ثامنها : حول مجعولیّة الصحّة والفساد وعدمها
من البحوث المشهورة حول الصحّة والفساد: أنّه هل هما مجعولتان وقابلتان للجعل استقلالاً وتبعاً مطلقاً، أم لا مطلقاً، أو یفصّل بین الصحّة العرفیّة والشرعیّة، أو بین العبادات والمعاملات، کما فی «الکفایة» أو بین الواقعیّة والظاهریّة، فلا تکونان مجعولین بالنسبة إلی الأحکام الواقعیّة؟ وأمّا الأحکام الظاهریّة علی القول بالإجزاء فلابدّ وأن تکونا فیها مجعولین.
وجوه، بل وأقوال.
[[page 327]]أقول : لا خیر فی إطالة الکلام حول المسألة بعد وضوحها؛ ضرورة أنّ الصحّة ـ کما عرفت ـ لیست من التبعات والعوارض الملحوظة فی نشأة تقدیر الشیء ونشأة الذهن، بل الطبائع فی هذه النشأة تعتبر مع قیود وخواصّ وآثار؛ علیٰ نعت قابلیّتها بالنسبة إلیها، وتلک القیود والتبعات إمّا مندرجة فی المقولات حقیقة، أو تکون اعتباراً من تلک المقولات، کما فی الطبائع الاعتباریّة والماهیّات العرفیّة والاختراعیّة.
وإذا صارت تلک الطبیعة ـ علیٰ ما کانت متقدّرة بالخصوصیّات ـ خارجیّةً وفی الأعیان، ینتزع منها الصحّة، وإلاّ فربّما ینتزع منها «المعیب» وربّما ینتزع منها عناوین «الباطل، والعاطل، والفاسد، والناقص» من غیر اندراج هذه العناوین تحت اللحاظ والاعتبار، فلاتنالها ید الجعل تکویناً، ولا تشریعاً.
نعم، یمکن أن تکون الطبیعة ذات عَرْض عریض بالنسبة إلیٰ حالات المکلّفین، فتکون ذات أجزاء وشروط تتراوح بین العشرة إلی العشرین، فیکون ینتزع الصحّة منها فی فرض دون فرض، من غیر إمکان انتزاع الصحّة من الطبیعة الناقصة بعد کونها متقدّرة بالأجزاء البالغة إلی العشرین مثلاً بالضرورة.
نعم، للشرع صرف النظر عن أمره وتکلیفه، وأن لایوجب الإعادة ولا القضاء، ولکنّه لیس جعل الصحّة للمأتیّ به إلاّ ادعاءً؛ بداعی انتقال المکلّف إلیٰ عدم التزامه بتکلیفه، وإلاّ فمع التزامه بالتکلیف التامّ لایعقل اعتبار الصحّة والاجتزاء بالناقص، کما هو الواضح، وقد نصّ علیه السیّد الوالد المحقّق ـ مدّظلّه فلیلاحظ جیّداً.
نعم، یتوجّه إلیه ـ مدّظلّه : أنّه ظنّ حسب ما اعتقده فیما سلف «أنّ وجه امتناع جعلهما أنّ الصحّة والفساد من أوصاف الفرد الموجود من الماهیّة المخترعة،
[[page 328]]المنتزعتان من المطابقة واللامطابقة» انتهیٰ.
وفیه ما عرفت : من أنّ الصحّة تعرض الماهیّة الکلّیة أیضاً، ولایکون منشأ الانتزاع التطابق واللاتطابق، بل منشأ الانتزاع تحقّق الطبیعة علیٰ قدرها المتعیّن فی النشأة العلمیّة فیالخارج وفیالأعیان؛ ضرورة أنّ الطبیعیّ بنفسه موجود فیالخارج لابمنشئه، من غیر فرق بین الطبائع الأصلیّة والاعتباریّة، فلا معنیٰ لمفهوم المطابقة واللامطابقة المعروف فی کلماتهم صدراً وذیلاً، کما مرّ بتفصیل لا مزید علیه.
إن قلت : إنّا نری بالوجدان أنّ الشرع یعتبر بعض المعاملات صحیحة، وبعضها فاسدة ولو بالإمضاء والردع، ولا نعنی بجعل الصحّة والفساد إلاّ ذلک.
وبعبارة اُخریٰ : نجد بالوجدان صحّة قول الشرع فی القوانین الشرعیّة وقول العرف فی القوانین العرفیّة: «بأنّ معاملة کذا باطلة عندی وفاسدة لدینا» أو یصحّ فی الارتکاز أن یقال: «جعلت بیع الخمر فاسداً، وجعلت بیع کذا صحیحاً» فلو کان ذلک من الممتنعات لما کان یستحسن ذلک عند العقل والعرف.
قلت أوّلاً : تجری هذه الشبهة فی العبادات أیضاً، ویصحّ التعبیر المزبور فیها حذواًبحذوٍ، فیقال: «إنّ عبادة الأوثان فاسدة عندی، وعبادة الله تعالیٰ صحیحة لدینا».
وثانیاً : إنّ هذه الشبهة لیست إلاّ ناشئة عن المسامحة فی الإطلاقات العرفیّة والاستعمالات البدویّة.
والذی هو الحقّ : أنّه فی قولنا: «بیع کذا صحیح» لیس إلاّ إخباراً عن واجدیّة البیع لما یعتبر فی نفوذه وسببیّته للمسبّب المترقب منه، أو واجدیّته لما هو المعتبر
[[page 329]]فی موضوعیّته لحکم العقلاء بالنقل والانتقال، من غیر جعل الصحّة له بدون اعتبار منشئها، ومع اعتبار منشأ الصحّة لامعنیٰ لجعلها؛ لأنّه یصیر من قبیل جعل المجعول.
وهکذا إذا قلنا : «إنّ بیع الخمر فاسد» فإنّه لیس إلاّ بعد لحاظ قید فی المبیع؛ وهو أنّه یعتبر أن لایکون المبیع خمراً، فإذا کان کذلک فـ «بیع الخمر فاسد» لیس إلاّ إخباراً، ولایکون إنشاءً. وإذا صحّ قولنا: «جعلت بیع الخمر فاسداً» فهو لیس من قبیل جعل الفساد علی البیع الجامع للشرائط؛ لأنّه من اللغو، بل هو یرجع إلیٰ إفادة اشتراط کون المبیع غیر خمر.
فبالجملة : جعل البیع أو العبادة الکذائیة فاسداً من المجازفة، إلاّ برجوعه إلی اعتبار قید فی صحّة البیع، وبعد رجوعه إلیٰ ذلک لا معنیٰ للجعل ثانیاً؛ لأنّه یصیر أیضاً لغواً وجزافاً.
وإن شئت قلت : کما قد تکون الجمل الخبریّة فی موقف الإنشاء، کذلک قد تکون الجمل الإنشائیّة فی موقف الإخبار، فإذا قیل: «جعلت صلاة الفاقد صحیحة» فهو إخبار عن أنّ الصلاة بالنسبة إلی الفاقد ذات تسعة أجزاء، وإذا قیل: «جعلت البیع الربویّ فاسداً» فهو إخبار بأنّ من القیود المعتبرة فی نفوذ البیع عندی کونه غیر ربویّ وهکذا.
فلاینبغی الخلط بین مدالیل الجمل، کما لاینبغی الإصغاء إلی الجمل المزبورة فی محیط العرف، بعد عدم مساعدة البرهان علیٰ مفاهیمها المطابقیّة، وقیام الدلیل عقلاً علی امتناع سریان الجعل إلی الصحّة والفساد؛ بسیطاً کان، أو مرکّباً.
[[page 330]]