تفسیر الآیة بالآیات
«فَأَزَلَّهُمَا الشَّیْطَانُ» وهو الأعمّ من الأنواع الـمتعارفـة الـشیطانیـة، «وَکَذَلِکَ جَعَلْنَا لِکُلِّ نَبِیٍّ عَدُوّاً شَیَاطِینَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ»، «فَوَکَزَهُ مُوسَیٰ فَقَضَی عَلَیْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّیْطَانِ» مع أنّـه وکزه فکیف هو من عملـه؟! «إِسْتَحْوَذَ عَلَیْهِمُ الشَّیْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِکْرَ اللّٰهِ»، «إِنَّ الشَّیْطَانَ لَکُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً»، فهو علیٰ هذا وجود ممتزج بکثیر من الـموجودات، وجزء من کثیر من الـمرکّبات، وآدم منها.
«فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا کَانَا فِیهِ»، وهو اختفاء سوآتهما حسب الـظاهر، قال اللّٰه تعالـیٰ: «فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا» وقال فی طٰـه: «فَأَکَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا».
«وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُکُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَکُمْ فِی الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ
[[page 487]]إِلَیٰ حِینٍ»إنّ الـهبوط لـه معنیً أعمّ، قال اللّٰه تعالـیٰ: «وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا یَهْبِطُ مِنْ خَشْیَةِ اللّٰهِ»، «قِیلَ یَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِنَّا»، «إِهْبِطُوا مِصْراً».
وإنّ الأرض تُطلق علیٰ طائفـة من أراضی هذه الـکُرة الـممدودة وعلیٰ سفح الـجبال، قال اللّٰه تعالـیٰ: «وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُیِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ»، قال تعالـیٰ: «وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ»، وقال تعالـیٰ: «یَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ والْجِبَالُ»، وقال تعالـیٰ: «إِنَّک لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُوْلاً»، وقال تعالـیٰ: «یَوْمَ نُسَیِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَیٰ الأَرْضَ بَارِزَةً»، وغیر ذلک.
فیعلم منـه جواز کون الـهبوط من الـجنّـة فی الـدنیا ـ وهی علیٰ الـجبال ـ إلـیٰ الأرض الـخالـیـة ممّا فی الـجنّـة، ویجوز أن یُراد من قولـه تعالـیٰ: «مِمَّا کَانَا فِیهِ»هی الـجنّـة، وهی علیٰ تلک الـمرتفعات من الـجبال، فلا وجـه لاستفادة الاُمور الاُخر الـموجودة فی سائر الـتفاسیر وقال تعالـیٰ فی سورة الأعراف: «قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُکُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَکُمْ فِی الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَیٰ حِینٍ» من غیر فرق بین الآیتین إلاّ فی کلمتی «وَقُلْنَا» و«قَالَ»،
[[page 488]]وقال تعالـیٰ فی سورة طـه: «قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِیعاً»وحیث لـم تکن الـقصّـة إلاّ واحدة والـمخاطبـة إلاّ واحدة، فاختلاف ألفاظ الـحکایـة فی الـجمع والـتثنیـة ـ حسب الـموردین ـ لـیس إلاّ من الـتفنّن فی الـتعبیر فی ألفاظها دون واقعها.
وقد مرّ جواز مخاطبـة الـواحد بالـتثنیـة والـجمع عند اقتضاء الـبلاغـة «رَبِّ ارْجِعُونِ»، قِفا نَبْکِ مِنْ ذِکریٰ .. إلـی آخره؛ من غیر حاجـة إلـیٰ الـتأویل.
«فَتَلَقَّیٰ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ کَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَیْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّٰابُ الرَّحِیمُ»، قال اللّٰه تعالـیٰ: «إِنَّ اللّٰهَ یُبَشِّرُکِ بِکَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِیحُ عِیسَیٰ»، «وَجَعَلَهَا کَلِمَةً بَاقِیَةً فی عَقِبِهِ»، «إِنَّمَا المَسِیحُ عِیسَی بْنُ مَرْیَمَ رَسُولُ اللّٰهِ وَکَلِمَتُهُ».
فلاینحصر الـکلمـة فی الأقوال والألفاظ، فیجوز أن یُراد منها الاُمور الـتکوینیـة الـروحیـة، ولعلّ منـه قولـه تعالـیٰ: «وَإِذِ ابْتَلَیٰ إِبْرَاهِیمَ رَبُّهُ بِکَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ»، مع أنّ الـمناسبـة تقتضی أن تکون الـکلمـة الـمتلقّاة من اللّٰه، مسائل روحیـة تکوینیـة، لا قولیّـة ولفظیـة، وإنّما تُفسَّر تلک الـمعانی
[[page 489]]الـخارجیـة بالألفاظ حکایـة عنها.
«قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِیعاً فَإِمَّا یَأْتِیَنَّکُمْ مِنِّی هُدیً فَمَنْ تَبِعَ هُدَایَ فَلاَخَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلاَ هُمْ یَحْزَنُونَ» قال اللّٰه تعالـیٰ: «إِنَّ أَوَّلَ بَیْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِی بِبَکَّةَ مُبَارَکاً وَهُدیً لِلْعَالَمِینَ»، «قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّکَ... وَهُدیً وَبُشْرَیٰ لِلْمُسْلِمیِنَ».
فیتبیّن أنّ مصادیق الـهدیٰ أعمّ من الـکتاب والألفاظ وَالـتکوین، فیجوز أن یکون الـمراد هنا نفس الـرسول الأعظم الإسلامی، أو الـقرآن بوجوده الـکتبی أو الـسمعی، أو سائر الـصحف الـسماویـة والـرسل الإلهیـة والـمشاعر والـشعائر والـمؤمنین وأمیرهم علیهم الـسلام و«إِنَّ عَلَیْنَا لَلْهُدَیٰ».
ثمّ إنّـه قد وردت فی مواضع کثیرة هذه الآیـة «لاَخَوْفٌ عَلَیْهِمْ وَلاَهُمْ یَحْزَنُونَ»، وربّما تبلغ إلـیٰ اثنتی عشرة آیـة، وربّما یخطر بالـبال أنّ فی هذا الـتقدیم والـتأخیر، نظراً زائداً علیٰ وجوه الـبلاغـة ومحاسن الـجذب والـجلب؛ ضرورة أنّ من لایکون علیـه خوف یجوز أن یکون فی قلبـه الـحزن، فکأنّ الـخوف ظاهرة آثاره فی الـبدن والأجسام والـحزن فی الـقلب وفی الأرواح، قال اللّٰه تعالـیٰ: «تَتَنَزَّلُ عَلَیْهِمُ المَلاَئِکَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَتَحْزَنُوا»، وفی بعض الأخبار: «المؤمن حُزْنه فی قلبه وبِشْره فی
[[page 490]]وجهه»، وقال اللّٰه تعالـیٰ: «لاَتَخَفْ وَلاَتَحْزَنْ».
«وَالَّذِینَ کَفَرُوا وَکَذَّبُوا بِآیَاتِنَا أُولٰئِکَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِیْهَا خَالِدُونَ»، الآیات الـکلامیـة الـسمعیـة والـعینیـة الـمادّیـة، الأرضیـة والـسماویـة، والـروحیـة الـقلبیـة، قال تعالـیٰ: «مَا نَنْسَخْ مِنْ آیَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَیْرٍ مِنْهَا»، «لَوْلاَ یُکلِّمُنَا اللّٰهُ أَوْ تَأْتِینَا آیَةٌ»، «وَقَالَ لَهُمْ نَبِیُّهُمْ إِنَّ آیَةَ مُلْکِهِ أَنْ یَأْتِیَکُمُ التَّابُوتُ»، «وَانْظُرْ إِلیٰ حِمَارِکَ وَلِنَجْعَلَکَ آیَةً لِلنّٰاسِ»، «أَنِّی قَدْ جِئْتُکُمْ بِآیَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ»، «تَکُونُ لَنَا عِیداً لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآیَةً مِنْکَ»، «هَذِهِ نَاقَةُ اللّٰهِ لَکُمْ آیَةً»، «فَالْیَوْمَ نُنَجِّیکَ بِبَدَنِکَ لِتَکُونَ لِمَنْ خَلْفَکَ آیَةً»، «وَکَأَیِّنْ مِنْ آیَةٍ فِی السَّمَـٰوَاتِ وَالأَرْضِ یَمُرُّونَ عَلَیْهَا»، «وَجَعَلْنَا اللَّیْلَ وَالنَّهَارَ آیَتَیْنِ»، ففی کلّ شیء لـه آیـة من کفر بها وکذّب، اُولئک أصحاب الـنار هم فیها خالـدون. وقد ورد أربع وثمانون مرّة فی
[[page 491]]الـکتاب الـعزیز کلمـة آیـة، فلیراجع.
«خَالِدُونَ» قد مرّ الـبحث حول الـخلود ـ حسب الـموازین الـمحرّرة عندنا ـ فی «قواعدنا الـحِکَمیـة» و«تحریراتنا الاُصولیـة»، قال اللّٰه تعالـیٰ: «وَمَا هُمْ بِخَارِجِینَ مِنَ النَّارِ»، «یُرِیدُونَ أَنْ یَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِینَ مِنْهَا»، «کُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ یَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِیدُوا فِیهَا»، «کُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ یَخْرُجُوا منْهَا أُعِیْدُوا فِیهَا»، «رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ».
[[page 492]]