بحث وتحصیل : فی الفرق بین الأمر والنهی من ناحیة المرّة والتکرار
لاشبهة فی أنّ النهی والأمر سیّان بحسب المتعلّق، ولایختلف حکمهما العقلائیّ من جهة لزوم الامتثال إلاّ مع قیام القرینة، ویکون مفاد النهی هی الحرمة، کما یکون مفاد الأمر هو الوجوب لا من ناحیة الوضع، بل من جهة الإطلاق؛ حسبما تقرّر منّا فی المراد من «الإطلاق» فی هذه المقامات.
وقد أشرنا إلیٰ عدم اعتبار العلوّ ولا الاستعلاء فی مادّة النهی، وهکذا فی
[[page 95]]صیغته، کما مرّ تفصیله فی الأوامر.
ثمّ إنّ من الواضح عدم دلالة الأمر علی المرّة والتکرار لا بمادّته ولا صیغته.
ونتیجة ذلک: أنّه عند الامتثال یسقط الأمر، وهکذا عند العصیان؛ لأنّ حقیقة العصیان هی العجز عن الامتثال بسوء الاختیار، کما عرفت تفصیله فی مباحث الترتّب. والعجب أنّ السیّد الاُستاذ البروجردیّ توهّم: أنّ العصیان لایورث السقوط!! غافلاً عن أنّ العصیان لیس إلاّ ما اُشیر إلیه.
وإذا کان الأمر کذلک، فمقتضی المشارکة کون النهی مثله فی هذه الجهة، فإذا نهی المولیٰ عن الغصب، أو عن شرب الخمر، فإنّ النهی لابدّ وأن یسقط بالامتثال والعصیان، فلو ترک الغصب وانزجر عن المنهیّ وانتهی عنه مرّة، فقد امتثل النهی، فلا معنیٰ لبقائه بعد ذلک کما فی الأمر، وهکذا إذا غصب أو شرب الخمر، فلا معنی لبقاء زاجریّته بالنسبة إلی الطبیعة؛ قضاءً لحقّ المشارکة، فإنّ ماهو فی ناحیة الأمر هی المادّة، وهی مشترکة بینهما، والصیغة وهی واحدة بحسب الإفادة والدلالة. هذا حسب الصناعة وقضیّة المشارکة.
مع أنّ الضرورة قائمة علیٰ أنّه فی جانب النهی لابدّ من استمرار العدم، وإذا تخلّف وعصیٰ لابدّ وأن لایعذر؛ لأنّه یصیر عصیاناً ثانیاً وثالثاً وهکذا.
وبعبارة اُخریٰ: لابدّ من الامتثال عقیب الامتثال فی جانب النهی، فلو امتثل النهی بترک المحرّم فلایسقط النهی، ولو عصاه أیضاً کذلک، فما الفرق بین الأمر والنهی، مع أنّه فی جانب الأمر یکون الامتثال والعصیان واحداً، وفی جانب
[[page 96]]النهی یتعدّدان، مع أنّ المادة فی کلیهما واحدة، ولا اقتضاء للهیئة إلاّ الزجر عنها أو البعث إلیها؟!
وإن شئت قلت: إنّ فی هذه المسألة معضلة ذات جهتین؛ لأنّه إن قلنا: بأنّ امتثال النهی واحد؛ لأنّه إذا منع من شرب الخمر فترکه مدّة عمره، لایکون إلاّ ممتثلاً بالنسبة إلی النهی الواحد، فلابدّ من کون العصیان واحداً، ولایعقل النهی الواحد والامتثال الواحد مع کون العصیان متعدّداً.
وإن قلنا: بأنّ الامتثال أیضاً یتعدّد حسب الآنات، أو حسب الإمکانات، فهذا أیضاً مشکل آخر؛ ضرورة عدم اقتضاء للنهی إلاّ مثل الأمر، والتعدّد فی الجانبین یحتاج إلیٰ جهة تقتضیه، وهی منتفیة علی الفرض.
فتوهّم: أنّ مقدّمات الإطلاق فی جانب الأمر، مختلفة الاقتضاء مع مقدّماته فی جانب النهی، فی غیر محلّه؛ لأنّ المفروض أنّه فی کلا الجانبین تکون المقدّمات تامّة، وأنّ ماهو المقصود من الإطلاق فی جانب الأمر، هو المقصود فی جانب النهی؛ وهو البعث إلی الطبیعة، أو الزجر عنها بما هی هی؛ من غیر النظر إلی الأمر الآخر وراءها.
أقول أوّلاً: إنّ الشبهة والعویصة فی مقابل البدیهة لاترجع إلیٰ محصّل، فلو عجزنا عن توضیح الفرق بین الأمر والنهی فی هذه المسألة، ولکن لایلزم منه الخدشة والمناقشة فیما یحکم به العقلاء، وتدرکه العقول الساذجة التی هی المتّبعة دون الآراء العلمیّة، نظیر ما مرّ فی بحث الأوامر؛ وإنّ بناء العقلاء علیٰ أنّه للوجوب، واختلفوا فی وجه ذلک اختلافاً شدیداً من غیر سرایة الخلاف إلیٰ أصل المسألة المفروغ عنها عندهم.
[[page 97]]وثانیاً: قد ذکروا وجوهاً لبیان الفرق ناظرین إلیٰ إحداث السرّ العلمیّ وکشف النکتة العقلیّة:
أحدها: أنّ مسألتنا هذه من قبیل المسألة المعروفة فی الأدب؛ وهی أنّ النکرة فی سیاق النفی تفید العموم، بخلاف ما إذا وقعت فی سیاق الإثبات، فإذا قیل: «رأیت واحداً» فلایدلّ إلاّ علیٰ أنّه رأیٰ واحداً من الآحاد، وإذا قیل: «مارأیت أحداً» فهو نفی العموم.
وفیما نحن فیه یکون الأمر کذلک؛ ضرورة أنّ النهی یتعلّق بالطبیعة التی هی النکرة؛ لأنّ المراد من «النکرة» هو نفس الطبیعة، لا النکرة الاصطلاحیّة، ولذلک إذا قال: «مارأیت الواحد» وکان «الألف واللام» للجنس یفید العموم کما نشیر إلیه أیضاً.
فإذا قال المولیٰ: «لاتصلّی أیّام أقرائک» تکون الصلاة مورد النفی حکماً، وتصیر النتیجة ماهو مرتکز العقلاء من لزوم الامتثال عقیب الامتثال وعقیب العصیان.
وإن شئت قلت : إنّ الإطلاق فی جانب الأمر إطلاق بدلیّ، وفی جانب النهی شمولیّ ینحلّ النهی إلیٰ نواهٍ کثیرة، فإذن لابدّ من الامتثال عقیب الامتثال وعقیب العصیان؛ لتعدّد النهی.
أقول: قد ذکرنا فی بعض البحوث أنّ ما اشتهر: «من أنّ النکرة فی سیاق النفی تفید العموم» غیر تامّ وضعاً؛ لأنّ عنوان «الأحد» موضوع لما یصدق علیٰ
[[page 98]]کلّ فرد علی البدل، وإذا قال: «رأیت واحداً» صحیح إذا کان تعلّق رؤیته بفرد، وإذا قال: «مارأیت أحداً» وکان نظره إلیٰ نفی تعلّق رؤیته بزید صحّ؛ لما یصدق علیه أحد، فهو أیضاً صادق وصحیح بالضرورة.
نعم، النکرة فی سیاق النفی تفید فائدة العموم حسب الإطلاق عرفاً، وعند ذلک یتوجّه الإشکال المزبور فی الفرق بین الأمر والنهی إلیٰ هذه المسألة، ولایخصّ بکون المتعلّق نکرة، بل لو کان المتعلّق محلّی ب «الألف واللام» للجنس تأتی الشبهة، ویفید العموم أیضاً، فإذا قیل: «مارأیت الأحد» وکان النظر إلیٰ نفی الجنس، فهو أیضاً مثل النکرة، ولأجل ذلک یشبه مانحن فیه من هذه الجهة کما مرّ.
وأمّا تقسیم الإطلاق إلی البدلیّ والشمولیّ، فهو غلط کما تقرّر فی محلّه. مع أنّ هذا لیس من حلّ المعضلة، بل هو من قبیل التمسّک بفهم العقلاء فیها، وهو أمر مفروغ عنه، فلاتخلط.
هذا مع أنّ الانحلال یحتاج إلی المحلّل، ومجرّد قصد المتکلّم وغرضه لایکفی للزوم المجازیّة، فلو کان مقصوده النهی عن المصادیق، لکان ینبغی أن یقول: «یحرم علیک کلّ صلاة» أو یقول: «لاتوجد کلّ صلاة» فتدبّر.
ثانیها: قد اشتهر فی الکتب العلمیة حتّیٰ فی بعض صحف عقلیّة: «أنّ الطبیعة توجد بوجود فرد ما، وتنعدم بانعدام جمیع أفرادها» فإذا تعلّق الأمر فلابدّ من وجود فرد ما حتّیٰ یمتثل الأمر، وإذا تعلّق النهی بها فلابدّ من إعدام جمیع الأفراد حتّیٰ تنعدم الطبیعة.
[[page 99]]فإن قلنا: بأنّ مفاد النهی طلب إعدام الطبیعة فالأمر واضح، ولابدّ من أن یعدم جمیع الأفراد حتّیٰ یتحقّق مطلوب المولیٰ.
وإن قلنا: بأنّ مفاده الزجر والمنع علی الوجه الذی عرفت منّا، فلازمه العقلائیّ هو استمرار العدم الأزلیّ السابق علیها، المجتمع معها، وهذا لایعقل إلاّ بترک الطبیعة المطلقة؛ لانتقاضه بإتیان فرد منها، وهو خلاف مفاد النهی قطعاً.
وبالجملة: یحصل الفرق بین الأمر والنهی من ناحیة کون الطبیعة فی جانب النهی، موردَ الزجر والإعدام، وبما أنّها تکون کذلک فلابدّ من إعدام جمیع الأفراد حتّیٰ یتحقّق الامتثال، بخلاف الأمر.
ویتوجّه إلیه أوّلاً: أنّ قضیّة ما تقرّر فی محلّه هو أنّ الطبیعة موجودة بنفسها، وما اشتهر: «من أنّ معنیٰ وجود الطبیعیّ بمعنیٰ وجود أشخاصه» غیر موافق للتحصیل، فإذا کانت الطبیعة بما هی هی مسلوب عنها الوجود والعدم، والوحدة والکثرة، وکانت العوارض تلحقها لموجبات خارجة عنها، فهی واحدة ومتکثّرة، وإذا کانت هی کثیرة فی الخارج، ولها الوجودات والأفراد الکثیرة، فلها الأعدام الکثیرة؛ ضرورة أنّ نقیض الکثیر کثیر، ونقیض الواحد واحد، وتلک الأعدام هی الأعدام البدیلة عن الموجودات التی تخصّ بها، فإذن لا أصل لما اشتهر فی عرف الأصحاب.
وإن شئت قلت: ماهو موضوع القضیّة الاُولیٰ وهی «الطبیعة توجد بوجود فرد ما» هی المهملة، وهی تنعدم بانعدام فرد ما، وما هو الموضوع فی القضیّة الثانیة وهی «الطبیعة تنعدم بانعدام جمیع الأفراد» هی الملحوظة ساریةً علیٰ فرض
[[page 100]]إمکانها، وهی توجد بوجودات جمیع الأفراد.
إن قلت : هی قاعدة عقلائیّة.
قلت: لا حاجة إلی التمسّک بها لبیان الفرق؛ بعد اتضاح حکم العقلاء بالفرق بین الأمر والنهی فی هذه المسألة، فإن نظرنا إلی إثبات الفرق عقلاً بعد کون المادّة الواقعة تلو الأمر عین المادّة الواقعة تلو النهی، مع أنّ الأمر والنهی لایدعوان إلاّ إلیٰ نفس الطبیعة، وتکون ماهی من الطبیعة فی جانب الأمر عینها فی جانب النهی، وهو نفسها اللابشرط التی یمکن وجودها فی الخارج، فیکون امتثالاً للأمر، وعصیاناً للنهی، دون سائر اعتباراتها.
وثانیاً: لو کان مفاد القاعدة المعروفة ما صدّقه القوم، لأصبحت المسألة أشدّ إشکالاً وأصعب حلاًّ؛ وذلک لأنّ مقتضیٰ کون انعدام الطبیعة بانعدام جمیع أفرادها، کون الامتثال فی جانب النهی واحداً بترک جمیع الأفراد، وإذا کان الامتثال واحداً فیلزم کون العصیان واحداً؛ لعدم معقولیّة تصوّر العصیانات الکثیرة مع وحدة الأمر، ووحدة الإطاعة والامتثال، وهذا ممّا لایلتزم به أحد، ولایمکن تصوّره، کما مضیٰ فی صدر البحث.
وثالثاً: قد تقرّر أنّ حکم العقلاء علی تعدّد الامتثال فی جانب النهی، ونجد أنّ من ینزجر وینتهی عن زجر المولیٰ ونهیه، یعدّ ممتثلاً لنهیه، ولایسقط النهی بمثله بالضرورة.
فتلک القاعدة لیست عقلیّة ولا عقلائیّة إلاّ فی بعض المقامات، کما فی استصحاب الکلّی، فإنّه إذا کان فی البیت إنسان یحکم بوجود الطبیعة فیه، وإذا خرج منه الأفراد الکثیرة وبقی واحد یقال: «الإنسان فی البیت باقٍ» کما یقال: «نوع
[[page 101]]الإنسان باقٍ، ونوع کذا غیر باقٍ» فافهم واغتنم.
ثالثها: لنا أن نقول: إنّ مفاد النهی هو الزجر أو طلب العدم، ولکن هنا حکم عقلائیّ آخر؛ وهو أنّ المولیٰ یرید إبقاء العدم الأزلیّ الثابت للطبیعة المجتمع معها، ویتوسّل بالنهی إلی استمراره، ویکون طارد العدم المزبور مبغوضاً، وهو شرب الخمر وغیر ذلک.
وهذا النحو من العدم مقابل صِرْف الوجود الذی اعتبرناه فی ناحیة الأمر، وقد فرغنا من تصویر الصِرْف، والفرق بینه وبین الطبیعة فیما سلف، فما یظهر من العلاّمة المحشّی إشکالاً علی الصرف وعلی العدم المزبور، غیر راجع إلیٰ محصّل، فراجع.
وإن شئت قلت: إنّ الأعدام البدیلة المتصوّرة بکثرتها بعد اعتبار الوجودات الکثیرة للطبیعة مثلاً، إذا وجد أفراد من الإنسان، فبانعدام کلّ فرد یکون هناک عدم بدیل لذلک الوجود، ولکن الأمر فیما نحن فیه لیس کذلک؛ لأنّ الطبیعة المنهیّ عنها لا مصادیق لها حتّیٰ تکون لها أعدام بدیلة عند الانعدام، ولایتصوّر العدم البدیل إلاّ بعد الوجود خارجاً، وأمّا قبل تحقّق الطبیعة فلا کثرة لها حتّیٰ تتکثّر أعدامها، بل الطبیعة قبل تحقّقها یعتبر لها العدم الواحد الأزلیّ المجامع حسب أجزاء الزمان، ویکون ذلک العدم عدم البدیل حسب الزمان الحالیّ، والناهی عن المنکر یرید إبقاء العدم المزبور.
مثلاً: النهی عن إیجاد العنقاء بناءً علیٰ إمکان إیجادها، لایعقل أن ینحلّ إلی الأعدام؛ لأنّها أعدام تصوّریة تخیّلیة مضافة إلی الأفراد المقدّرة، وهی لیست عدم
[[page 102]]الفرد من الطبیعة؛ لأنّ الأفراد المقدّرة لیست أفراداً واقعیّة، فذلک العدم الثابت فی الأزل للعنقاء مورد الطلب، ویکون المقصود استمراره بالزجر عن الطبیعة حسب حکم العقلاء وإن لم یکن العدم بعنوانه مورد النهی، کما مضیٰ تحقیقه.
فبالجملة تحصّل: أنّه فی النهی یرید الناهی الزجر عن الطبیعة، لا إعدام الأفراد الموجودة وعند ذلک ـ وهو الزجر عنها ـ لایعتبر إلاّ إبقاء العدم الواحد السابق؛ حتّیٰ یکون بدیلاً فی الآن اللاحق.
أقول: لو تمّ هذا التقریب فالنتیجة وحدة النهی، ووحدة الامتثال، وقضیّة ذلک وحدة العصیان، وهو أفحش فساداً من أصل المعضلة، کما عرفت مراراً.
رابعها: تقریب أفاده العلاّمة المحشّی قدس سره قریب ممّا أفدناه، وتتوجّه إلیه الإشکالات التی ذکرها الوالد المحقّق ـ مدّظلّه ومن شاء فلیراجع «الحاشیة»، و«تهذیب الاُصول».
خامسها: أنّ المبغوضیّة والمحبوبیّة الموجودتین فی جانب النهی والأمر، تتصوّر علیٰ أنحاء:
فتارة: تکون بنحو العامّ الاستغراقیّ.
واُخریٰ: بنحوالعام المجموعیّ.
وثالثة: بنحو صِرْف الطبیعة.
ورابعة: بنحو صِرْف الوجود.
وهناک قسم آخر خامس یطلب من مقام آخر.
[[page 103]]فإذا کان المولیٰ فی جانب الأمر محبّاً بنحو العموم الاستغراقیّ، فلابدّ وأن یأمر ـ علی الوجه المزبور ـ بإتیان أدوات العموم. وإذا کان محبّاً للطبیعة بنحو العامّ المجموعیّ فلهذا یتوسّل بالقرینة. وهکذا فی صورة کون المطلوب صرف الوجود.
وأمّا إذا کان المطلوب نفس الطبیعة، فلایحتاج إلیٰ نصب القرینة؛ لأنّه بمجرّد الأمر بها مجرّداً عن القرائن علی الوجوه الاُخر، یکون عدم إتیانه بالقرینة علیٰ سائر الوجوه، قرینةً علیٰ أنّ ماهو مورد الطلب هو نفس الطبیعة، لا الأمر الآخر، بل لا حاجة إلی التمسّک بهذه القرینة العدمیّة؛ لأنّه هو مقتضیٰ نفس تعلّق الأمر بالطبیعة.
وربّما یقال: إنّ مقدّمات الحکمة هنا تقتضی کون الإتیان بالفرد کافیاً؛ لأنّه لایعقل طلب الطبیعة علیٰ نعت العموم الاستغراقیّ.
وفیه ما لایخفیٰ؛ ضرورة أنّ الطلب بنحو العموم الاستغراقیّ ممکن؛ لأنّ المقصود بعث المکلّف نحو إیجاد الأفراد بقدر الإمکان.
نعم، العموم المجموعیّ غیر ممکن طلبه، ولاسیّما بالنسبة إلی الأفراد العرضیّة والطولیّة معاً.
هذا مع أنّ مقدّمات الحکمة لاتقتضی ذلک؛ لما عرفت : من أنّ نفس تعلّق الأمر بالطبیعة، یقتضی الکفایة بالمرّة وإن کانت المقدّمات معدومة. هذا کلّه فیجانب الأمر.
وأمّا فی جانب النهی فهناک تقریبان:
الأوّل: أنّ الطبیعة المنهی عنها إن کانت مبغوضة علیٰ نعت العموم المجموعیّ، فلابدّ من وجود القرینة.
[[page 104]]وإذا کانت مبغوضة علیٰ نعت صِرْف الوجود، فلابدّ أیضاً من قیام القرینة.
وإذا کانت مبغوضة علیٰ وجه یکون البغض ناشئاً من فساد فرد ما من الطبیعة، فلابدّ من توجیه النهی إلی الفرد وإلیٰ مصداق ما، بخلاف ما إذا کانت المبغوضیّة ناشئة عن فساد فی الطبیعة بما هی هی .
فاذن لابدّ من أحد أمرین: إمّا النهی علیٰ سبیل العموم الأفرادیّ، أو النهی علیٰ وجه تعلّق بنفس الطبیعة، وحیث إنّ الأوّل یحتاج إلیٰ مؤونة زائدة فیثبت الثانی، وهو الأولیٰ بالبلاغة فی الکلام والخطاب.
فإذا انزجر عن الطبیعة فی مورد، فلابدّ من الانزجار عنها فی المورد الآخر؛ لأنّ المفروض أنّ الطبیعة مورد البغض والفساد بما هی هی، لا المصداق الأوّل منها.
وإذا عصیٰ بالنسبة إلی المصداق الأوّل، فلابدّ من الامتثال بعد العصیان للغرض المذکور، فکون الطبیعة بما هی هی مورد الفساد والبغض، ینتج الامتثال ثانیاً وثالثاً سواء امتثل أوّلاً، أو عصیٰ، فتدبّر.
الثانی: أنّ الاختلاف المشاهد بین الأمر والنهی لیس من ناحیة المتعلّق؛ لما أنّه واحد: وهی الصلاة قبل أیّام الحیض، وفی أیّامها، بل إنّما ذلک من جهة خصوصیّة فی تعلّق الأمر والنهی به، وهذه الخصوصیّة هی أنّ المطلوب من الأمر بما أنّه إیجاد الطبیعة فی الخارج، فلایمکن أن یرید المولیٰ منه إیجادها بکلّ ما یمکن أن تنطبق علیه هذه الطبیعة؛ لفرض عدم تمکّن المکلّف منه کذلک، والمطلوب من النهی بما أنّه حرمان المکلّف، فلایمکن أن یراد منه حرمانه من بعض أفرادها؛ لفرض أنّه حاصل قهراً، والنهی عنه تحصیل للحاصل، فهذه الخصوصیّة أوجبت أن تکون [قضیّة] مقدّمات الحکمة فیه؛ هی کون المطلوب حرمان المکلّف من جمیع الأفراد.
[[page 105]]إذا تبیّن ذلک فاعلم: أنّ فی کلا التقریبین نظراً، ولاسیّما فی الثانی الذی هو للعلاّمة المعاصر ـ مدّظلّه :
أمّا الأوّل: فلأنّه فی جانب الأمر إذا تعلّق الأمر بالطبیعة، واستفدنا منه محبوبیّتها بما هی هی، فکلّ فرد منها ـ بما هو فرد لها، وتکون الطبیعة معه عین الطبیعة مع الفرد الأوّل ـ یکون هو مورد المحبوبیّة أیضاً، فللمولیٰ أن یؤاخذ العبد ب «أنّک عندما اطلعت علیٰ أنّ الطبیعة بما هی هی مورد الحبّ اللزومیّ، فلِمَ لم توجدها؟!» فلو صحّ جواب العبد هنا، لصحّ فی جانب النهی أیضاً إذا تخلّف عن الامتثال ثانیاً وثالثاً.
ولعمری، إنّ التقریب الذی أفدناه قابل للاعتماد علیه لحلّ المشکلة فی جانب النهی، ولکن یورث توجیه المعضلة إلیٰ جانب الأمر المفروغ عنه عند الأصحاب ـ رضوان الله تعالیٰ علیهم .
وبالجملة: لو کان محبوبه الفرد الأوّل منها لأقام القرینة، فمنه یعلم أنّ ماهو المحبوب نفس الطبیعة بما هی هی.
وبالجملة تحصّل: أنّ قضیّة مقدّمات الحکمة فی جانب النهی؛ هو أنّ الطبیعة تمام الموضوع للنهی، فإذن یعلم: أنّ الطبیعة من حیث هی هی تمام المبغوض، ولاشیء دخیل فی ذلک، ومن کونها تمام الموضوع للبغض یعلم: أنّ المفسدة الموجبة لبغضها، موجودة فی نفسها من حیث هی هی، فعلیه لایعقل الترخیص فی بعض أفرادها إلاّ علیٰ وجه یستکشف الخلاف.
وحیث إنّ المفروض عدم وجود الدلیل المرخّص، فکیف یعقل تجویز العقل ارتکابها فی مورد من الأفراد العرضیّة أو الطولیّة؟! ویحتجّ المولیٰ علی العبد: بأنّه لو کان المبغوض الفرد الأوّل، لما اُطلق الحکم علی الطبیعة، ولو کان الفساد فی فرد خاصّ منها لما کان یتعلّق بغضه بها، ولما نهیٰ عنها من حیث هی هی، فمن هذا
[[page 106]]المقام ـ وهو مقام الإثبات ـ یستکشف حدود البغض وحدود الفساد حسب دیدن العقلاء فی استکشاف المصالح والمفاسد بالضرورة، کما تقرّر فی الأمر، وفیما مضیٰ آنفاً فی هذه المسألة أیضاً.
وقضیّة صحّة هذا التقریب، عدم جواز الاکتفاء بالمرّة فی جانب الأمر أیضاً، وهو خلف.
اللهمّ إلاّ أن یقال: إنّ بناء العقلاء فی جانب الأمر علیٰ إفادة المحبوبیّة الاستیعابیّة بالنسبة إلیٰ جمیع الأفراد، وعلیٰ وجه تکون الطبیعة الساریة مطلوبة بأداة العموم، ولایکون الأمر کذلک فی جانب النهی، فتدبّر.
وأمّا الثانی: فإنّ المبغوض لو کان فرداً ما، فالنهی تحصیل للحاصل؛ لأنّ ترک هذا المبغوض حاصل بالضرورة، ولکن هل یستکشف من ذلک أنّ المبغوض هو عموم الأفراد، أم یستکشف منه أنّ المبغوض هو ترک الفرد الخاصّ؛ وهو ترک المبغوض عن انزجار وکفٍّ، فیکون هذا دلیلاً علی القول: بأنّ امتثال النهی بالانزجار والکفّ، حتّیٰ لایکون النهی تحصیلاً للحاصل، کما أفاده القائل بأنّ النهی طلب الکفّ؟! هذا أوّلاً.
وثانیاً: یتوجّه السؤال عن کیفیّة استعمال ألفاظ الطبیعة، فإنّها موضوعة لنفس الطبائع بما هی هی، وإذا اُرید منها الأفراد فلابدّ من الالتزام بالمجاز الضجیع القبیح، کما لایخفیٰ.
وتوهّم: أنّ مقدّمات الحکمة تفید السرایة، فی غیر محلّه؛ لما تقرّر من أنّها لاتورث أمراً خارجاً عن الوضع، ولاتورث المجازیّة، بل هی عند اجتماعها تفید أنّ ماهو متعلّق الحکم تمام الموضوع وتمام الغرض، وهو تمام المحبوب أو
[[page 107]]المبغوض، من غیر إفادة شیء آخر فی مقام الدلالة واللفظ.
ومن هنا یظهر ضعف بعض الوجوه الاُخر: من أنّه فی جانب الأمر تکون المصلحة قائمة بالفرد، وفی جانب النهی تکون المفسدة مستوعبة، فإنّه وإن کان الأمر کما حرّر ثبوتاً، ولکنّ الکلام فی مقام الإثبات؛ وأنّه کیف یمکن إفادة ذلک بمقدّمات الإطلاق من غیر لزوم المجازیّة والجزاف؟
وقد أفاد الاُستاذ البروجردیّ قدس سره وجهاً لایرجع إلی محصّل، إن لم یکن تکراراً لفهم العقلاء، فلاحظ ذلک.
[[page 108]]