُوا أَتَجْعَلُ فِیهَا مَنْ یُفْسِدُ فِیهَا وَیَسفِکُ الدِّمَاءَ»غَافِلینَ عن سبق وجود الـسفّاکین الـمفسدین، وجاهلین بأنّ منشأ هذا الـقول الـشبیـه بالاعتراض، أمر روحی داخلی أجنبی عمّا ظهر عنهم قولاً، وأعربوا عن ضمائرهم تخیّلاً وفکراً، وهو یرجع إلـیٰ نحو من الـفساد وضعف الـوجود «وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ وَنُقَدِّسُ لَکَ»غفلـة عن أنّ الله تبارک وتعالـیٰ لا یصنع صنعاً لأجل الـتسبیح والـتقدیس، وجاهلین بغنائـه تعالـی عن الـتسبیح والـتقدیس:
گر جمله کائنات کافر گردند
بر دامن کبریاش ننشیند گرد
ولأجل هذا وذلک ردّ علیهم: «إِنِّی أَعْلَمُ مَا لاَتَعْلَمُونَ» أیّها الـجاهلون الـغافلون الـمعتقدون أنّـه تبارک وتعالـی یحتاج إلـی الـتسبیح والـتقدیس، وهو عین الـفساد والـکفر، وهو أکثر فساداً وأشدّ من إراقـة الـدماء بحسب الـحقیقـة، فلا تخلط.
وقریب منـه: «وإِذْ قَالَ رَبُّکَ لِلْمَلائِکَةِ» ملائکـة الـسماء «إِنِّی جَاعِلٌ فِی الْأرْضِ خَلِیفَةً» عمّا کانوا قبلهم من الأصناف والأنواع الـمختلفـة إنساً کانوا أو جانّاً أو نسناساً «قَالُوا أَتَجْعَلُ» وهل یجوز لنا أن نعلم حکمـة هذا الـخلق والـجعل؟! فإنّک فعّال لما تشاء، ولا تُسأل عمّا تفعل، وهم یُسألون، ولکن الـمطلوب اطّلاعنا علیٰ هذه الـحکمـة الـبالـغـة الـرشیدة «مَنْ یُفْسِدُ فِیهَا وَیَسْفِکُ االدِّمَاءَ»ونظراً إلـیٰ أنّ مادّة خلقهم الـطین «إِذْ قَالَ رَبُّکَ
[[page 280]]لِلْمَلائِکَةَ إِنِّی خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِینٍ»، ولازم هذا الـخلق بطبعـه ـ لا بإطلاقه ذلک؛ لما فیـه من الـشهوة والـغضب حسب ما نعرف منهم ومن ذریّتهم الـذین اُخذوا من ظهورهم، فلا یکون الـشخص الأوّل هکذا، إِلاّ أنّ الـطبع والـطینـة والـجِبِلّـة تقتضی هذه اللوازم الـفاسدة الـسافلـة «وَنَحْنُ»بحمد الله ولـه الـشکر ـ «نُسَبِّحُ بِحَمْدِکَ» ولانسفک ـ «وَنُقَدِّسُ لَکَ» ولا نفسد ونقدّسک جدّاً وکثرة لا عدد لها وشدّة لا نهایـة لها وخلوصاً لا أمد لـه «قَالَ»الله ربّکم وربّهم «إِنِّی أَعْلَمُ»وأکثر علماً بالـنسبـة إلـیٰ «مَا لاَتَعْلَمُونَ»إلاّ شبهاً منـه وسطحیاً لا واقعیاً وکُنهیّاً، أو لا تعلمون أصلاً، فما لا تعلمونـه رأساً، وتکونون جاهلین بـه علیٰ الإطلاق، نحن أعلم بـه منکم بما لا مزید علیـه ولا عدد ولا شدّة ولا حدّة لـه، فتکون بلا نهایـة من جهات شتّیٰ.
[[page 281]]