إرشاد وإفاضة : فی إثبات العقاب بمعنی اللوازم القهریة للأفعال السیئة
اعلم : أنّ العقاب بمعنی اللوازم القهریّة والآثار والخواصّ للأفعال والتروک المنهیّة؛ علی الوجه الماضی تفصیله، ممّا ثبت بالکتاب والسنّة فی الجملة، وبمعنی الموجود الخارجیّ فی البرزخ والقیامة، فیکون «القبر حفرة من حفر النیران» ممّا یساعده الکتاب والسنّة، وفیه خلاف بین أهالی المعقول البرهانیّین، ولکنّه عندنا ممّا لا برهان علی امتناعه؛ بعد اعتضاده بالظواهر النقلیّة، بل یشهد علیه الشواهد والمکاشفات القطعیّة، بل هو قضیّة بعض البراهین المحرّرة فی محلّها.
وملخّص البحث فی هذه المرحلة : أنّ الإنسان ـ بما أنّه فی هذه النشأة، مشفوع بالأخلاق الرذیلة، والملازمات الکدرة، والسجایا الخبیثة، والرذائل اللعینة ـ یحتاج إلی التصفیة فی هذه النشأة من جمیع هذه الاُمور؛ لاقترانها بالمادّة والمدّة، فإن حصل له الصفاء الباطنیّ من تبعیّة الأنبیاء فی الدستورات والفرامین، وصار لائقاً بالفوز بالجنّة، ودخول المحافل الإلهیّة، والحشر مع الوجودات الطیّبة فهو.
وإلاّ فلابدّ من تهذیبه عنها فی الأعقاب والعقبات المتأخّرة؛ بتوسّط الملائکة الإلهیّة بما یتوجّه إلیه من أوّل الأمر ـ وهو حال النزع ـ إلیٰ آخر منازل البرزخ وأحکامها، فإن حصلت له تلک البهجة ، وذلک التجلّی والجلوة الطاهرة، فیدخل فی زمرة الأولیاء والأصفیاء، ویلیق أن یتشرّف بالمحضر الربوبیّ فی جنّة النعیم.
[[page 166]]وإن لم یخلص من تلک المضیقات ولم یتحلّ بالحلیة الإلهیّة وبالجلباب الملکوتیّ، وبقی فی السجّین، فالرحمة الإلهیّة لا تغادره، وتشمله حتیٰ لایبقیٰ علیٰ حاله مع تلک الرفقاء والأصدقاء المؤذیة وغیر المأنوسة التی لیست من جنسه، بل تکون من الأجناس الشیطانیّة والشهویّة والغضبیّة، فتکون النار الخارجیّة، کالنار المحماة التی یستعملها أرباب الصنائع لتخلیص الذهب والفضّة من الرصاص والنحاس، فإنّ الذهب بلسان ذاته ینادی ویشتهی تلک النار؛ حتّیٰ تخلّصه من هذا الصدیق وجارالسوء، وإلیه یشیر قوله تعالیٰ: «وَنَزَعْنَا مَا فی صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ».
فإن حصلت له اللیاقة بعد ذلک لیدخل دار البقاء، ویصاحب الأنبیاء والمؤمنین فهو، وإلاّ فیبقیٰ فی الجحیم خالداً مادامت السماوات والأرض إلیٰ ما شاء الله تعالیٰ.
فبالجملة : آخر الدواء الکیّ، فالکیّ دواء ورحمة من الله تبارک وتقدّس، فانظر إلیٰ قوله تعالیٰ کیف عدّ العذاب من الآلاء: «یُرْسَلُ عَلَیْکُما شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَتَنْتَصِرَانِ* فَبِأیِّ آلاءِ رَبِّکُمَا تُکَذِّبَانِ».
فعلیٰ هذا یمکن أن یقال : بأنّ الجنّة التی هی ظلّ النفس الراقیة، لیست بالاستحقاق، ولکنّ الجنّة الموجودة فی الآخرة والبرزخ فی القوس النزولی بالاستحقاق؛ علی الوجه المشار إلیه.
والعقاب الذی هو تبعة الملکات الباطلة والرذیلة، لیس بالاستحقاق بالمعنی المتعارف منه، وإلاّ فهو أیضاً بالاستحقاق؛ لأنّه من قبل سوء الاختیار ابتلی به.
والعقاب الذی هو فی البرزخ والقیامة بالتفضّل؛ لأنّه تعالیٰ ـ إنعاماً علی
[[page 167]]العباد، وإرفاقاً بهم؛ حتّیٰ یتسرّع فی إزالة الرذیلة المؤذیة الأبدیّة بالنار وطبقاتها ـ أوقدها. فلیعذرنی إخوانی فی الخروج عمّا یناسب هذا الفنّ، ومن کان أهلاً لبعض المطالب یکفیه ذلک، ولیس ما وراء عبّادان قریة.
فذلکة الکلام فی المقام : هو أنّ اللطف العامّ الإلهیّ، والمحبّة الکاملة الربّانیة، کما تؤدی إلیٰ إرسال الرسل، وإنزال الکتب فی هذه النشأة المادّیة، کذلک تقتضی العنایة الربوبیّة والحکمة البارعة الإلهیّة؛ أن لایخیب العبد بدعائه واستغاثته بإرسال الزبانیة واللهبات الناریّة؛ لقلع مادّة الفساد، ونزع التبعات الحاصلة من الملکات والاستعدادات فی النشآت، برزخیّاً کانت، أو قیامة، والله العالم بحقائق الاُمور، فانزع اللهم ما فی الصدور یا ألله .
[[page 168]]