الجهة الرابعة: فی أنّ الثواب والعقاب بالاستحقاق أم بشیء آخر
هل العقاب والثواب بالاستحقاق، أو کلاهما بالتفضّل الإلهیّ، أم العقاب بالاستحقاق، دون الثواب، أو لا بالتفضّل، ولا بالاستحقاق، أو یکون العقاب من التفضّل، والثواب بالاستحقاق؟ وجوه واحتمالات وأقوال .
لایصحّ لنا ولایجوز لباحث العلوم الاعتباریّة، التدخّل فی هذه العلوم الغریبة عن أذهان العالمین منهم، فضلاً عن المحصّلین، ولنا فی هذه المباحث مکتوبات اُخر، من شاء فلیراجع ما هناک. ونشیر إشارة إجمالیّة من غیر النظر التصدیقیّ إلیٰ ماهو الحقّ، ولکن نشیر إلیٰ بعض ما قیل من المذاهب الفاسدة:
فالأشعریّ یقول: بأنّ الله تبارک وتعالیٰ یصنع فی ملکه ما یشاء، فیعذّب مَن
[[page 163]]یشاء ویعطی من یشاء بیده الملک ولیس لأحد أن یتدخّل فی سلطانه، ویتجاوز فی حکومته، فالعقاب والثواب لیسا بالاستحقاق؛ لأنّ العباد مجبورون فی أفعالهم، وإذا کانوا کذلک فلایستحقّون العقاب، ولکن یجوز له تعالیٰ ذلک.
ولایحتاج سوء مقالته ومبناه إلیٰ تجشّم الاستدلال.
والمعروف عن المذهب : أنّ الثواب والعقاب بالاستحقاق.
ونسب إلی المفید وجماعة : أنّ الثواب بالتفضّل، والعقاب بالاستحقاق.
والذی ظهر لک ممّا قد مضیٰ: أنّ العقاب والثواب علی المسلک الأوّل لیسا بالتفضّل، ولا بالاستحقاق. وعلی المسلک الثانی فالعقاب بالاستحقاق، والثواب وإن لم یکن بالاستحقاق، ولکنّه یجب علیه تعالی الوفاء بالوعد؛ فإنّ التخلّف إمّا کذب، أو قبیح إن کان إنشاءً.
ویمکن دعویٰ : أنّه بالاستحقاق؛ لأنّ ما قیل: «من أنّ الإنسان بجمیع قواه الملکیّة والملکوتیّة وجمیع معدّات فعله، مملوکه تعالیٰ» خروج عن الطرق العقلائیّة المتّبعة فی هذه المباحث، فکما أنّ العقاب بالاستحقاق وإلاّ فیمکن تقریب ذلک بوجه لایستتبع الخیر، ولا استحقاق العقاب، کذلک الثواب بالاستحقاق. وهذه الدعویٰ قریبة جدّاً.
وأمّا علی المسلک الثالث، فهو أیضاً لایخلو من أحد مسلکین؛ من حیث إنّ
[[page 164]]العقاب والثواب من التوابع القهریّة، أو من قبیل الجعالة، ولکنّه ثالث المسالک فی الموضوع الذی یستتبع ذلک العقاب والثواب.
مثلاً : علی المسلک الأوّل إتیان الصلاة عبادة ، یستتبع قهراً صورة ملذّة، وعلی الثانی یورث استحقاقها، أو بالتفصیل ، والثالث یقول: بأنّ تلک الصورة ـ سواء کانت بالاستتباع أو بالتفضّل والاستحقاق ـ لاتحصل إلاّ إذا انطبق علی المأتیّ به عنوان «الإطاعة والامتثال» المتقوّم بالأمر، فلایعدّ هذا مقابل المسلک الأوّل والثانی فی کیفیّة العقاب، فما یظهر من تقریرات الوالد ـ مدّظلّه لایخلو من غرابة.
فعلیٰ هذا، إن کان یقول بعد تحقّق الطاعة مثلاً بالاستتباع، فلا استحقاق، ولاتفضّل، وإن کان یقول بالثانی، فیستحقّ العقاب، بل والثواب علی التقریب المشار إلیه.
إن قلت : بناء العقلاء فی الممالیک عدم الاستحقاق. نعم فی الاُجراء یثبت استحقاق اُجرة المثل.
قلت : لا نسلّم ذلک فیما إذا جعل المولی علی العبید جعالة حذاء أفعالهم وأشغالهم، مثلاً لو قال المولیٰ لعبده : «اصنع کذلک فلک علیّ کذا» فإنّه یستحقّ عند القوم علیه جعله بالضرورة.
ولا اُرید أن أقول : إنّ العبد یستحقّ علی الربّ شیئاً، حتّیٰ یعدّ من التجاسر، نعوذ بالله تعالیٰ من ذلک، بل المقصود إثبات استحقاق العبد بالنسبة إلی الجعل والاُجرة المجعولة؛ وأنّه یثبت له حقّ علیٰ ذلک المجعول، فلاتخلط.
ثمّ إنّه غیر خفیّ : أنّ مع عدم ثبوت الاستحقاق، یکون الامتثال والإطاعة والإتیان بالأعمال الحسنة، مرجّحاً لتوجیه التفضّلات الإلهیّة بالنسبة إلیه، وإلاّ فلو
[[page 165]]کان هذا العبد العاصی متساوی النسبة بالنسبة إلیها، فهو من الغلط، ولایقول به مثل المفید، فنفی الاستحقاق لیس معناه استواء النسبة، فافهم وتدبّر جیّداً.
[[page 166]]